جمهور كركوكلي
البائع الغريب وقصيدة البردة
في صَبيحةِ كل يَوم وحِينَ تَدّبُ الحركةُ في السوقِ وتَرتفع نِداءات الباعةِ ، كُنا نَراهُ يتأبطُ كيسَهُ المَملوء بِعلبِ ( الكبريت ) وهو يَمشي بروّية وهدوءٍ وبخطىً متقاربة كأنّما يتلّمس الارضَ بقدميه ، وبَين الحِين والآخر يتوّقف ، ويُطلق ندائَه المَعهود : جهنم آتاشي ... جهنم آتاشي ...
مرّوجاً لبضاعتهِ التي يُشبّهها بنارِ جهنّم ، ثُم يُعاود السير وهو يقرأ ابياتاً من قصيدة (البُردة )* ، التي كان يَحفظ ابياتَها المائة والستين عن ظهرِ قَلب ، ويتلُوها بصوتهِ المُبحوح ، في حَلّه وتِرحاله
لَم نَكن نعرِف عن ذلكَ الشيخِ الذي جَاوزَ السبعين ، سِوى أنه واحدٌ من أهلِ الله ، شارك في حربِ ( چناق قلعه ) وأصيبَ بِطلقٍ ناريٍ في ساقه ، يُحبّه الجميعُ ويُوقِّره ، ويتمّنى التقّربَ إليه والحديثَ معه ، وأكثرُ المارةِ والباعة في السوقِ يشترون، منه عُلب الكِبريتِ ، لا لِحاجتِهم إلى ( الشخاط ) بل حباً لِلقائِه والحديثِ مَعه ، وهو المُقّل في الكلام ، لا يتفوّه إلا شعراً او كلاماً يُشبه الشِعرَ ، وإذا تكّلم ، تكّلم عن حكمةٍ بالغةٍ ، أو طُرفةٍ ظاهرها كلامٌ عادي ، وباطُنها نقدٌ قاس للواقعِ السياسيِ السائدِ أيامذاك .
حِينَ يؤذن المؤذّنُ للصلاةِ ، يترك كيسَه في بابِ الجامع ، ويدخل مع المُصلّين ، وحِين يفرغ مِن أداءِ الصلاةِ ، يخرج وهو يهمسُ بالدُعاءِ والذِكر ، ذاتَ يوم ، دنوتُ مِنه وهو خارج مِن الجامع كالعادة ، وتبِعتُه فسمِعتهُ يقرأ أبياتَ ( البوصيري) :
والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى حُبِّ الرّضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِــمِ
فاصْرِف هواهــا وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ إنَّ الهوى مـا تَـوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
وراعِهَـا وهْيَ في الأعمال سـائِمَةٌ وإنْ هِيَ إستَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِـمِ
كَـم حسَّــنَتْ لَـذَّةً للمرءِ قاتِلَةً مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَـمِ
واخْشَ الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِن شِبَعٍ فَرُبَّ مخمَصَةٍ شَـــرٌّ مِنَ التُّـخَمِ
واستَفرِغِ الدمعَ مِن عينٍ قَـدِ إمْتَلأتْ
مِن المَحَـارِمِ والْزَمْ حِميَـةَ َالنَّـدَمِ
وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِـمَا
وإنْ همـا مَحَّضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـمِ
فلا تُطِعْ منهما خصمَا ولا حكَمَا
فأنت تعرفُ كيـدَ الخَصمِ والحَكَـمِ
أقسِمُ باللهِ العظيمِ أنني لَمْ أشعر بالراحة ِالنفسية ِإلى يومِ الناسِ هذا ، كما شعرتُ بِها في ذلك اليوم ، وأنا أتبع خُطواتِ الشيخ السَبعيني ( سيد موسى ) وأستمعُ إليه وهو يقرأ تلكَ الابياتِ الشعرية في مَدح الرسولِ عليهِ الصلاة ُوالسلام ُ ، رَغم أني قرأتُ القصيدةَ المذكورة عَشرات المرّات وسَمِعتُها مِن المُنشدين والمُقرئين عَشرات المراتِ مثلها .!
عَشِية وفاتهِ ، وهو عائدُ الى البيت بعد جَولتهِ اليومية ، وقفَ مُنتصباً وسطَ السوقِ ، ونادى بأعلى صَوته مُشيرً إلى عُلب الكِبريت : جهنم اتاشي …. جهنم أتاشي …بوگون الن … يارن قالماز … اي ( هيا اشتروا اليوم لأنه سينفد في الغد ولن تجدوه )
في ُضحى اليومِ التالي ، حينَ تأّخر عن مَوعدِ خروجهِ الى السوق ، دخلوا إلى بيتهِ بعدما كسروا البابَ،فوجدوهُ مُسجى على فراشهِ وقدْ فارقَ الحياة َ،وإبتسامة رِضا مَرسومة على وجههِ ، كأنه تلقّى للتّو خبراً ساراً ...!
رَحِم اللهُ تعالى الشيخَ الجليل ( سيد موسى ) الذي كانَ إذا سُئِلَ عن حال ِالدنيا ، يُجيب على الفور : بالغ باشتان قوخار ( السَمكة تُفسد من رأسها ) عازياً بذلك الفسادَ المُستشري بين الناسِ الى فسادِ أولي الامر والقائمين على البلاد ...!
1724 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع