الدكتور مهند العزاوي*
رمال الإرهاب المتحركة
تعد القوة سمة كل العصور وأحد عناصر التحولات الهامة في السياسية الدولية , وتختلف اشكالها من جيل لأخر ومن عصر لأخر حسب طبيعة الصراعات وحيازة القوة وتنوع الازمات وتعقيداتها , يؤكد الخبراء ان القوة هي العامل الأساسي للديمومة والتفوق والتأثير , وهناك حكمة واقعية تقول ( من لم تكن لديه القدرة الذاتية للدفاع عن نفسه سوف لن يكون هناك من يحتل موقعه للدفاع عنه) ونشهد اليوم عودة القطبين الولايات المتحدة الامريكية وروسيا الاتحادية في اشتباك وتفاعل القوة الدولية , مما ترك اثر معقد في الواقع السياسي الدولي فضلا عن وجود قوى أخرى فاعلة تختلف نسبيا في موازين القوى والتأثير , ونلاحظ اشتباك القطبين في مواقع ورقع استراتيجية متعددة وتتقاطع نسبيا في مواقع أخرى وفقا للمنهجية الواقعية في مسارح الاشتباك, لاسيما ان الشرق الأوسط هو المجال الحيوي الدولي المتنافس عليه من كلا القطبين باستخدام كافة اشكال القوة ومزجها لتحقيق الأهداف الحيوية والاستراتيجية لكلا الطرفين, مما يوحي للمتتبع والمحلل السياسي اننا امام "حرب القطبين الدافئة" التي تفوقت في الأساليب على عناصر الحرب الباردة وتخطت سياق الحرب النظامية باستخدام القوات الجيوش وتحديد الأهداف الثابتة ولعل من ابرز ظواهرها الحربية ( الحرب المركبة ) [1] وسبق ان كتبنا عنها منذ عام 2014 وحتى اليوم وقد اطلق عليها الامريكان (الحرب الهجينة) عام 2017 لتوصيف هذه الظاهرة الحربية المتنامية والمتوغلة في الشرق الأوسط وتحديد العالم العربي الذي اصبح المسرح الرئيسي لهذه الحرب .
تعريف القوة
يعرف علم الاجتماع القوة "بالقدرة على إحداث أمر معين" و"تأثير فرد أو جماعة عن طريق ما على سلوك الآخرين"، يعتبر موضوع القوة من المواضيع التي يهتم بها علم الجغرافية السياسية والعلاقات الدولية , يقول "رأي كارل فريدريك" إن أفضل تعريف للقوة هي القدرة على إنشاء علاقة تبعية فعند القول أن لإنسان ما قوة سياسية تفوق قوى الآخرين، فهذا يعني أن الآخرين يتبعون نظام أفضلياته، والقوة ليست مجرد التسلط ولكنها تتضمن أيضاً القدرة على الاستمالة والنفوذ لدى الآخرين، ويرى أنه بالاسـتخدام الماهر والذكي للقوة يمكن للطـرف (أ) أن يجعل الطـرف (ب) يفعل ما يريد دون قهـر أو إرغام , بمعنى يمكن تحويل القهـر إلى إتفاق وتزامن كنفـوذ جماعات الضـغط في المجتمعات المتحضرة , ويرى "سبيكمان" أن القوة تعني البقاء على قيد الحياة والقدرة على فرض إرادة الشخص على الآخرين والمقدرة على إملاء هذه الإرادة على أولئك الذين لا قوة لهم وإمكانية إجبار الآخرين ذوي القوة الأقل على تقديم تنازلات , ويرى كل من "ميكافيلي " على أن القوة هي الوسيلة والغاية النهاية التي تعمل الدولة للوصول إليها في مجال العلاقات الدولية.[2], ومن خلال متابعة تطور وتنامي القوة والقدرة فان من الواضح ان القوة جوهر الصراع في إدارة التأثير وتبحث عن تجريد الخصوم من القوة او استنزافها حتى الانهاك بغية سيادة القوة لطرف ما
رمال الإرهاب المتحركة
اضحى الإرهاب بكافة اشكاله وسيلة حيوية يجري توظيفها لدواعي سياسية واقتصادية عالمية وإقليمية واحيانا محلية , لاسيما بعد صناعة وتوغل تنظيم داعش الإرهابي الى العمق العراق انطلاقا من الأراضي السورية عام 2014 وسيطرته المثيرة للجدل على ثلث مساحة العراق وسوريا , وعند النظر الى الأهمية الاستراتيجية لكل من شمال وغرب العراق تتضح الصورة كثيرا ويمكننا التأكد ان سوق الإرهاب العالمي و المحلي اصبح يجتذب إرهابيو العالم والعاطلين وذوي السوابق بالتعاون مع عصابات الجريمة المنظمة غايته إعادة رسم خارطة التأثير السياسي الدولي والإقليمي , من خلال الجماعات الفاعلة الغير الحكومية المسيرة عن بعد لتحقق التواجد الاقتصادي ونفوذ القوة اللانظامية مع تغيب دور الدولة ونطاق صلاحيتها , لاسيما ان ظاهرة الإرهاب قد تمددت وبشكل واضح لكافة دول العالم الا بعض الدولة المتحكمة بخيوط (لعبة الإرهاب) , فضلا عن خبرة عدد من الدول في صناعة التنظيمات الإرهابية وتوظيفها , كما يبدوا ان منسوب الإرهاب يرتفع وينخفض نظرا لشكل التفاهمات وطبيعة الخلافات بين الدول , ونظرا لاستنزاف وانهاك القوة في دول التأثير والامتداد المتوسطي فان الحل في القضاء على الإرهاب يعد غائبا.
الفوضى المسلحة والكيان الموازي
اتسعت الفوضى في الشرق الأوسط بعد غزو العراق 2003 واتخذت اشكال متعددة ولعل من ابرز مخرجاتها ظواهر ( الدول الفاشلة – الكيانات المسلحة الموازية - تغيير الخرائط السياسية والتمدد والنفوذ العسكري والسياسي الإقليمي – تعاظم نشاط الجريمة المنظمة – الاقتصاد الأسود الغير قانوني – عولمة الإرهاب – الفساد الشامل – اندثار الحقوق والحريات الإنسانية – ازدهار تجارة السلاح بكافة انواعه – انهاك المجتمعات – القتل خارج القانون – التعذيب والسجون والانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان ) ومن الملفت للنظر ان هذه الظواهر أضحت سمة معاصرة تتعايش معها الدول الكبرى والدول الفاعلة والمنظمات الأممية وترسخ أدوارها وفقا للواقعية السياسية والحربية , دون الاخذ بنظر الاعتبار التهديدات الاستراتيجية والمخاطر النازفة , كما ان الظاهرة تتمدد وتتطور وتقضم حدود ايقافها , اذن نحن امام حزمة ظواهر نازفة ومتجانسة وتتخادم مع بعضها لترسخ واقع الفوضى المسلحة والدول الفاشلة التي تستنزفها ظاهرة الإرهاب والكيانات المسلحة الفاعلة الغير حكومية التي بدروها تغذي كافة الظواهر التي سبق ذكرها أعلاه .
بالرغم ان المدرسة الواقعية هي الحاكمة الا ان المدرسة المثالية هي من تملك الحلول في معالجة الفوضى ومخرجاتها من الظواهر السلبية التي تستنزف الدول والمجتمعات، وفي ظل التحولات السياسية والحربية والاقتصادية يستمر الواقع السياسي الدولي والإقليمي في هذا الاطار الفوضوي اذ يغيب أفق الحلول والمعالجات ويسود منطق المصالح والمنافع.
*خبير استراتيجي
السبت، 24 تشرين الثاني، 2018
[1] . انظر مهند العزاوي , ظاهرة الحرب المركبة , موقع مركز صقر للدراسات والبحوث الاستراتيجية , قسم الاستراتيجيات العسكرية وفن الحرب , 2015, http://saqrcenter.net/?p=214
[2] . هيئة البحوث العسكرية ، حساب القوة الشاملة ، القاهرة ، إدارة المطبوعات والنشر للقوات المسلحة، 1990م , صفحة علوم سياسية وعلاقات دولية
604 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع