لهب عبد الوهاب
مراجعة كتاب
كتاب الامير عبدالاله، صورة قلمية، بقلم عطا عبدالوهاب*، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دار الفارس، عمان ٢٠١٧، الطبعة الثانية الموسعة . عدد الصفحات : 133 من القطع الصغير
عرض له :نجله لهب عطا عبدالوهاب في ندوة الثلاثاء، ٢٧/٦/٢٠١٧
ملاحظة : تبوء المؤلف عطا عبدالوهاب منصب أول سفير للعراق لدى الأردن بعد تغيير النظام (2004-2006) كما شغل منصب عضو مجلس الحكم المناوب عن العضو الأصيل الدكتور عدنان الباجةجي.
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته والموسوم “ الامير عبدالاله، صورة قلمية” سبقته مجموعة من الكتب عن الموضوع ذاته منها : -
١. الامير عبدالاله: ١٩٣٩/ ١٩٥٨ لمؤلفه د.عبدالهادي الخماسي، وهو بالاصل اطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، عمان ٢٠٠١
٢. الاميرعبدالاله شهيدا في العراق لمؤلفه صفوت فاهم كامل، عمان ٢٠١٦
٣. الامير عبدالاله لمؤلفه د. غزوان غناوي، عمان ٢٠١٧.
والكتب الثلاثة اعلاه اعتمدت صيغة البحث استنادا الى المراجع المتاحة ومذكرات الساسة العراقيين والمقابلات الشخصيه . بخلاف الكتاب الذي نحن بصدده الذي اعتمد على تجربة المؤلف كما خبرها هو شخصيا عند عمله في البلاط الملكي سكرتيرا خاصا للملك والامير خلال الفترة ١٩٥٧/١٩٥٨. وتتجلى في طيات الكتاب صورة قلمية للامير عبدالاله كما رآها المؤلف خلال عمله بمعيتهم ومن خلال التماس المباشر بالعائلة الهاشمية المالكة وبالتالي فهو يقدم تحليل دقيق لشخصية الامير عارضا الجوانب الانسانية في سلوكه التي قد تخفى عن الكثيرين، كما يرصد ردود افعاله العفوية تجاه الاشخاص والاحداث اليومية.
١. تعامل الوصي على العرش مع احداث مايس ١٩٤١
تعد حركة مايس والمعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني مفصلية في تاريخ الامير سواء من حيث تعامله معها او من حيث التنائج التي افضت اليها، ونعرض هنا بشكل مختصرحركة الكيلاني وكيفية تعامل الوصي ازاءها:
احداث مايس ١٩٤١ ,و المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، هي الحركة التي اطلق شرارتها رهط من الضباط المغامرين، العقداء الاربعة والمشار اليهم كذلك بـ “المربع الذهبي” وهم صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمد سلمان وكامل شبيب، حيث تمكنوا من اسقاط الحكومة الشرعية التي كان يراسها الفريق طه الهاشمي واجبار اعضاءها واركان النظام على الهروب الى البصرة (الامير عبدالاله، نوري السعيد، جميل المدفعي ...الخ) واعلان ما يعرف بـ “حكومة الانقاذ الوطني” برئاسة الكيلاني . كانت من اولى الخطوات التي اتخذتها دعوة مجلس الامة (البرلمان) للانعقاد، حيث صوت المجلس بالاجماع على اقالة الوصي على العرش وتنصيب الشريف شرف (والد رئيس الوزراء الاردني لاحقا الشريف عبدالحميد شرف المتوفي عام ١٩٨٠) وصيا على العرش مكانه.
لاقت الحركة الوطنية قبولا شعبيا عارما باعتبارها حركة مناؤة للانكليز دون ادراك لتداعياتها الخطيرة.
كانت اتون الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ـ ١٩٤٥) ما تزال اوارها مشتعلة على كافة جبهات القتال. انحاز زعماء الحركة لالمانيا الهتلرية ـ دول المحور ـ في ظنهم ان المانيا النازية التي دغدغت مشاعر العرب باعلانها الوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني في مطالبه المشروعة بوطن بعد استقبالها بحفاوة بالغة لمفتي القدس الشيخ امين الحسيني ـ وهولاعب فاعل في حركة الكيلاني ـ هي في طريقها لتحقيق النصر المؤزر على “الحلفاء” بعد ان غزت المانيا روسيا في حزيران ١٩٤١.
الا ان حسابات “الحقل” لم تتطابق مع حسابات “البيدر” بإنتصار الحلفاء الكاسح في نهاية المطاف.
تحفظت الحركة الوطنية بشدة على احد بنود المعاهدة العراقية ـ البريطانية لعام ١٩٣٠ والتي تسمح بمرور القطعات العسكرية البريطانية عبر اراضيها في طريقها الى الهند. استشاط الانكليز غضبا لذلك وقاموا باحتلال البلاد من جديد ـ معركة سن الذبان ـ ودك الطيران الحربي الملكي البريطاني RAF العاصمة بغداد بعد ان كان العراق قد تمكن بجهود رجاله من الرعيل الاول ـ الملك فيصل الاول ـ من نيل اسقلاله بعد انتهاء فترة الانتداب البريطاني وقبوله عضوا في عصبة الامم عام ١٩٣٣.
انهارت حركة مايس بعد شهر من اندلاعها وهرب زعماءها الى ايران.
عاد الوصي، الامير عبدالاله الى البلاد بعد انهيار الحركة . القي القبض لاحقا على زعماء الحركة من الضباط وسيقوا الى المحاكم العسكرية التي قضت باعدامهم.
اعلنت الاحكام العرفية في البلاد لحين وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها وتشكيل حكومة توفيق السويدي عام ١٩٤٦ التي اخذت على عاتقها صيانة الحريات العامة والاحتكام الى المواد الدستورية (القانون الاساسي)
جاء اعدام "العقداء الاربعة" نذير شؤم ليدق اول اسفين في نعش النظام اذ تسببت في خلق نقمة كبيرة بين صفوف ضباط الجيش (الضباط الاحرار لاحقا) ليبلغ الاستياء اوجه صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨, حين اطيح بالعائلة المالكة في مجزرة قصر الرحاب إيذانا بولادة النظام الجمهوري.
هناك من يحمل الامير عبدالاله المسؤلية لما آلت اليه الامور، لا سيما في قسوة تعامله مع ضباط الحركة، خلافا للنهج الذي سار عليه العاهل الاردني الملك الراحل حسين بن طلال في تعامله مع المتآمرين (حركة ابو نوار الفاشلة) اذ بعد ان حكم عليهم بالاعدام خففت احكامهم ليتم اطلاق سراحهم لاحقا ولينقلبوا الى اشد المدافعين عن النظام الملكي الهاشمي.
ان اتهام الامير عبدالاله بـ "اللؤم" كما ينعته خصومه هو تعميم فضفاض . يروي لنا الوالد الاستاذ عطا عبدالوهاب، السكرتير الخاص للمغور له الملك قيصل الثاني والامير عبدالاله عن لقاء جمعه بالامير عبدالاله في واشنطن عام ١٩٥٢ ـ اثناء الزيارة الرسمية للملك والامير الى الولايات المتحدة ـ اذ سأله الامير ـ كان عطا عبدالوهاب يعمل في حينه في المندوبية الدائمة للعراق في الامم المتحدة ـ كيف تنظرون لي انتم الشباب؟ فاجابه "نحن الشباب نعتبرك لئيما! فاعتدل الامير في مجلسه مجيبا: انا لئيم؟ كيف هذا وانا اعدت للخدمة العديد من رجال رشيد عالي الكيلاني ـ موسى الشابندر(وزير خارجية الكيلاني الذي عين سفيرا في امريكا) علي محمود الشيخ علي , ومحمد علي محمود ومحمد حسن سلمان. حرام عليكم يا معشر الشباب! ( ص 27-28 )
٢. صورة الملك والوصي في ذهن المؤلف
كان المؤلف يحمل صورة سلبية جدا عن الملك والامير (ص٢٥) فالملك صبي مغلوب على امره وقد لا يرى اليوم الذي يتوج فيه، والصورة التي حملها عن الامير انكى بكثير فقد كنا نقول عنه في مجموعتنا، مجموعة الغلاة في بغداد انه تآمر على العرش (الاشارة هنا الى مقتل الملك غازي عام ١٩٣٩ بعد اصتدام سيارته بعمود كهرباء) وانه لا يعرف من شؤون الدنيا الا ملذاته، حلالها وحرامها، ،وانه العوبة بيد الغير.
الا ان الصورة سرعان ما تبددت بالنسبة الملك “فقد كشفته شابا دمثا سريع البديهة وممتلئا بآمال الخدمة العامة”.
اما صورة خاله الامير “ و هو لا يدخل القلب راسا فقد خبرته عند العمل بمعيته انه رجل دولة من الطراز الاول همه الاول هو تربية الملك الطفل حتى اوصله ملكا عام ١٩٥٣ كما وجدته ملما بشؤون البلاد ومطلعا على نواحي الاعمار بكافة تفاصيلها وهو يتمتع بذكاء البداوة الفطري.”
٣. العمل في البلاط الملكي
كان يحدوني الامل عند الالتحاق بالعمل في البلاط الملكي سكرتيرا خاصا للملك والامير تطبيق فلسفة قوامها تطبيق الدستور بكافة بنوده تطبيقا سليما بحيث ان الملك يملك ولا يحكم والاحزاب مجازة والصحافة حرة والحريات مصانة والوزارة تتألف من حزب الاغلبية الذي تفوز بانتخابات حرة نزيهة كانني استمرئ احلام اليقظة وهو يجري وراء سراب.
قضية كامل الجادرجي: الا ان ما كان يؤرقني هو وجود زعيم المعارضة كامل الجادرجي، زعيم الحزب الوطني الديمقراطي، خلف القضبان. وكنت كلما سنحت الفرصة اكلم الوصي بضرورة اجراء تسوية بين الحكومة والمعارضة يتنازل فيه الجانبان عن سقف مطالبهم العالية. كان الامير يصغي بامعان، بيد انه كان يضيف “لو ان الشعب العراقي يدرك المصاعب والتحديات التي نواجهها كان قد اعذرنا.”
وبالعودة الى الجادرجي، كان الاخير قد ابرق من القاهرة برقية ابان العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ مفادها ان الحكومة العراقية ضالعه في مساندة اسرائيل من خلال ضخ النفط عبر ميناء حيفا وعندما اتضح بطلان ذلك احيل الجادرجي الى المحكمة التي حكمت عليه بالسجن لمدة ٣ سنوات. كنت اثير هذا الموضوع باستمرار مع الامير وقد شعرت بارتاح كبير عندما اطلقت حكومة احمد مختار بابان سراحه في اواخر حزيران عام ١٩٥٨ اي قبل ثورة تموز بحوالي اسبوعين. وقد ساورني شعورا بأن خطتي في اجراء التسوية المنشودة قد تكون قابلة للتنفيذ وقد تاتي أوكلها . ( ص 46 – 53 )
٤. مستقبل الامير
كان الاميريتحدث مع المؤلف بين حين وآخر عما يريده من مستقبله وكان يقول انه ربى جلالة الملك لمدة ١٤ سنة تربية حسنة الى ان تولى العرش، وانه يساعده في تحمل مسؤولياته الى ان يتم له الالمام بجميع الامور بشكل واسع، وانه ينوي ان يتقاعد ويغادر العراق، وكان يقول انه يريد ان يستقر في اسطنبول حيث كان محبا لطراز الحياة التركية دون ان يتولى منصبا رئيس، ما يدحض الاقاويل التي كانت رائجة بأن الامير له طموح في عرش سوريا.
من المقترحات التي قدمت للاميرـ جاء بها الى اسطنبول حيث كانت العائلة تمضي اجازتها الصيفية عام ١٩٥٧ وكنت مرافقا لهم ، الدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس الوزراء الاسبق، ،وكان من جملة المقترحات التي قدمت ان يتولى الامير منصب سفير العراق في لندن لكنه لم يظهر حماسة لهذا العرض اذ لم يكن يريد ان يزيح عمه الامير زيد بن الحسين الذي كان محبا لذلك المصب بالذات ولا راغبا في منصب سفير العراق في واشنطن. في ذلك الاجتماع مع الدكتور الجمالي عرض هذا الاخير اقتراحا جديدا يتلخص بانشاء منظمة للشباب يتولى الامير رئاستها، بيد ان الامير عرض اقتراحا آخرمفاده ان يستحدث منصب جديد بأسم “مفتش الجيش” وقال الامير انه اذا قرر البقاء في بغداد فإن مثل هذا العمل هو اقرب الاعمال الى قلبه لانه يحب الجيش وتربطه صلات وثيقة بأبرز رجاله وقد ساهم في بنائه ويريد ان يستمر في الاشراف على تطويره وتسليحه واعلاء شأنه. ( ص 58 – 59 )
٥. الصيام في شهر رمضان
من الامور التي لم ترد في خاطر المؤلف هو صيام الامير في شهر رمضان فعندما حل الشهر الفضيل عام ١٩٥٧ قال الامير انه سيصوم في تلك السنة في الحبانية واسصحبني معه برفقة بعض مرافقيه. كانت قاعدة الحبانية الجوية ومنشآتها قد انتقلت من يد البريطانيين الى العراق سنة ١٩٥٥(أسوة بقاعدة الشعيبة التي انتقلت الى السيادة العراقية عام ١٩٥٤) واتضح لي في تلك المناسبة ان الامير يصوم رمضان سنويا، وتذكرت ما كنا نعتقده في شبابنا عندما كنا نسمع ان الوصي غادر الى سرسنك ليصوم رمضان فنرميه بكل ما حرم الله من اشاعات مغرضة كانت تروج في المقاهي رواجا عجيبا. ما ان وصلنا الحبانية كان اول من سأل عنه الامير هو قائد القاعدة الجوية هناك، قائلا: اين هو عارف؟ (اي الطيار عارف عبدالرزاق الذي اصبح رئيسا للوزراء عام ١٩٦٥)، وكان مرافقه وطياره الخاص سابقا، وقد جاء الرجل مساء فاحتفى به الامير كثيرا وعاتبه قائلا “لماذا انقطعت عنا والاهل يسألون عنك؟” فأجاب مغتذرا بكثرة اشغاله في القاعدة وكان واضحا ان كليهما يظهر الود للآخر.
كانت الاسرة المالكة، ملكا واميرا، ملكة واميرات، تتفقد من عمل في كنفها من الضباط برعاية صادقة وتسأل عن ناجي طالب وغيرهم من المرافقين السابقين وكلهم من انجب الرجال واكفأ الضباط . بيد ان هؤلاء الرجال الانجاب ادارو للعائلة المالكة ظهر المجن صبيحة يوم ١٤ تموز الدامي . (ص 80 – 81 )
6. المال العام : كنت عصر أحد الأيام مع الأمير في ربيعه الأخير في قصر الرحاب، فجاءه زائر لم اعرفه .... واختلى به بعض الوقت، ثم خرج فودعه واتجه الأمير نحوي، وقال لي وهو منفعل ذلك الانفعال الذي رأيته عليه مرارا اذ يحتقن وجهه وتلتمع عيناه بما يشبه ترقرق الدموع: هل عرفته؟ قلت: لا . قال : هذا شقيق الشريف حسين (الشريف الحسين هو زوج الأميرة بديعه شقيقة عبدالإله الصغرى وهو والد الشريف علي راعي الحركة الملكيه الدستوريه في العراق حاليا) وهو مقيم في مصر ويدير أملاكهم هناك، وجاء ينصحني ويقول لي اذا سمحتم دعوني اودع في الخارج شيئا من أموالكم . جلس الأمير إلى جانبي في ركن الانتظار وقال تخنقه العبرة: نحن نودع أموالنا في الخارج؟ وما هي أموالنا؟ قال لي الشريف ان المستقبل المجهول والوضع متفجر في المنطقة . فقلت له: إذا كانوا لا يريدونا هنا فنحن نذهب كما جئنا . نذهب بأنفسنا لا نحمل شيئا . وقد من الله علينا هنا بالملك وسعة العيش . وخدمنا البلد حسب اجتهادنا وطاقتنا وإذا كان لا يريدنا نذهب، وأنا استطيع أن اعمل ولو كحمال لكي أعيش بكرامة . ثم أشار بيده إلى أعلى الجدار الذي يواجه الداخل إلى القصر وقال: أنا مؤمن بكلام الله هذا فنظرت إلى حيث أشار وقرأت الاية من سورة ال عمران : (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)
قرأتها مع نفسي وقد خطت بالقاشاني على امتداد باستقامة واحدة وشعرت كأنني أراها لأول مرة هناك وقد امتلئ كياني بالخشوع . وصار من عادتي كلما دخلت القصر أن أنظر إلى ذلك الخط الجميل واتملى المعاني الغيبية في تلك الاية القرانية واتذكر وقفة الأمير أمامها وكانت وقفة مؤمن بالله مستسلما لارادته الربانية وقد أستغرقه هم عظيم (ص 94)
7. ضعف الدعاية وعدم فعاليتها :
لم تكن الدعاية في النظام الملكي بالمستوى المطلوب ولم تتمكن من مقارعة أو مجاراة دعاية (صوت العرب) والوقوف بوجه أحمد سعيد الذي ما أنفك ينقل الأكاذيب ويبث السموم والإشاعات عن الأمير بالذات .
كنت اتحدث مع الأمير كلما وجدت الفرصة المناسبة عن كيفية استخدام وسائل الإعلام على وجه علمي والأمير يصغي باهتمام ثم قال بشيء من الأسى والشعور بالتحرج (ماذا نفعل والباشا لا يقبل بغير خليل إبراهيم للدعاية) وقد خلفه بعد فترة العميد الركن محسن محمد علي مديرا عاما للدعاية . ومضت الأيام واعلنت الوحدة بين مصر وسوريا (شباط 1958) وذات صباح كنت في مكتب الأمير في البلاط فسألني: ما هو انطباع الناس عن إذاعتنا الان (كانت قد ادخل عليها بعض التغيرات وطعمت بعناصر جديدة) فقلت له بهدوء الناس لا يسمعون إذاعة بغداد ، بهت وقال: لماذا؟ قلت: لأنها لا تذكر الأحداث العالمية . قال: كيف؟ قلت منذ اعلان الوحدة المصرية السورية وإذاعتنا لا تذكر هذا الخبر ولو مجرد ذكر وهو حدث عالمي مهم، لذلك يستمع الناس إلى اذاعات أخرى . وفي الحال رفع الأمير سماعة التلفون وطلب مدير الدعاية . قال له محسن، أسألك لو أن (الباشا) نوري السعيد قتل الا تذيعن الخبر! لم أسمع جواب ولكن الأمير أضاف يسأل : إذا لماذا لا يذاع خبر الوحدة، (ص 91-93).
8. رد فعل الأمير المبالغ من وجود اليهود بين ظهرانيهم
رافقت الأمير في خريف 1957 بزيارته الرسمية لكل من الصين الوطنية (فرومزا) واليابان وكانت سفرة طويلة توقفنا خلالها في مدن متعددة في الشرق الأقصى في الذهاب والإياب . ورافقنا في الطائرة سفير الصين الوطنية في العراق . كان هذا السفير قد اقترح عند العودة من اليابان إلى هونج كونج النزول لبضعة أيام ضيوفا عليه في قصر يملكه عديله هناك، وقبل طلبه .
توقفنا في طريق العودة في هونج كونج كما هو مقرر لقضاء ثلاثة أيام قي تلك المدينة الصاخبة للاستراحة . في مساء اليوم التالي أقام عديل السفير حفلة عشاء على شرف الأمير والوفد المرافق له في إحدى قاعات المدينة الكبرى. اعتذرت من الأمير عن عدم حضوري تلك الحفلة بسبب وعكة المت بي. ذهب الأمير بحلته الرسمية الباهرة وبقيت لوحدي ثم أويت إلى الفراش وإذا أنا بين النوم واليقظة سمعت طرقا عشوائيا على باب حجرتي، ثم اذا بأحد المرافقين يداهمها وهو يصيح : انهض انهض، اجمع أغراضك. فظننت في الوهلة الأولى اني في حلم يتطور إلى كابوس؟ قال قرر سمو الأمير أن نغادر هذا المكان فورا. اجمع أغراضك. فذهبت من فوري بالبيجاما، إلى جناج الأمير ، ووجدته وحده فارع القامة وسيم الطلعة تزهو به أوسمته ويحتقن وجهه وتلتمع في عينيه الدموع كأنه وهو منحوت بحزن خرافي ينبض بالتمرد. وقبل أن اساله قال: تصور أنا حفيد الحسين يأخذوني إلى هناك ولا يقولو لي أن اليهود بين الحاضرين . وخنقته العبرات . فدخل علينا أحمد مختار بابان فقال للأمير محاولا تخفيف عليه من الصدمه: يا سيدي، هؤلاء اليهود من العراقيين وقد هاجروا إلى هنا لا إلى إسرائيل وقد جاءك صاحب الدعوة بالكاميرات واحرق الأفلام أمامك. يا سيدي استر علينا من الفضيحة. فصاح الأمير: الفضيحة: أنت تقول هذا يا مختار! أية فضيحة. أنا لاأخشى من الدعاية ولكن الجرح عميق في قلبي نحن من سلالة الرسول ونعامل هكذا. نخرج من هذا البيت الان ! (ص 75-77)
9. الأمير لا يعرف السيرة الذاتية لرئيس وزرائه:
من الأمور التي لفتت نظري هو عدم امتلاك الأمير لرؤية كاملة للسيرة الذاتية لبعض رؤساء وزرائه والوزراء. حدث أن سافرت مع الأمير في شتاء عام 1957 إلى لندن، وعندما أقلعت بنا الطائرة كان الأمير مرحا خلافا للعادة. فسألني ألم تلاحظ في المطار شيئا غير اعتيادي ؟ قلت : كلا ، فالمطار يغص بالمودعين من رجال الدولة في مثل هذه المناسبات. قال : لا، هذه تختلف فقد تألفت وزارة جديدة على أرض المطار الان. ثم أضاف وقد ارتسمت على وجهه أسارير الارتياح ، ألفها عبدالوهاب مرجان، وأظنه أهلا لها. فقلت: نعم أنه رجل طيب، وأفكاره كانت تقدمية. فسألني ماذا تعني؟ قلت: كان من مؤسسي الحزب الوطني الديموقراطي مع الجادرجي، فلما جرت انتخابات اللجنة المركزية للحزب رشح نفسه ففشل فيها تجاه مرشح شاب آخر. لم أقل له اسم ذلك الشاب وكان هو أخي زكي. استغرب كثيرا وقال: لم أكن اعرف أن مرجان من مؤسسي الوطني الديموقراطي. قلت: هو وعبد الكريم الأزري. فلم يجب. وعجبت كيف نسي الأمير هذا، وكان ذلك من الأنباء التي تنشرها الصحف. (ص81-82)
10. 14 تموز 1958
إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل كان بالإمكان احتواء ثورة / انقلاب 14 تموز قبل وقوعها لا سيما وأن التحذيرات للنظام كانت تترى دون أن تؤخذ مأخذ الجد، كان آخرها انذار جلالة الملك حسين بن طلال يوم 6 تموز قبل اندلاع الثورة بأسبوع. وبحسب المؤلف يبدو أن الأمور كانت قد اختلطت على الأمير بين انقلاب قصر يخطط له، حيث يؤتي برئيس الأركان الفريق رفيق عارف رئيسا للوزراء ومعاونه اللواء غازي الداغستاني وزيرا للدفاع، أسوة بالانقلاب الأبيض الذي قام به أيوب خان في الباكستان. أما الأسماء التي كانت تقدم له من قبل مدير الأمن العام بهجت العطية والتي ضمت غالبية أسماء الضباط الأحرار فكانت تركن جانبا ضنا من الأمير ان هذه الأسماء كان (تتداخل) مع الانقلاب الأبيض الذي كان يعد له.
بعد انقلاب 14 تموز تم توقيفي في سجن بغداد المركزي بعد استدعائي شاهدا أمام المهداوي في قاعة (محكمة الشعب) – قاعة مجلس النواب سابقا – بعد افادتي التي لم تروق للمهداوي في قضية غازي الداغستاني. ادخلوني إلى ماسمي القاووش فرأيت أمامي في ذلك القيظ المهلك رجال دولة الأمس بملابسهم الداخلية بعضهم على حصيرة على الأرض وبعضهم على أسرة الجنود الحديدية، في أيديهم مهافيف الخوص، وعلى وجوههم جزع المصير المجهول. هبوا يسألوني ماذا يجري خارج الأسوار ؟ كان بينهم الجمالي والسويدي وكنة. أما أحمد مختار بابان فكان يكتب في دفتره، وحين رآني انتفض وقام يحتضنني ويقول من فوره: إنته هم جابوك ؟ (أي أنت أيضا أتو بك)
بعد أيام ، وفي قاووش آخر التقيت بالملازم ثامر الحمداني، الذي كان مرافقا للأمير، واستطاع صباح 14 تموز أن يأتي من بيته الى القصر ويدخل إلى هناك ليكون قريبا من الأسرة المالكة. قال : كنت أقف الى جانب الأمير وكنا قد تجمعنا في ركن الانتظار (أي تحت اية مالك الملك) فرن التلفون وتناوله الأمير وأحذ يصغي للمتكلم ثم وضع راحة يديه إلى الفوهة وقال لي: هذا العقيد طه بامرني (أمر الحرس الملكي) ومقره في قصر الزهور قريبا من الرحاب وهو يسألني هل تامورني ان نرمي؟ فأجابه لا لا ترمو لا أريد أن تسفك قطرة دم واحدة من أجلنا ، فإذا كانوا لا يريدوننا فنحن نخرج. كان الملازم ثامر من الذين نجو بأعجوبة هو وزوجة الأمير، الأميرة هيام، كريمة أمير ربيعة، حين انهمر الرصاص على الهاشميين في عقر دارهم.
كان هناك رأي يقول لو أطلق الحرس الملكي بضع رصاصات لفشلت الحركة. لا أدري ربما كان ذلك سيؤدي الى مذبحة شنيعة تجر ورائها في حالة القضاء على ذلك الخروج على السلطة مجزرة تجز فيها الرقاب. كان كل هذا سيؤدي الى كبت التذمر في أعماق النفوس، والى خنق الاصوات في الصدور فيؤول الوضع مرة أخرى الى حالة شاذة أخرى. لم يكن هذا بالطبع هو الذي أملى على الأمير أن يأمر حرسه بعدم اطلاق النار على المهاجمين. كان الرجل منذ تتويج الملك فيصل عام 1953 وانحسار السلطة من بين يديه يميل الى عدم المجابهة بالقوة ، لذلك كان يردد دائما: اذا كانوا لا يريدوننا نحن نخرج. أما حينما كانت السلطة في يديه، مثلا في أحداث 1941 فقد صمد وجابهها بحزم، بصرف النظر عمن كان على حق ومن كان على باطل. وقد يقول قائل : انظرو الى نوري باشا السعيد الذي قاتل حتى اخر لحظة وقتل في حين لم يشأ الأمير عبد الإله إطلاق رصاصة واحدة فانهال الرصاص عليه وعلى أهله . نعم مقارنة ترد على خاطري أيضا. ولكن السعيد أحد بناة الدولة منذ تأسيسها وظل يمسك بالسلطة، وهو أيضا احد ابناء البلد، ولا يعيره احد بأنه دخيل. أما عبد الاله ، فقد جاء الى الحكم متاخرا وواجه منذ اليوم الأول لتوليه السلطة ملابسات قدر متربص وظروق انشقاق خطير، وظل يسمع ما يقال عنه بأنه اجنبي طارئ على البلاد وعلى العرش فيحز ذلك في نفسه وتعتريه كآبة امرئ يتنكر له الناس وهو فوق ذلك يحس انه قد وصل الى نهاية المطاف ولا اظنه يلام وهو في هذا الوضع النفساني إذ آثر الخروج من بلد ثائر عليه. (ص 110-112)
الملاحظات الختامية
لعل الصورة التي ارسمها للأمير عبدالاله تبدو جديدة في أقل اعتبار الا انها الصورة التي رأيتها بنفسي، واشهد الله انني اكتب ما شاهدت في السنة الاخيرة من النظام الملكي في العراق ومن زاوية عملي وصلتي الشخصية، أما ما يطلق من أراجيف على ألسنة العامة فلا يعدو شتائم التشمت، أما ما يقوله بعض الخاصة من آراء فلا يعدو التعميم والتبسيط ومجارات التيار دون تفنيد او تحليل . اني اشهد انني لم الاحظ طيلة عملي مع الأسرة المالكة منذ ربيع 1957 تصرفا يشين الخلق الرفيع ولم أسمع كلمة تنبؤ عن الذوق السليم. (ص 112-113)
989 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع