نزار جاف
الجنوب العراقي و کوردستان: کلام في الوجد و الانسان /٢
في ذلك المقهى المتواضع الذي کان يستقر قبالة الباب الفرعي لسينما سيروان بمدينة السليمانية، کان هناك تلاقح و لقاء و إمتزاج في الافکار و الرؤى و المواقف بين نماذج مختلفة من المثقفين الکورد و العرب الذين کما ألمعت سابقا کان أغلبهم من الشيعة، وکان النقاش يجري في أجواء تصدح فيها مطربات إيرانيات مثل سوسن و مهستي و هايده و مطربين کورد مثل محمد ماملي و حسن زيرك و غيرهما.
أسماء من قبيل محمد الماغوط و حسين مردان و البير کامو و ريجيه دوبريه و مظفر النواب و عبدالله کوران و السياب و بودلير و مايکوفسکي و غيرها، کانت غالبا ماتتردد في الزوايا التي تقبع فيها هذه الشلة حيث دخان السيکاير و الاصوات المتداخلة و المتضاربة مع بعضهاو وجوه يغلب على بعضها الجدية فيما ترى في حفنة أخرى شيئا من اللاأبالية و العبث، ولم يکن غريبا لو وجدت أربعة على طاولة واحدة يتناقشون مع رابع على طاولة أخرى بعيدة عنهم نسبيا وکانوا يفضلون ومع هذا فلم تکن تسمع صراخا و هذا أمر کثيرا ماأفکر به عندما أراجع ذکرياتي مع ذلك المقهى و تلك الشخصيات التي غيب الموت البعض منها فيما شتت الزمن نفرا آخرا منها في آجم هذه الدنيا الغريبة.
والامر المهم و اللافت، کان الشأن الثقافي و الانساني هو الغالب على الخط العام للحوار رغم انه کانت تتخلله مزحات بخصوص النکات التي يتداولها الطرفين عن بعضهما، لکن الاهم من کل ذلك هو أنه کان هناك تفاهم غريب من نوعه بين الجانبين وکان النقاش يجري بهدوء تام و بعيدا عن الصخب و الصياح و الصوت العالي حيث کان هناك أخذ و رد وقبول و رفض بين الطرفين وکأنه نفس اسلوب و طريقة الحوار الذي يجرى اليوم في منتديات العالم المتحضر و من الجدير بالذکر ان العديد من هؤلاء المثقفين العرب ولکثرة إعادة تلك الاشرطة الغنائية کانوا قد حفظوا الکثير من الاغاني الکوردية و الفارسية.
وکان بين هؤلاء المثقفين، شاب أسمر نحيف اسمه عبود عبدالحسين من مدينة الديوانية على ماأتذکر، عبود هذا الذي کان دوما برفقته کتاب مميز، لم يکن يتکلم کثيرا وانما کان مستمعا جيدا، لکنه إذا نطق فقد کان الکلام ينهمر کالدرر من فمه حيث کان مثقفا من العيار الثقيل لکنه کان مغرما بالشاي و العرق المستکي(کان هناك حينها نوعين من العرق هما المسيح"بتشديد الياء"، والمستکي ولکل منهما طعمه الخاص). عبود هذا، الذي کان مأخوذا بشخصية زوربا و يعتبر الروائي الروسي دوستوفسکي أعظم کاتب في العالم على وجه الاطلاق، کنت تجده جريئا و صريحا و يتعمق کثيرا في النقاش، بيد أنه کان في نفس الوقت خجولا ولم يکن من الهين أن تنفتح قريحته للنقاش لو لم تکن الثمالة قد سلبته لبه، ولطالما ردد في ذروة سکره وهو يخاطب کأسه:(لاحياة من دون حليب السباع) و کلمات أعتقد أنها لمحمد الماغوط(سأسکر، سأسکر، مادام هناك تبغ و شوارع و عود ثقاب!) ، غير أنه کان في بعض الاحيان تنتابه نوبات من الکئابة التي لم يکن حتى بإمکان العرق المستکي أن تفك طلاسمها و رموزها المعقدة، وکل الذي علمته عن سر هذه الکئابة عن طريق صديق آخر هو أن عبود قد خاض تجربة حب فاشلة وهو أمر يبدو أنه(وبالاضافة لحظه المتواضع في الوسامة) کان قاسما مشترکا أعظما بينه و بين واحدا من شلتنا الکوردية وهو الشاعر فاتح عزالدين الذي کان صريع غرام لاأمل من ورائه إذ کان يعشق أخت صديق له ولم يکن يجرؤ يوما على مکاشفتها وقد سطرت أنامل کل من عبود و فاتح قصائد شعرية رائعة في حبيهما الفاشلين وأتذکر من شعر فاتح عزالدين والذي ترجمته حينها للغة العربية و نشرته في جريدة الراصد التي کانت ترأس تحريرها الاديبة الرائعة عالية حمدون:
(لاتتوشحي بالسواد و ألق بالسواد بعيدا لاتتوشحي بالسواد و أعزفي في دار ضجري بيانو البشارة)، وقطعا لم تکن تلك الفتاة تتوشح بالسواد أبدا لکن فکر و وجدان فاتح هو الذي کان غارقا بضبابية سوداء ليس لها مثيل.
فاتح عزالدين هذا و الشاعر محمد عمر عثمان(الذي هو الان من الشعراء المشهورين)، لم يکونا يجيدا اللغة العربية إطلاقا فيما کان الناقد الراحل اوميد آشنا يتکلم عربية رکيکة، لکنهم رغم ذلك کانوا يتسمعون لعبود لحظات إنفتاحه وکنت أنا و کوران مريواني نبتلي بالترجمة لفاتح و محمد والمصيبة أن عبود الذي کان يتحدث ببطأ شديد في حالة الوعي، کان عند سکره غزالا شاردا في الکلام ولم يکن يعيد الکلام مهما حدث ومن هنا فقد کنا کوران وانا ومن شدة إنسجامنا في حديث عبود ندعوهما للتريث.
عبود عبدالحسين، کانت له علاقات صداقة مع ثلة من الطلاب الاردنيين الذين کانوا يدرسون في جامعة السليمانية حينها ومن خلال هؤلاء الطلاب الاردنيين(الذين کانوا أعضائا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جماعة جورج حبش) تعرفنا على أفکار و طروحات جورج حبش بخصوص القضية الفلسطينية و قضايا أخرى، وهنا اود الاشارة الى نقطة جمعت بين الشاعر کوران مريواني(الذي يقيم الان في السويد) و عبود عبدالحسين وهي کثرة تفرسهما برواد المقهى الذين کانوا في الغالب من العمال و الطبقات المحرومة وحتى أن هذا التفرس وجدت له إنعکاسا غريبا في أعماق صديقي کوران مريواني الذي فاجأني يوما عندما کنا نتمشى في الشارع الطويل الذي يؤدي الى سينما دلشاد بقوله:
هناك سر کبير أود أن أبوح به لکن أرجو أن تحتفظ به حاليا، ولما وعدته بذلك قال بهدوئه المعهود: بصراحة أرى الوضع السياسي في العراق لايحتمل و ان الشيوعية بشقيها التحريفية السوفيتية و الماوية قد وصلتا الى طريق مسدود واجد من واجبنا التحرك الجدي و التصدي المسؤول للوضع و تحمل المسؤولية التأريخية و يجب أن نؤسس حزبا عماليا حقيقيا يقود العراق الى غد و مستقبل أفضل)!! من يستمع لهذا الکلام لابد أن يعرف بأن البوح به کان في زمن حکم نظام البعث السابق والذي کان يعدم فيه المرء على الشبهة أو کما کان يقول عبود عبدالحسين: يعدم الانسان في العراق عالريحـة!
قبل فترة، وانا أتصل بکوران و أذکره بموقفه هذا أطلق ضحکة مدوية في التلفون حتى أنه من فرط الضحك لم يتمکن من التکلم بطريقة واضحة، لکنه إستدرك في النهاية ليقر بأنه حقا کان موقفا جنونيا و غريبا من نوعه، لکنه(والکلام له) کان رد فعل منطقي على الظروف الذاتية و الموضوعية التي کان يمر بها العراق.
کوران، الذي تبلورت لديه هکذا فکرة، لم يطرحها معي فقط وانما طرحها أيضا لدى أصدقاء آخرين، وکان ذلك تحديدا في عام 1977، وهو العام الذي شهد خروج تظاهرة ضخمة لکافة طالبات الدراسات الابتدائية و المتوسطة و الثانوية ضد قرار جائر للحکومة العراقية حينما فرضت تدريس کافة الدورس الادبية في تلك المراحل الدراسية باللغة العربية وفي الوقت الذي يجهل غالبية أهالي السليمانية اللغة العربية، فإنه لم يکن هينا تقبل القرار او مجرد تفهمه ولاسيما وانه قد جاء في ظرف کانت عملية التعريب و التبعيث الحکومية جارية على قدم و ساق في کافة أرجاء کوردستان وکان النظام وبحسب ماتملي عليه تلك السياسة يقتطع مدنا و قصبات من محافظة و يضيفها لأخرى، وأجد من المهم جدا أن اورد هنا قولا لعبود عبدالحسين و هو يشاهد بعينيه آلاف الفتيات القاصرات و اللواتي في مقتبل أعمارهن وهن يهتفن بأعلى أصواتهن باللغة الکوردية مامعناه بالعربية:( بالکوردي بالکوردي لانريد العربي)، هذا النظام يتصرف وکأنه استعمار!
والحق، أن الشعب الکوردي ولحد هذا التأريخ العرقي البغيض الذي سطره نظام البعث، کان يحب و يرغب في تعلم اللغة العربية طواعية لکن هذا التصرف الاحمق و الاهوج و تلك السياسة الرعناء التي طبقها النظام بالحديد و النار، زرع في أعماق الشعب الکوردي إحساسا بالنفور من اللغة العربية و کرد فعل جمعي ضمني على الخط العام لهذه السياسة بدأ الکورد لايطلقون الاسماء ذات الاصل العربي على أطفالهم و طفقت الاسماء الکوردية الاصيلة تتردد بکثرة وحتى أن الادباء و المثقفين و الفنانين الذين کانوا حتى الامس القريب يکثرون من إستخدام مفردات عربية في کتاباتهم و نشاطاتهم من قبيل(الفکر، المعاناة، الجمالية، البراءة...الخ)بدأوا يجهدون أنفسهم بالعودة الى منابع لغتهم الام و التخلي عن مفردات باتت وکأنها لغة مستعمر مستبد و طاغ يبغي فرضها قسرا.
لکن، هذه السياسة الهوجاء المدمرة نجمت عنها أيضا تداعيات تبدو سلبية داخل مقاتلي الحرکة التحررية الکوردية، حيث وللأسف بدأوا بسياسة حرق الکتب المدرسية التي کانت مکتوبة باللغة العربية لأن معظمها وقتئذ کانت تحمل في صدر صفحتها الاولى صورة صدام حسين ولأن هذا الطاغية کان يمثل رمزا مشؤوما بالنسبة للشعب الکوردي فإنه دفع بهؤلاء کي يعطوا أنفسهم الحق بتمزيق الکتب التي تحمل صورته، لکن المشکلة کانت تکمن في أن تلك الکتب مع الانتباه الى إستغلال النظام لها لغايات دعائية للقائد"الضرورة" فإنه کان لابد منها وانها کانت ضرورية لکي تستمر مسألة أهم، کما کانوا يغتالون أي مختار للقرى لمجرد الشبهة بانه متعاون مع السلطة، وحينها کنا في ذلك المقهى الصغير نعرب عن استنکارنا و ادانتنا لمثل هذه الاعمال و نرفضها خصوصا وان العديد من اولئك المخاتير کانوا يعانون الامرين من الجانبين"أي من جانب السلطة البعثية و الحرکة الکوردية"، ولم نکن کمثقفين نريد أن نسبح و نحمد بالحرکة التحررية من دون أن ننقد تلك المظاهر السلبية التي بدأت تعتريها وهي بالاساس کانت غريبة عنها.
وفي غمار تلك الايام السوداء من تأريخ العراق، زرت الناصرية بدعوة صديق کان اسمه ناهي وللأسف نسيت اسم ابيه، هذا الصديق الذي تعرفت عليه في أحدى ليالي السهر في نادي(ذوي المهن الصحية)الذي کان حقا من النوادي الرديئة و يقع خلف نادي الموظفين في السليمانية، وقد توثقت فيما بعد علاقتي به و تطورت، ناهي، الذي کان شابا بشوشا و شفافا و سريع البديهة، کان يشتهر بروح النکتـة و لطالما أضحکني من الاعماق، لکنه في نفس الوقت وعندما کان يتحدث في الجانب الاخر من الصورة، کان يزرع حزنا عميقا في أعماقي و يثير ضجرا و کئابة ليست لها حدود.
ناهي، الذي کان يقر دوما بأنه شاهد حي أمام التأريخ على جرائم البعث بحق الشعب الکوردي، کان يحثنا"کمثقفين کورد"، أن لانندفع بعيدا بسب بتلك السياسات الحمقاء و نقطع کافة خطوط العودة و التواصل. ان الذي بيننا هو أکبر بکثير من هکذا سياسات مجنونة، هکذا ردد لأکثر من مرة رغم أنه کان يؤکد و يقسم أغلظ الايمان بأن هذا النظام لن يهدأ له قرار أبدا فهو کوحش هائج متعطش للدماء وإذا لم يبق له شيئا يدمره فإنه سيخلق شيئا في سبيل ذلك!
الناصرية أو(الشجرة الخبيثة)کما کان المثقفون العراقيون يصفونها على سبيل المزاح، هي واحدة من المدن العراقية التي کان لها دور هام جدا على الخارطة السياسية ـ الفکرية للعراق وانها کانت ملتقى سياسيا ـ فکريا ـ ثقافيا رفد العراق بالکثير الکثير، وعندما زرتها تلك السنة(وأعتقد أنها کانت أواخر عام 1977)، لبثت فيها عشرة أيام کنت خلالها وکأنني بين أهلي و أقربائي حيث شعرت بکرم الضيافة و طيبة المعشر و کل مايبعث على السرور و الغبطة ورغـم انني کأي مثقف کوردي ذهبت الى الناصرية وانا نوعا متحامل في أعماقي من هذه السياسة العنصرية المقيتة التي لجأ إليها النظام الدکتاتوري ضد الشعب الکوردي، لکنني لم أجد في الناصرية و انا أحتك و أتصل و أتعامل مع أبنائها أي شئ يدل على روح و أصل تلك السياسة المرفوضة من کل النواحي، ويومها قال لي ناهي وبمنتهى الصراحة، بأنه قد دعاني الى مدينته لکي أرى الجانب الايجابي من الصورة و لا أنجرف مع الجانب السلبي الذي لايمثل إلا رغبات ثلة من (الخارجين على الانسانية)کما کان يسميهم.
ناهي الذي عرف شغفي بقصائد مظفر النواب الفصحى، لفت إنتباهي الى أشعاره باللغة الدارجة سيما الى مقطع شعري في منتهى الرقة ملك لبي وحفظته لروعته و جمال معانيه، حيث يقول النواب فيه:
(ترافه و ليل دك ريحان يا أسمر لاتواخذنه
يلن کل دکة من حنجك شتل ريحان بالجنه
جثير کزازك بکلبي و اکولن هاي حنيه
من أتلك بالحلم يسمر يکع قداح بيدي)
وأجد من الواجب أن أشير الى أن ناهي کان قد تلى على مسامعي قبل ذلك قصائد أخرى للنواب باللغة الدارجة، لکنه وللمرة الاولى أسمعني شيئا وجدانيا غارقا في الذاتية المحضة لذلك الشارع الذي لايزال يثير لغطا کبيرا في الشارع الثقافي العربي، وللحديث صلة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/maqalat/37332-2018-10-09-19-13-30.html
2028 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع