عوني القلمجي
عن الحكومة العراقية قبل تشكيلها
منذ اعلان نتائج الانتخابات، والسباق بين متزعمي القوائم الفائزة حول تشكيل الكتلة الاكبر لم يتوقف للحظة واحدة، فالفوز بالكتلة الاكبر يعني نيل حصة الاسد من جسد العراق الذبيح، وليس نيل الدور الاكبر في تضميد جراحه والمساهمة في شفائه كما يروجون. واذا كان مثل هذا الهدف معيبا ومخزيا، فان اختيار الوسائل للوصول اليه هو اكثر خزيا وعارا، حيث اعتمدت هذه الكتل على تقديم فروض الولاء والطاعة، للمحتل الامريكي تارة ولوصيفه الايراني تارة اخرى، ناهيك عن استجداء رضى المرجعية الدينية، كونها الحارس الامين للعملية السياسية الطائفية والمدافع العنيد عن الانتخابات المزورة والام الحنون على الدستور الملغوم. اذ من دون ذلك لايمكن لاية كتلة الحصول على مبتغاها مهما احتلت من مكانة او قوة. ولنا في فوز محمد الحلبوسي برئاسة مجلس النواب خير دليل على ذلك، حيث لم يعد سرا تفرد الرجل بمباركة ملالي طهران، ودعم مندوبهم قاسم سليماني.
وفق هذا السياق، فان تشكيل الحكومة الجديدة من هذه الكتلة او تلك، لا تعني للعراقيين شيئا، كون هذه الكتل جميعها مجربة بالفساد وسرقة المال العام وارتكاب الجرائم وخدمة المحتل. على العكس من ذلك تماما بالنسبة لواشنطن وطهران، جراء الصراع الاخوي الدائر بينهما حول تقاسم النفوذ في العراق، حيث كفة واشنطن تميل اكثر اذا شكل الحكومة شخصية من كتلة حيدر العبادي ومقتدى الصدر، والعكس صحيح بالنسبة لطهران، اذا كانت هذه الشخصية من كتلة هادي العامري ونوري المالكي، اما اذا نال المنصب شخصية مستقلة، مهما كان اسمها، فانها ستكون الخيمة التي ستجمع بين الاخوة الاعداء. ودعكم مما قيل ويقال عن الاوصاف التي تطلق حول الحكومة القادمة، من قبيل حكومة وطنية مستقلة، لا امريكية ولا ايرانية، او حكومة عابره للطائفية، فهذه ليست سوى ضحك على الذقون واستخفاف بالعقول. خاصة وان البداية قد فضحت هؤلاء الادعياء، بعد احتفاظ "السنة" بمنصب رئيس البرلمان، والكرد بمنصب رئيس الجمهورية. فهل هناك من شك بحصة "الشيعة" في منصب رئيس الوزراء؟
لنترك هذه الكتل تتصارع فيما بينها، وندع الاخوة الاعداء ينتظرون نتائج تقاسم الحصص والمغانم فيما بينهم. فالحكومة القادمة، بصرف النظر عن تشكيلها من قبل هذه الكتلة او تلك، او سواء مالت اكثر باتجاه طهران او واشنطن، او مسكت العصا من المنتصف، لن تكون هذه المرة نسخة طبق الاصل من الحكومات السابقة، وانما ستختلف عنها من حيث السلوك والتوجه والمهام والواجبات، فالمحتل الامريكي، على وجه التحديد، قد ادرك تماما بان الشعب العراقي قد ضاقت بهم الدنيا من القهر والحرمان، جراء عمليات النهب والفساد والسرقة وتبديد الثروة النفطية وارتكاب الجرائم، واذا لم تعدل هذه الحكومة من سلوكها وتلبي جميع مطالبه الخدمية والسياسية ومحاسبة الفاسدين وتقديمهم للمحاكم، فان هذا الشعب المظلوم لن يتردد قطعا بتفجير ثورة شعبية، لن تقتصر، هذه المرة، على الوسائل السلمية وحدها، وانما تتطور الى ثورة مسلحة تشمل عموم الناس وتعم جميع المدن العراقية. خاصة وان شبح انتفاضة البصرة، لم يزل يطاردهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا ، فالانتفاضات من هذا النوع هي بمثابة سلاح الدمار الشامل، الذي لا تستطيع مواجهته لا امريكا ولا اية قوة بالعالم. هذه الحقيقة هي التي ستجبر المحتل الامريكي على فرض سلوك وتوجه جديد، يهدف الى الالتفاف على الانتفاضة وامتصاص نقمة الشعب العراقي. بل ان امريكا ستجبر ايران على السير في هذا التوجه اذا ارادت الحفاظ على حصتها في العراق. هنا بيت القصيد ومربط الفرس.
تشكيل حكومة مقبولة الى حد ما، تقوم بتنفيذ بعض الاصلاحات الخدمية والسياسية المحدودة، وتحجم الفساد المالي والاداري المفضوح، وتوقف الحرامية عن السرقات لفترة معينة، وتقدم بعض الرؤوس للمحاكمة ككبش فداء، وتطلق سراح بعض السجناء الابرياء وتلغي عدد من القوانين الجائرة، هذا هو ملخص التوجه الجديد الذي يراد منه تشجيع العراقيين على قبوله او المراهنة عليه والدخول في خانة الانتظار مرة اخرى، الامر الذي سيحرم الانتفاضة من وقودها الدائم ويصبح من السهل لاحقا عزلها واضعافها، ومن ثم اجبارها على القبول بانصاف الحلول. خاصة وان التيار الصدري الذي يحظى بانتشار واسع في صفوف الفئات الفقيرة، سيكون اول المرحبين به كونه ينقذ برنامجه الذي وعد به، دون الانتباه بالقدر الكافي لحجم الخداع والتضليل الذي ينطوي عليه. واذا ما حقق هذا التوجه الجديد اغراضه، سيعود المحتلون الى مواصلة تنفيذ مخطط تدمير العراق، الذي من دونه لا يمكن لامريكا او ايران ولا لكليهما الهيمنة على العراق واستعماره لعقود طويلة من الزمن.
لقد استخدمت امريكا، ايها الناس، مثل هذا السلاح السياسي ضد المقاومة العراقية انذاك وحققت نجاحا كبيرا، بعد ان عجزت عن انهائها بالقوة، او الحد من توسعها وانتشار لهيبها الى عموم مناطق العراق ومدنه، حيث منحت اطراف منها بعض المكاسب الفئوية الضيقة مقابل المشاركة في الاستفتاء على الدستور وفي الانتخابات "التشريعية" والعملية السياسية، لتنتهي بالنجاح الاكبر بعد تشكيل ما يسمى بالصحوات، التي طعنت المقاومة في ظهرها طعنة لئيم غادر.
ترى هل سيعيد التاريخ نفسه وتنجح امريكا في تحقيق هدفها الخبيث هذا، ام ان العراقيين لن يخدعوا بمثل هذه المحاولات المضللة، ويواصلوا نضالهم وكفاحهم حتى تتحقق اهدافهم المشروعة؟
من دون التورط في اطلاق الاحكام المسبقة، فان متابعتنا لما يجري في مناطق الانتفاضة لا تبشر بالخير، وخاصة في البصرة بعد احتلالها من قبل المليشيات المسلحة، التي امعنت في القتل والاختطاف والسجن، حيث تراجعت الانتفاضة وهدات نيرانها، الامر الذي يؤدي الى العودة الى المراهنة على الحكومة الجديدة وانتظار ما ينتج عنها من اجراءات اصلاحية. ناهيك عن ان بعض الدول والقوى والشخصيات، بدات بترويج مقولات ظاهرها الحق وجوهرها الباطل. من قبيل كفانا حروبا وسفك الدماء البريئة، كفانا تدميرا وخرابا، لنعطي القادم الجديد فرصة ونفسح المجال امام الحوار وحل مشاكلنا سلمياالخ. في حين يجري على مستوى اخر تنظير سياسي لهذه المقولات البائسة لخدمة ذات الغرض. حيث يجري خلط متعمد للمفاهيم السياسية. ونقصد هنا الخلط بين ما يسمح به المفهوم السياسي لجهة الحوار وحل المشاكل بالطرق السلمية في ظل بلد مستقل. وبين الحوار مع احزاب طائفية وعرقية نصبها المحتل من اجل تنفيذ مخططاته الغادرة وتكريس مشروعه لعقود طويلة من الزمن. اذ ليس هناك اي قاسم مشترك، اعظم او اصغر، يلتقي حوله عملاء الاحتلال وعموم الشعب الذي يتطلع الى الاستقلال والحرية والتقدم الاجتماعي.
باختصار شديد، فان قبول الشعب وقواه الوطنية المباركة بانصاف الحلول، وفق المثل القائل "اللي شاف الموت يرضى يالصخونة" سيشكل خطرا على الانتفاضة الشعبية من جهة، ويمنح الحكومة فرصة اربع سنين اخرى لتكريس مخطط المحتلين من جهة اخرى. حيث ستتوجه عيون الناس من جديد نحو الحكومة بهذا القدر او ذاك، وتبقى في حالة الانتظار لما ستجود به من مكارم وهبات. يضاف الى الى ذلك تركيز اعلام المحتل العملاق، الذي هو الاخر بحاجة الى تجميل وجهه القبيح،على ضرورة انهاء معاناة العراقيين، وترك العراق لاهله لكي يديروا شؤونه بما يخدم مصالحهم"!.
لا تحسبوا ان هذا سيناريو بائس، أو "فلم هندي طويل"، وانما هو مخطط مدروس، يدخل كعنصر اساسي في استراتيجية كل محتل، يجد نفسه امام صعوبات تحرمه من البقاء مدة طويلة. الامر الذي يفرض علينا كعراقيين، التدقيق في هذا السيناريو الخطير، على الاقل من باب الاحتياط. فمروره في جنح الظلام يعني بكل صراحة ووضوح، استمرارمعاناة شعبنا المظلوم فترة طويلة، بالمقابل ينبغي على القوى والاحزاب الوطنية والشخصيات السياسية والمثقفين وغيرهم القيام بحملة توعية لفضح وتعرية هذا التوجه الخبيث من جهة، والدعوة الى التمسك بالثوابت الوطنية وعدم المساس بها او المساومة بشأنها، ورفض مثل هذه المحاولات المضللة من جهة اخرى.
ان اية مراهنة على تعديل او اصلاح العملية السياسية من داخلها، او على سقوطها من تلقاء نفسها، لهو في ظلال مبين في احسن الاحوال، لقد قدم لنا اطراف العملية السياسية فرصة ثمينة للاجهاز على هذه العملية السياسية الطائفية المقيتة، والتخلص من شرورها جراء البداية السيئة للغاية بعد فوزهم في الانتخابات المزورة، وجراء فضائح صراعهم من اجل الفوز بالكتلة الاكبر، او التنافس بطرق مخزية ومعيبة على تسمية رئيس الحكومة، او تقسيم الرئاسات الثلاثة. ان التاريخ ليس كريما على الدوام في منح مثل هذه الفرص الثمينة.
عوني القلمجي
2/10/2018
888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع