القس لوسيان جميل
طريقان اساسيان لمعرفة الباري هما طريق قوى العقل وطريق قوى المشاعر
ان الطريقين اللذين يؤديان الى معرفة افضل للباري من الطريق التقليدي هما: طريق قوى العقل الموضوعية والفلسفية، الذي سبق ان نوهنا عنه، وطريق قوى المشاعر الوجدانية الذاتية Subjectif. وهنا قد يحسب من قرأ كتابنا: كيف نتكلم عن الله اليوم، بأننا قد غيرنا فكرنا الذي كنا قد وضعناه في الكتاب المذكور، غير اننا بالحقيقة لم نغير فكرنا بشيء، وإنمـا قد وضعنا اضافـة منهجية جديدة، ليس الا، كما سيرى القارئ فيما يلي ان شاء الله.
ففي الكتاب المذكور وفي الكتاب الآخر المعنون وجه الله، منهجية انثروبولوجية خارج الأسوار، كنا قد ركزنا على الجانب الأنثروبولوجي الوجداني وعلى المشاعر المقدسة الذاتية لتقول لنا من هو الله وجدانيا، وليس فلسفيا بالتأكيد. اما الآن فنضيف العامل الفلسفي لمعرفة شيء محدد عن الله، الا وهو حتمية وجوده، بناء على وجود العلة الثانية، حيث تأكدنا فلسفيا ان الله موجود بدلالة فلسفية معينة، فضلا عن الدلالات الذاتية Subjective التي نجدها في كتابينا المذكورين، مع اننا متأكدون من ان قضية وجود الله الفلسفية هي غير معرفة طبيعته ومعرفة صفاته الذاتية الانطولوجية. فهل يمكن ان تسمى هذه الاضافة تناقضا؟ بالتأكيد لا يمكن ذلك، لأن الاضافة تنتج عن اكتشاف جديد ومقبول، قد تكون اضافة جوهرية، لم نكن قد حسبنا حسابها.
العامل الفلسفي: قبل ان نبدأ باختصار هذا العامل اظن انه يجدر بنا ان نعطي نبذة مختصرة عن عامل المعرفة هذا، والذي اسميناه العامل الفلسفي الذي تمت اضافته الى العامل العلمي الأنثروبولوجي للحصول على معرفة محددة عن مسألة وجود الله. فالعامل الفلسفي هو الطريقة العقلية لمعرفة بعض انواع الوجود التي لا تقع تحت التجربة الحسية، والتي هي التجربة الاعتيادية التي فيها تتم المعرفة البشرية، كما انها لا تقع تحت تجربة المشاعر الذاتية الحسية والأحاسيس. اما بكلمة أخرى اوضح فنقول: ان المعرفة الفلسفية معرفة تعتمد على العقل المتأمل، وليس على التجربة العلمية، وكم بالأحرى لا تعتمد على" مبنى القصص الاسطورية " وعلى المعتقدات التي تنتجها مخيلة الانسان.
لا يوجد تناقض في منهجيتنا: وعليه، فإننا بإضافتنا فكرة فلسفية جديدة الى كتابنا: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، نحن لا نضيف شيئا متناقضـا مع منهجيتنا السابقة، التي يمكن ان يجدها القارئ في كتابنا المذكور. فالإضافة بالحقيقة لا تؤثر على سبيل معرفتنا بطبيعة الله، ولكن تأثر قليلا على مسألة وجوده ام عدم وجوده حسب، وهي مسألة غامضة وغير خاضعة حتى للعقل البشري، ناهيك عن مشاعره الأنثروبولوجية. ففي الحقيقة، نحن لا زلنا نؤمن ايمانا راسخا بأن معرفة الله الحقيقية لا يمكن الا ان تكون معرفة ذاتية Subjective مبنية على المشاعر، التي بدورها تستند الى " حاجة " انثروبولوجية " مطلقة، تصير حاجة مقدسة عند الانسان وبالشروط المذكورة، مما يعني ان الله لا يعطي الحاجات المادية للإنسان، ولكن يعطيهم فقط الحاجات الروحية التي تجعل من الانسان اكثر انسنة وأكمل، في الفضائل الانسانية الموجودة في حياة كل البشر، ومنها فضيلة حق الانسان، كل انسان، على العدل والمحبة والكرامة. اما ان نضع فقرة فلسفية تقول بأننا يمكننا ان نعرف " وجود الله " وليس شكل طبيعته، نتيجة فكر فلسفي يقول: لولا الوجود الأول لما كان الوجود الثاني ( العلة الثانية ) قائما، فلا يوجد، اي تناقض بين هذا القول وبين ما سبق وان قلنا ان معرفة الله تأتي من حاجة انثروبولوجية مطلقة.
بعض الملاحظات: وبناء على ذلك، فإننا نسمح لأنفسنا ان نضع هنا بعض الملاحظات التي نوجزها على قدر المستطاع. اما هذه الملاحظـات، التي نأخذها بالحسبان، فإنها تقول لنا ان " وجود الباري وجودٌ ثابت فلسفيا، اقله في الفلسفات التي تطرقت الى هذا الوجود، مثل فلسفة ارسطو – توما الاكويني وفلسفة عمانوئيل كانت وغيرهم، حيث نرى ان هذا الوجود وهو حجر الزاوية، لفهم وجود العلة الثانية، اي الكون بقوانينه وبما فيه. فإذا كان الأمر هكذا، فهذا يسمح لنا ان نستنتج بأن الباري (العلة الأولى) والذي سبق ان قلنا اننا نحـن البشر لا نستطيع ان نعرف عنه شيئا، عن طريق العقل الفلسفي الذي كان توما الاكويني يسير عليه فلسفيا، نقول الآن: بلى نستطيع ان نعرف عنه انه موجود، لا بل هو واجب الوجود، بدلالة وجود العلة الثانية، وان هذه المعرفة لا يمكن الاستهانة بها. فضلا عن ذلك، ربمـا نستطيع ان نقول ان الباري هو عقل، لم نستطع نحن البشر ان نعرف طبيعته بعد، وأننا لن نعرفهـا في اي مستقبل آخر، حتى اذا عرفنا عقليا ومنطقيا ان العقل موجود، بدلالة وجود الباري الفلسفي.
لماذا لا نعرف حقيقة العقل الالهي: وهنا نرى ان نكرر ونقول: اننا نحن البشر لا يمكننا ان نعرف حقيقة الباري وحقيقة عقله، من خلال المنطق البسيط، لأننا لا نرى على ارضنا، اي وجود للعقل البشري يمكننا تطبيقه على عقل الباري وطبيعة عقله، مثلما سبق ان قلنا بعدم وجود شيء في عالمنا يساعدنا من باب التماثل Analogie على معرفة طبيعة الله علميـا.
المعرفة والمخ: ففي الواقع نحـن نعرف ان العقل، او المعرفة البشرية، تأتي من خلال المخ ( الدماغ )، ومن خلال قدراته المتنوعة، كما نعرف ان هذا المخ مع قدراته، مخ مبني على مادة، ولا شيء فيه نستطيع ان نقول عنه بأنه يأتي من الله، وانه قدرة غير مادية. علما بأن المخ، يكاد ان يكون لدى كل الحيوانات ايضا، الصغيرة منها والكبيرة، لأننا نعرف ايضا، ان معرفـة الحيوانات هي مماثلـة لمعرفـة الانسـان، حيث ان الفرق ليس فرقا جوهريا نوعيا، لكنه فرق كمي حسب. فهل يجوز ان نقول ان الباري يملك مخا مثل مخ البشر؟ الجواب الحتمي هو ان الله لا يمكن ان يوجد له مخ كمخ البشر، بشكل مطلق.
اما اذا تكلمنا بخلاف ذلك، فان اي كلام فلسفي عن العلة الأولى يكون كلاما وهميا، ومجرد كلام يشبه اللغو Verbal، يعني " حكي فلاسفة"، ولذلك لم نستطع قبول لاهوت توما الاكويني الذي يرى اننا يمكننا ان نعرف، ليس وجود الباري حسب، ولكن نعرف طبيعته الذاتية، عن طريق براهينه الخمسة، وعن طريق التماثل.
دور العلة الثانية: اما الكلام اعلاه فيعني ان الباري، وبعد ان خلق العلة الثانية، سلم هذه العلة بأكملها للقوانين الموجودة فيها. هذا اذا استطعنا ان نستخدم كلمة سلم، لأن الباري لم يسلم شيئا لأحد، وإنما يضع قوانين المادة، ومن ثم تقوم هذه المادة بالتصرف بحسب القوانين التي وضعت فيها. ومعنى هذا انه من تلك اللحظة، اذا جاز لنا الكلام عن اللحظات، لن يتدخل الباري بعد بشأن العلة الثانية، بما في ذلك حدوث ما يسمى الانفجار العظيم وسائر التطورات الأخرى، ووجود الحياة والإنسان على سطح الأرض، حيث تصير شؤون العلة الثانية شؤونا علمية متعلقة بالعلة الثانية حسب.
الانسان ليس دمية بيد الله: اما لو سئلنا وقيل لنا لماذا؟ فنقول لأنه لا يفترض منطقيا بالباري ان يتصرف مع البرية تصرف محرك الدمى Marionettes، كما يظهر. علما ان عبارة لا يقبل هي الأخرى عبارة غير دقيقة ومجازية. اما المعنى الأهم الذي نستنتجه من هذه المبادئ المذكورة، فيشير الى عظمة الانسان، وعلى عظم مسؤولياته، وعلى قدراته على بناء العالم، اي على بناء عالمه المادي وعالمه الروحي: الانساني الأنثروبولوجي.
نتائج الكلام اعلاه: فبناء على ما تقدم، يمكننا ان نقول: إذا ما نجح الانسان في هذا البناء وفي هذه المهمة الخطيرة والعظيمة في وقت معا، فإننا لا نملك سوى ان نقول: طوبى لك ايها الانسان. اما اذا فشل، فانه وحده يتحمل عواقب فشله، وليس غيره، هذا الفشل الذي نعزوه خاصة الى عتاة الزمان. غير اننا، وبروح المتساهل يمكننا ان نقول للفاشل: جرب حظك وعلمك مرة ثانية Essayez une deuxièmes fois. بعد هذا يمكننا ان نؤكد بأن اعظم ما تفعله العلة الثانية، من خلال القوانين الموجودة فيها، هو ان توجه فكرنا ومشاعرنا نحو الواحد والأول الموجود، الذي نسميه الباري، بتسمية افضل من تسمية الخالق، بحسب ما تتطلبه منهجيتنا المعرفية واللاهوتية العلمية والأنثروبولوجية.
طريق معرفة الله الأنثروبولوجي: اما طريق معرفة الله الأنثروبولوجي، فهو الطريق الطبيعي البسيط للوصول الى اله البشر، لأنه طريق المشاعر والوجدان، وليس طريقا عقلانيا فلسفيا. فالمشاعر الذاتية Subjectif الوجدانية تعني ان معرفة الله تبدأ من داخل الانسان على شكل مشاعر مقدسة، ما تلبث ان تنتقل من شخص الى آخر، حتى تعم المجتمع، اقله ضمن مجتمع محدد، وفي وسط حضارة خاصة، وذلك لأن الانسان في حقيقته ليس جزيرة معزولة، وإنما هو أواني مستطرقة متصلة بعضها ببعض، بحسب قانون انثروبولوجي معقد جدا. علما بأن القارئ سيجد هذه الأفكار في الكتابين المذكورين العائدين لكاتب هذا المقال. وبما انه ليس من السهل الحصول على هذين الكتابين لسوء التوزيع المجاني الذي تم فيه، فاني ارى ان اعطي تعريفا كافيا لطريقة شعور الانسان الأنثروبولوجي بحقيقة الله القدسية، بحسب المنهجية اللاهوتية التي وضعها الكاتب في طيات الكتابين المذكورين، وفي اماكن اخرى كذلك، وسيكون ذلك بالطريقة الآتية:
1_ علم النفس:ان علم النفس، ولاسيما ما يتعلق بثوابت الانسان(علم النفس الأنثروبولوجي) يتكلم عن الحاجة، بحسب نظرية عالم النفس ماسلو، Maslow وسلمه المشهور، الذي يبدأ بالحاجات الأولية البسيطة ويصعد بالتدريج نحو الحاجات الأكثر تعقيدا. وبذا نفهم ان الانسان وكذلك المجتمع، لا يسيران سيرا عشوائيا، وإنما يسيران عادة بما تمليه عليهما رغبات العقل الباطن، هذا العقل الذي يبدو لنا وكأنه مخزن للرغبات البدائية، مما يعني ان الانسان تسيره حاجة انثروبولوجية في اغلب شؤونه. علما اننا هنا نتكلم عن اعلى الحاجـات الانسانيـة، وهي الحاجات الروحية الانسانية، وحتى المقدسة منها، وذلك لأن المقدس عندها هو مقدس انثروبولوجي وليس انطولوجي، الأمر الذي يعني ان الاله بحسب المفهوم المعاصر، ليس هو الاله غير المدرك في طبيعته، وإنما هو الاله الذي نعرفه من حضوره الأنثروبولوجي بين البشر، عن طريق المحبة والعدل وحاجة الانسان الى الكرامة البشرية.
كاتب هذه الأسطر: غير ان كاتب هذه الاسطر، كان يعرف هذه الحقيقة اعلاه قبل ان يخبره احد اساتذة الجامعة عن العلم المذكور، ويقول له: بأن ما تقوله هو نظرية عالم النفس ماسلو. ولكن بعد ان عاد الكاتب الى البيت فتش عن نظرية ماسلو، فرأى ان ما قاله الاستاذ المذكور كان قولا صحيحا. لكن، وعلى اي حال، للكاتب رأيه ايضا، حيث ان ما يقوله يختلف من بعض النواحي المهمة عن النظرية المذكورة، ومنها ان الكاتب يضع الله في قمة الهرم الانثروبولوجي، لأن الكاتب لا ينظر الى الله نظرة انطولوجية، اي نظرة كينونة، وإنما ينظر اليه نظرة انثروبولوجية انسانية متأنسة، وذلك بخلاف العالم ماسلو. علما بأننا نجد كثيرا من العلماء يتجنبون الكلام اللاهوتي، بحجة انهم ليسوا مختصين باللاهوت، حيث يأتي هذا التجنب غالبا من باب خشية التيارات الدينية التقليدية.
2- الحاجات وأحوالها: نستنتج مما تقدم بأن اية حاجة يطلبها الانسان، تتحول الى حاجة محبوبة، يحاول صاحب هذه الحاجة ان يحصل عليها بقوة تتناسب مع شدة الرغبة في الحصول على تلك الحاجة. كما تتحول هذه الحاجة الى امل قليل او كثير بحسب اهمية تلك الحاجة عنده. غير ان هناك حاجة واحدة تكون شديدة الأهمية عندما تكون هذه الحاجة حاجة انثروبولوجية مطلقة ( غير نسبية ) وثابتة عند الانسان، وتكون حاجة يفتقدها الانسان، بحيث يشعر انه لا يستطيع ان يعيش بصورة مقبولة اذا لم يحصل على حاجته هذه. كما تكون هذه الحاجة حاجة مستقبلية غير متاحة بيد الانسان وغير سهلة المنال بالقدرة الذاتية. اما مثل هذه الحاجة والتي تظهر في حياة الانسان في زمن الانقلابات الحضارية خاصة، فلا تكون محبوبة فقط، ولكنها تكون مقدسة ايضا، وتحمل عند اصحابها سمات القدسية المعروفة. لماذا يحدث هذا؟ الجواب لأن الانسان هو الانسان. ولأنها مسألة تعود الى الأنثروبولوجيا.
قصة رمزية قصيرة: كان صديقان يسيران في شارع في فرنسا، فرأيا شابا أفريقيا متأبطا ذراع فتاة شقراء، وكان الاثنان فرحين مسرورين. فقال الصديق لصديقه: اني اتعجب كيف تحب هذه هذا؟ فأجابه صديقه بحكمة، او بشيء من الفلسفة قائلا: ان هذه يا صديقي، تحب هذا لأن هذه هي هذه ولأن هذا هو هذا، ولا تفسير آخر لذلـك. ماذا يعني هذا الكلام الفلسفي؟ انه يعني ببساطة ان الانسان مخلوق هكذا، له ثوابته، كما له تعدديته و فرادته، لا بل له عالمه الذي يصنعه من خلال قواه الانسانية. اما طبيعة الانسان فتتحكم فيها قوانين معقدة جدا، فيها ما يُلزم الانسان وفيها ما يعطيه حرية الاختيار والتفضيل. فـ/ الأنثروبولوجيا، في وجهها البنيوي خاصة، تتحمل التقسيم بأشكاله المختلفة، ولاسيما بشكله البنيوي، حيث تقسم اية منظومة الى مبنى المنظومة الظاهري، والى معنى المنظومة، التي يكون على الانسان السعي الى معرفته، لأنه معنى خفي ينتظر من يكشفه.
صورة الله تخضع لعامل القوة والضعف: وهنا نضيف بأن صورة الله التي يكتشفها الانسان هي الأخرى تخضع للتقسيم والتمييز، حيث نجد هذه الصورة المادية الأنثروبولوجية الظاهرة، مثل الله الواحد والله المتعدد والله الأب، الخ... اما المعنى الالهي الذي يظهر للبشر، بعد مجهود تأويلي، او يظهر لهم عن طريق قديس يبحث عن الله، او عن طريق شخصية متصوفة تكشف ما تستطيع كشفه عن الاله او حتى عن الانسان، او يظهر الله عن طريق حيران يبحث عنه عن طريق الفلسفة، او عن طريق المشاعر التي تقدم لنا اقوى وأجمل صورة عن الهنا، هذه الصور جميعها التي تكمن في ما نسميه " معنى " المنظومة البنيوية، والتي تخضع لعامل القوة والضعف، ولعامل الثبات وعامل الانتقاء، بين الحسن وبين ما يعده الانسان الأفضل له. علما بأن كل هذا يخضع لقانون آخر هو قانون الاحتمالات، والذي يؤدي مع الزمن الى انتصار مقاصد الطبيعة، ربما مع كثير من حالات الفشل والنجاح. علما بأننا نرى ايضا، اننا لسنا في كلامنا هذا، بعيدين خاصة عن قانون الجدل ( الديالكتيك ) والصراع الحضاري.
لم نضف شيئا الى طبيعة الله: ففي حينه لم نرى امكانية اخرى لمعرفة الله بشكل افضل، غير ما نعرفه عن طريق المشاعر. اما الآن فقد اكتشفنا امكانية اخرى لمعرفة شيء اضافي عن الله، وهو ان نعرف ان العلة الأولى يمكن ان نصل اليها فلسفيا، من دون ان نضيف بهذه الطريقة الفلسفية شيئا الى طبيعة الله الذي وجدنا فلسفيا انه واجب الوجود، بدلالة وجود العلة الثانية، كما يقال في الفلسفة، وذلك تجنبا لأي عمل تشبيهي Anthropomorphique.
اختلافنا مع توما الاكويني: وهنا طبعا نخالف منهجية توما الاكويني في مسألة تشبيه الله بالإنسان. فقد كان توما ينسب الى الهه صفات انسانية ايجابية، كالمعرفة والعدل والمحبة والقدرة وغير ذلك. ولكننا، وكما يعلم العارفون، فإننا نبقى قريبين من مار توما - ارسطو، في كل ما يتعلق بمسألة وجود الله، واجب الوجود، ولكننا نبتعد عن الاكويني، في مسألة طبيعة وصفات هذا الاله الذي تأكدنا فلسفيا من وجوده. وهكذا يبدو واضحا ان ما نفعله نحن ليس مشابهة خالصة، ولكنها وسيلة تعود لنا نحن البشر لفهم الأمور الغيبية، بشكل فلسفي انطولوجي، قبل ان يأخذ العلم دوره في ذلك. هذا اذا توصل العلم الى اعطاء حل لمثل هذه الأمور الفلسفية، والتي تقع خارج قدرة الذهن البشري لاستيعابها، بسبب ما يصيب الذهن البشري من اعياء، تسببه صفة لا محدودية كثير من الأمور التي تخص عقل الانسان، او تخص مشاعره، او حتى تخص الموضوع المعروض امام معرفة الانسان، عندما يكون هذا الموضوع غاية في السرية وغاية في القوة والعظمة، وغاية في الخفاء.
نحن ايضا نستخدم المشابهة: وهنا يكون اهم ما يجب ذكره هو اننا، نحن ايضا، نستخدم اسلوب المشابهة بتشبيه الله بالإنسان، وعلى العكس من ذلك، بتشبيه الانسان بالله، كما تكلمنا عن ذلك اعلاه. غير ان هذه المشابهة لا تمس طبيعة الله الانطولوجية بشيء( اي الله كما هو في كينونته الذاتية )، بل تخدم معرفتنا الأنثروبولوجية، نحن البشر، في هذه الحالة الخاصة التي نسميها معرفة الله، او نسميها معرفة الباري، او الخالق. ولاحقا في تعريف الانسان الذي نجد فيه كثيرا من السرية التي تحتاج الى التأويل.
هذا في حين اننا من الناحية المبدئية نستطيع ان نتكلم كلاما انثروبولوجيا يستند الى المشاعر الوجدانية، دون غيرها، لأن الصفات الأنثروبولوجية التي نكتشفها عند الله بهذه الطريقة كافية لتدلنا على الموصوف، هذه الصفات التي لا ننسبها لله اعتباطا، وإنما تظهر لنا بكل قوة كجزء من الحياة، في حين ان توما الاكويني يخلع على الهه صفات يعدها اعتباطا ملازمة للكائن الالهي، سواء كان عمله مشروعا ام لم يكن.
طبيعة الله: وهنا، وقبل ان نعبر الى الفقرة التالية، يبرز امامنا تساؤل مهم يقول: اذا كنا نتكلم عن" طريقين " لمعرفة الله فهل يا ترى تؤدي منهجيتنا الى تقسيم الله، الى قسمين؟ لقد سبق ان اجبنا على مثل هذا التساؤل، وقلنا اننا لا نقسم الله الى قسمين، ولكننا نقسم معرفتنا به الى قسمين او طريقين، هما الطريق الفلسفي والطريق الأنثروبولوجي، حيث يؤدي هذان الطريقان الى معرفة الله، او على الأقل لمعرفة شيء منه، يكون كافيا لتسيير حياتنا الانسانية. ففي الحقيقة نحن البشر محدودون من حيث امكانية استيعابنا للأمور التي تقع ضمن ما هو مطلق Absolu ou infini مثل المطلق الذي يقع ضمن الزمن والمساحة والبعد والعدد الذي يفوق قدرا معينا، وكذلك عندما يكون المطلق ضمن طبيعة الكائنـات غير المنظورة وغير المحدودة بحدود المادة والزمن وسائر الأمور الأخرى المادية.
لا نقسم الله، بل نقسم معرفتنا به: بعد كل ما ذكرنا من تقسيم معرفتنا بالعلة الأولى، او بالباري، الى معرفة فلسفية ومعرفة وجدانية وذاتية Subjective هاتان المعرفتان اللتان تُظهر اولاهما لنا، حتمية وجود الباري او الخالق، وجودا فلسفيا ومنطقيا، بدلالة وجود العلة الثانية، اي الكون وما فيه، ثم المعرفة الوجدانية الملاصقة لمعرفتنا الانسانية والمغروزة Innée فينا، كما نجد ذلك عند الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والمولودة معنا، كما يشير بذلك المصطلح الفرنسي ذو الأصل اللاتيني.
احتجاج: وهنا، فإننا قد نسمع من يقول لصاحب هذه المنهجية، بأنك تقسم الله الى علة اولى، بكونه باريا للعلة الثانية، والى اله تعده مرافقا للحياة البشرية، على شكل حاجة انثروبولوجية مطلقة تصبح في نظر من يفتقر اليها حاجة مقدسة. فنقول للمحاج مرة ثانية بأننا لا نقسم الله، ولكننا نقسم معرفتنا به، حسب. اما الدليل على ذلك، فان الشعور بما هو مقدس لا نتعلمه من خارج انساننا، بل من داخله، حتى نستطيع الآن ان نقول بأن الله يصاحب حياة الانسان كلها منذ ولادته الى يوم وفاته. الأمر الذي يجعلنا نقول ايضا، بأن تعاملنا مع الله هو تعامل انثروبولوجي وبنيوي ايضا، كما نفهمه في زمننا.
لاءات متعددة نقولها هنا:اما جوابنا على تساؤل السائل اياه فيقول بأننا في الحقيقة لا نستطيع ان نؤثر على الله بشيء ولا ان نجعل من الله انسانا مثلنا، ولكننا نحن البشر بحاجة مطلقة الى ان نقسم معرفتنا بالله بحسب الصورة التي تظهر لنا عن الله نحن البشر، هذه الصورة التي هي كافية جدا للحوار مع الله وللاستفادة البنيوية منه.
وفي الحقيقة، لولا هذه الصفة البنيوية Structurale ربما ما كنا نكون بحاجة الى اله نعرفه معرفة مناسبة لطبيعتنا البشرية، ولما كنا احببناه وجعلناه مقدسنا. فالبنيوية كعامل انثروبولوجي فينا، هي التي يجب ان تقود تفكيرنا نحو طريقة تعاملنا الطبيعي مع الله، وذلك لأننا بهذه الطريقة سنكون متوافقين مع طبيعتنا البنيوية، وبالتالي نكون على الطريق الصحيح لمعرفة الله، ولا نتكلم عن الله من بنات افكارنا الخيالية.
تأكيد على جواب: وعليه نجيب السائل اياه ونقول مرة اخرى اننا لا نقسم الله ولا يعقل ان تفضي افكارنا الى الاعتقاد بوجود الهين، مثلا، هما اله الخير واله الشر. هذا اذا تكلمنا عن الاله بمعناه الانطولوجي ( ككينونة سماوية ). اما في منهجيتها، فإننا لا نمس الاله، بمعناه الأنثروبولوجي، او لا نمس الاله بذاته السماوية، ولذلك فان تجزئة هذا الاله امر طبيعي سواء كانت هذه التجزئة بسبب طبيعتنا الانسانية التي لا يمكنها معرفة اية حقيقة، مادية كانت ام روحية، الا بعد تفكيكها الى ابعادها المختلفة،اي بحسب ظهورها لنا، لكي تسهل معرفتها. ومن هنا نحن مجبرون ان نعرف الهنا من خلال " اعماله " الالهية معنا.
ماذا يحدث لنا اذن: وفي الحقيقة ان كل ما يحدث لنا هو اننا ننتقل منهجيا من كلام انطولوجي عن الله، الى كلام انثروبولوجي انساني، والى كلام تتصف فلسفته بنوع من الفلسفة العلمية، حيث نجد ان هذا الكلام يتكلم عن الله بلغتنا وعقليتنا الانسانية، دون ان يمس كينونة الاله بشيء. ولذلك نرى انه هنا يكمن الاختلاف بيننا وبين اللاهوتي والفيلسوف الكبير: توما الاكويني. فتوما الاكويني لا يقسم الله نظريا بالتأكيد، ولكنه يقسمه عمليا حينما ينسب الى طبيعته صفات بشرية متعددة، بحجة اننا مخلوقون كبشر ووهب لنا هذا الاله الصفات السامية الأنثروبولوجية المعروفة:العقل والإرادة والعلم والمحبة والعدل وغيرها من الصفات والثوابت البشرية.
اين المفر: فأين المفر يا توما الاكويني من طبيعتنا البشرية التي لا يمكن ان تفهم اية حقيقة روحية الا بعد تقسيمها الى ابعادها المختلفة. اما ان نفترض ان الله السماوي هو المالك الحقيقي لجميع الفضائل التي يعطيها للبشر فان مثل هذا الكلام يفتح بابا جديدا لمناقشة توما وللاختلاف معه، لأن مثل هذه الصفات اصلا ليست حاجة من حاجات الاله، بل هي حاجة من حاجات الانسان. ولذلك، فان مثل هذا الكلام، هو مجرد ثرثرة كلامية او فلسفية، ولا يستحق التعليق لأنه حيلة فلسفية دفاعية حسب، وقد لجأ توما الى مثله مرات عديدة. والأغرب من ذلك هو ان اللاهوت التوماوي جعل ابوة الله نموذجا لأبوة الانسان، وليس العكس، لأن ما يقول الاكويني مجرد تبرير للكلام عن ابوة الآب للابن يسوع، حيث يتشبث توما الاكويني بأن تكون فكرة الأبوة فكرة انطولوجية ولا تكون فكرة انثروبولوجية قابلة للفهم الانساني، بدون لف ودوران فكري ولاهوتي. وفي الحقيقة، قد سقط توما الاكويني في مطب التشبيه، او بالأحرى التماثل، بسبب تمسكه اللاعقلاني بالعقائد، في زمن لم يكن التفسير العلمي للكتاب المقدس موجودا بعد.
لغتنا البشرية: اما هذا المنهج فيعتمد على نوع طبيعتنا البشرية، كما نحب ان نكرر، ومن ذلك طبيعة عالمنا الانساني البنيوي الذي يبقى عالما واحدا مع تعدد ابعاده، مما يتيح لنا ان نتكلم عن هذه الأبعاد، بعدا بعد آخر، بحسب ما يليق بكل بعد. وبهذا المعنى نقول ان الله واحد في جوهره ومتعدد الأبعاد من حيث الصفات الالهية الانسانية التي نراها نحن البشر فيه. ومن هنا ايضا نستطيع القول بلا تردد ان الهنا ليس متعدد الأبعاد في صفاته التي نراها فيه نحن البشر، لكننا نؤكد ايضا ان لكل انسان الهه ايضا، على قدر ما يستوعب هذا الاله وعلى قدر تحسسه بالصفات الالهية التي يستطيع الشعور بها في قرارة وجدانه. ولذلك نسأل: اليس الله معنا، فلماذا تخافون من هذا التغيير المنهجي الذي تقرأونه في منهجيتنا؟ وهكذا ننتقل الى الصفات الملازمة لله، والتي تظهر عند الناس بأشكال شتى وأشباه مختلفة( مار بولس ). ومرة اخرى نقول اننا هنا نستخدم ايضا، فلسفة قريبة من العلوم كثيرا. ثم نعبر الى الطريقة الأنثروبولوجية التي نرى ما يمكن ان تعطينا عن هذا الاله.
ما هو جدير بملاحظتنا: اما ما هو جدير بالملاحظة هنا فهو ان طريقة معرفة الله هذه لا تنتظر ان يصبح الانسان عالما وفيلسوفا حتى يتكون عنده الشعور بالإله في قعر وجدانه الانساني العميق. اما الشعور الايماني والذي يرافق البشرية في جميع مراحلها الحضارية، فانه يبدأ منذ ان يصل الانسان درجة كافية من الانسنة ومن تطور المشاعر عنده. علما اننا في كتابنا المنهجي اللاهوتي: كيف نتكلم عن الله اليوم، منهجية لاهوتية خارج الأسوار نتكلم بإسهاب عن هذه الحقائق، في حين نشير هنا الى هذا الموضوع باقتضاب. ومن هنا فان منهجيتنا لم تقصر على تبيان وجه الله البنيوي، وتشير بوضوح الى صفة الله كعلاقة، هذه العلاقة التي قلنا قبل قليل انها نشأت عند الانسان منذ نشأة هذا الانسان على سطح الكرة الأرضية تقريبا.
2954 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع