بقلم المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
الإرهاب وأخطره إرهاب السلطة
يذكرني حادث اغتيال الصحفي السعودي (جمال خاشقجي) بحادث مماثل من حيث مسؤولية السلطة في الإعداد والتنفيذ وقع في مدينة أربيل في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي سأرويه لكم فيما بعد, بعد أن اتحدث واذكر لكم شيئاً عن الجريمة الغبية التي قام بها نفر متخصص في كافة مجالات الطب الشرعي والجنائي والأمني للحكومة السعودية قدم إلى مدينة إسطنبول التركية واستقروا في القنصلية السعودية فيها وهم يحملون معهم خطة مسبقة ومتكاملة مع أدواتها من أجل استدراج الصحفي (جمال خاشقجي) إليها واقناعه بالعودة إلى المملكة العربية السعودية بعد أن وضعوا في حساباتهم كل الاحتمالات التي تجابههم عند تنفيذهم لخطتهم الاجرامية وتطوراتها وهم عند وضعهم لهذه الخطة جاهلين قدرة الله سبحانه وتعالى في كشف نواياهم السيئة وملابسات التحقيق في الحادث ومهما اتسموا به من قدرة وكفاءة في هذا المجال ومتناسين من أنه لا توجد جريمة كاملة لا يمكن كشفها عندما يكون المحققون فيها بدرجة عالية من الكفاءة والخبرة والجريمة التي نحن بصددها لا تحتاج في متابعتها وكشفها إلى كثير من الجهد لوجود العديد من الأدلة الثبوتية الفنية الواضحة التي تكشف هذا المخطط الإجرامي أولها ما رصدته كاميرا المراقبة في لقطة واضحة عندما يدخل الصحفي السعودي (جمال خاشقجي) قنصلية بلاده في إسطنبول بتاريخ 2 تشرين الأول 2018 لاستخراج أوراق رسمية تخص وضعه الأسري بعد أن قدم من الولايات المتحدة الأمريكية المقيم فيها لهذا الغرض واستغلال الفريق المكلف بمتابعة (خاشقجي) لهذه الفرصة في تنفيذ مخططها المتفق عليه من أعلى المستويات في الحكومة السعودية.
الكاتب السعودي جمال خاشقجي
لقد انقطعت أخبار المجني عليه بعد دخوله قنصلية بلاده ولم تستطع الحكومة السعودية الخلاص من هذا المأزق من خلال عدم تمكنها من إثبات خروجه منها بالرغم من قيام أحد الجناة داخل القنصلية السعودية في ارتداء ملابس الضحية وتصويره عند خروجه من باب القنصلية للإيهام في كونه قد خرج منها وانقطعت أخباره...
الدليل الآخر المهم والذي كشف ملابسات هذه الجريمة وتفاصيل تنفيذها من قبل المجموعة المكلفة بهذا العمل الإجرامي هي التسجيلات الصوتية المتوفرة لدى السلطات التركية والتي تكشف مراحل تنفيذ هذا المخطط منذ بدايته وقبل وصول (خاشقجي) إلى بناية القنصلية وتوزيع المهام على الفريق المكلف بتنفيذها...
مجموعة البيانات والتقارير والتصريحات التي أصدرتها الحكومة السعودية منذ وقوع الجريمة اتسمت بالتخبط والتناقض وعدم الوضوح والشفافية والشيء الذي يراودني في ذهني في هذا المجال هو عدة استفسارات وأسئلة تخص المجني عليه عن سبب قدومه من الولايات المتحدة الأمريكية (واشنطن) لمراجعة قنصلية بلاده في إسطنبول وعدم مراجعته للقنصلية المماثلة في البلاد التي قدم منها لاسيما عندما نجزم بأنه لم يكن مطمئناً من هذه المراجعة عندما أحاط خطيبته بها والتي أصبحت شاهداً لتوثيق هذا الحدث بعد تأخره في العودة إليها.
مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول
أما عن الاستفسارات التي تجول في خلدي... ألم يكن في وسع السلطات السعودية المكلفة بهذا الملف أن تطلب من العصابات الإجرامية في هذه المدينة الكبيرة الواسعة تكليفها بتنفيذ هذا المخطط لقاء مبالغ مالية والأحسن من هذا التفكير الإجرامي نسأل ألم يكن في وسع ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) عندما يكون متواجداً في الولايات المتحدة الأمريكية أن يتصل بـ (خاشقجي) ويسلم عليه ويطلب منه تحقيق لقاء بينهما على مائدة غداء أو عشاء لاسيما وهو سليل هذه العائلة العريقة من أجل حل كافة الأمور العالقة والخلافات المؤشرة ودياً دون اللجوء إلى هذه الطريقة الوحشية المجافية لأبسط الحقوق الإنسانية والقانونية, المتمثلة في طلب عودته إلى بلاده ودياً ورضائياً وإجباره قسراً في حالة رفضه ذلك وهذا ما حصل فعلاً حينما تم توثيقه والسيطرة عليه وتخديره ووفاته على حسب الروايات السعودية والأسوأ في الحلقة الأخيرة من هذا المخطط هو تجزئة جثة المغدور بمنشار كهربائي كان في حوزة فريق تنفيذ الجريمة إلى قطع وإخراجها في صناديق من بناية القنصلية وتسليمها إلى متعهد محلي (تركي)...
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان
لا نجانب الصواب عندما نقول بأن كافة تفاصيل هذه الجريمة المروعة والمنفذة من قبل رجال على علاقة وصلة بالسلطة الحكومية في قنصلية بلادهم بانت واضحة وينقصها فقط الكشف عن المسؤول عن قرار قتل (خاشقجي) ومكان إخفاء جثته.
والآن نعود للحديث عن بداية ما صرحنا به من وجود جريمة مماثلة حصلت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في يوم شتاء وكنت مكلفاً بواجب ضابط خفر مديرية شرطة محافظة أربيل وكانت الساعة قبل السادسة من مساء ذلك اليوم، حيث جاءني اتصال هاتفي من ضابط سيطرة النجدة يعلمني بتعرض شخصين لهجوم مسلح أدى إلى قتل أحدهما وإصابة الآخر في منطقة (شيخ الله) والتي تقع في مركز محافظة أربيل وكانت حينذاك مشغولة من قبل محلات مصلحي السيارات وبائعي أدواتها، اما فيما بعد فقد تحولت إلى منطقة تجارية عامة وكان الظلام على وشك أن يرخي سدوله على المنطقة وقطرات المطر الخفيفة تنزل من السماء والمنطقة وأزقتها تخلو من المارة بسبب الوقت وغلق أصحاب المحلات لمحلاتهم وانصرافهم، وبعد أن وصلت مكان الحادث (مسرح الجريمة) هالني ما شاهدت من منظر مؤلم في أحد أزقة المنطقة المذكورة، رجل كبير في السن جالس في منتصف أرضية الزقاق وهو يحتضن شاباً قد فارق الحياة، دماء الاثنين على أرضية الزقاق وقد اختلط مع مياه الأمطار، تذكرت على الفور نصيحة الدكتور (عبد الستار الجميلي) أستاذ مادة التحقيق الجنائي في وجوب الإسراع في تدوين افادة المجني عليه المحتضر قبل وفاته وضياع معالم الجريمة، حيث كان الرجل مصاباً بعدة اطلاقات نارية في مختلف انحاء جسمه وبادرته على الفور ... بسؤال ... من أطلق النار عليكما؟
بادرني قائلاً: ((لقد قام كل من (ح.ح) و(ك.و) بإطلاق النار علينا))
سوق شيخ الله في وسط مدينة أربيل في الوقت الحاضر
قمت بإجراء كشف ومخطط لمحل الحادث ونقلت المصاب وولده المقتول بسيارة الشرطة إلى المستشفى وفي الطريق أكملت حديثي مع الرجل وتدوين إفادته عن بقية تفاصيل الحادث حيث أفادني بما يلي: - (( أنا (غ.ف) من سكنة قضاء (.....) تم تبليغي يوم أمس من قبل ضابط أمن القضاء بوجوب مراجعتي لمديرية أمن بلدة أربيل والتي تقع في مركز المحافظة))
وأضاف قائلاً: ((وعصر هذا اليوم في تمام الساعة الرابعة راجعت المديرية المذكورة يصحبني ولدي الشاب (ك.غ) والبالغ من العمر واحد وعشرون عاماً وبعد الانتظار فترة زمنية تقارب النصف ساعة أدخلونا على مدير الدائرة المذكورة حيث رحب بنا وجاملنا وقام بواجب الضيافة والاستفسار عن حالنا وظروفنا وفيما إذا كنت محتاجاً لأية مساعدة، وفي الختام شكرته على اهتمامه بنا وحسن استقباله لنا وذكرت له بأنني والحمد لله ميسور الحال ولست بحاجة لأي شيء... نهضنا مودعين من قبله وكانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف وبعد خروجنا تفاجئنا بالشخصين كل من (ح.ح) و (ك.و) واقفين فب باب الدائرة المذكورة وهما من نفس منطقتنا....))
اتوقف عن ذكر ما أفاد به الرجل المصاب وأنا انقله إلى المستشفى حيث لاحظت تدني وضعه الصحي وأصبح يتكلم بصعوبة وهو يتحدث لي عن بقية مجريات ما تعرض له مع ولده، حيث أضاف: ((بعد السلام استفسرا مني عن سبب وجودي في هذا المكان فذكرت لهما بأنني حضرت بناء على طلبهم ولدى استفسار أحدهما مني عن وجهتي التي أقصدها ذكرت لهما بأنه في نيتي التوجه إلى دار أحد أقربائي فما كان منهما إلا ان يعرضا علينا ايصالنا إلى المكان الذي نقصده بسيارتهما.
وفعلاً ركبنا في الحوض الخلفي من السيارة الصالون وتحركا إلا أن وصلا إلى هذا الزقاق الخالي من المارة وحيث توقفت السيارة عن السير ونزل الاثنان منها وطلبا منا النزول أيضا ودفع السيارة من الخلف بحجة كون محركها قد توقف عن العمل وفور بدأنا بتنفيذ ما طلباه منا لم نشعر بهما إلا وهما يقومان بفتح النار علينا من أسلحة الكلاشنكوف التي كانا يحملانها معهما وبعد سقوطنا على الأرض استقلا السيارة وتركا محل الحادث))
ما إن وصلنا رحبة المستشفى – قسم الطوارئ حيث تم إنزال الرجل المصاب من السيارة وإدخاله لغرض العلاج إلا أنه فارق الحياة من شدة إصابته.
المعلومات التي حصلنا عليها من المصاب المحتضر قبل وفاته كانت كافية لكي نبدأ في الإجراءات التحقيقية ومداهمة محل سكن الأول حيث لم يكن متواجداً فيه وبعد تفتيشه لم نعثر سوى على بعض الأوراق والمستمسكات والصور والتي تم التحفظ عليها ونقلها إلى الدائرة لغرض الاستفادة منها في التحقيق.
وهنا لا بد لي من الحديث عن الاهتمام الكبير الذي توليه دوائر الشرطة لجرائم السرقات التي تحصل في مدينة معنية وخاصة عندما تأخذ شكل ظاهرة متكررة أكثر من الاهتمام الذي توليه لجرائم القتل بسبب صعوبة تحديد الجاني في جرائم السرقات لكون السارق يختار الهدف الذي ينوي تنفيذ نشاطه الإجرامي فيه بناء على المعلومات التي يحصل عليها عن هذا الهدف من حيث إمكانياته المادية والطرق الكفيلة بتحقيق مآربه دون اشتراط وجود أي نوع من أنواع العلاقة بينه وبين من يكون هدفاً لنشاط السارق في أغلب الأحيان، أمام جرائم القتول ففي أغلبها يصار إلى تحديد الجاني من خلال الوقوف على الخلافات في العلاقات الاجتماعية والمصالح والخلافات المالية...
وفي الجريمة المارة الذكر كان لإسراعي في تدوين إفادة المجني عليه والحصول على المعلومات عن الجريمة سبباً في كشفها وعدم ضياع وتحديد من قام بارتكابها لعدم وجود أي علاقة أو خلاف أو سبب يدفعهما لارتكاب هذه الجريمة البشعة.
في ذلك اليوم وفي تمام الساعة العاشرة والنصف اتصل بي هاتفياً (ح.ح) وبعد السلام استفسر مني عن الوضع في مدينة أربيل أجبتنه على الفور: ((أخي لماذا ارتكبت هذه الجريمة))
أجابني على الفور ضاحكاً: ((لا تهتم بهذا الأمر أنا في بغداد وأرجو منك الحفاظ على الأوراق والصور التي بحوزتك وسوف أعود بعد أيام وأشرح لك الموضوع))
فعلا عاد المذكور بعد خمسة عشر يوماً وراجعني في الدائرة وهو يحمل بيده مظروفاً وبعد جلوسه ناولني إياه وبعد فتحه وقراءة الكتاب الذي يحويه وفحواه قرار من مجلس قيادة الثورة يقضي بإيقاف التعقيبات القانونية بحق كل من (ح.ح) و (ك.و) ولدى استفساري منه عن سبب قيامه بقتل المذكورين أفاد بأنه نفذ ذلك بناء على طلب دائرة الأمن والتي كان يعمل لديها متعاوناً وحسب ادعائه لكون المجنى عليه (غ.ف) كان مطلوباً لدى السلطات العراقية بتهمة مشاركته في الحرب عام 1974 بين الحكومة العراقية وقوات الثورة الكردية والذي كان مقاتلاً في صفوفها وشمله العفو العام الذي أصدرته الحكومة العراقية بعد نهاية الحرب في عام 1975 إلا أنها (الحكومة العراقية) قامت بقتله رغم ذلك.
نعود لنذكر بعنوان مقالنا هذا ونؤكد على خطورة الجرائم الإرهابية عامة وخطورتها عندما تنفذ من قبل السلطات الرسمية في الدولة بسبب كون السلطة هي من يحتمي بها المواطن عندما يشعر بالخطر على حياته، فكيف الحال عندما تكون السلطة هي القائمة بتهديد حياة الإنسان والقضاء عليه وهي صاحبة الإمكانيات والغطاء القانوني كما ورد في المثالين السابقين.
في نهاية مقالي عن هذا الجانب المهم من قضايا الإرهاب، أرجو أن ينال رضا قراءي الأعزاء متمنياً لهم الصحة والسلامة ودوام الفائدة ومن الله التوفيق.
846 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع