علي المسعود
رواية خوزيه ساراماجو (العمى ) بين الرواية والفيلم...
إن كنت تستطيع أن ترى فانظر
إن كنت تسطيع أن تنظر فراقب
هكذا افتتح «ساراماجو» روايته البديعة ورسم مستويات الادراك الثلاثة،. الرواية التي تقع في سبعة عشر فصلا يحتلون مايقرب من ثلاث مائة وسبعون صفحة ،و الرواية تحكي عن وباء غامض يصيب مدينة ما بالعمى حتى تشيع الفوضى وتتحول المدينة الى مقلب قمامة كبير يخص حديقة حيوانات غير مدربة على الحياة يتسلم الجيش مقاليد الامور كعادة اي بلد يشيع فيها الفوضى ثم يتركها لعصابات العميان لتعبث كما تشاء . "العمى " هو اسم الأطروحة التي تركها البرتغالي الكبير ( خوزيه ساراماجو ) ندور في متاهات من التساؤل كلما قرأنا هذا العمل، كم من القبح يمكن أن يكون قابعا في أعماق إنسانيتنا؟.. أيكون الإنسان متحضرا لكونه جُبر على التحضر أم بشريتنا فقط أجُبِرت على ذلك إلى أي مدي يمكن أن نساوم على إنسانيتنا مقابل البقاء علي قيد الحياة ؟, بل أي حياة هي التي تستحق المقايضه ؟؟ .
خوزيه ساراماجو هو الروائي البرتغالي الأبرز والحائز على جوائز أدبية عديدة أبرزها جائزة نوبل في للآداب في عام 1998، وهو ليس غريبًا على القاريء العربي إذ قامت مجموعة متعددة من المترجمين العرب بنقل أعماله الكاملة تقريبًا إلى العربية ومؤلفاته التي يمكن إعتبار بعضها أمثولات تستعرض عادة أحداثًا تاريخية من وجهة نظر مختلفة تتمركز حول العنصر الإنساني .
وصفه الناقد الأمريكي البارز هارولد بلوم في 2002 بأنه " أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة" معتبرًا إياه جزءًا هامًا ومؤثرا في تشكيل أساسيات الثقافة الغربية. بدأ ساراماجو حياته صانعًا للأقفال ثم صحافيًا ومترجمًا قبل أن يكرس وقته كليًا للأدب. أصدر روايته الأولى "أرض الخطيئة" عام 1947 وتوقف عن الكتابة ما يقرب العشرين عامًا، ليصدر عام 1966 ديوانًا شعريًا، ثم عاد لكتابة الرواية. له أكثر من عشرين كتابًا ويعتبره النقاد واحدًا من أهم الكتاب في البرتغال بفضل رواياته المتعددة الأصوات والتي تستعيد التاريخ البرتغالي بتهكّم دقيق قريب من الأسلوب الذي اعتمده الأديب الفرنسي فولتير. كان عضوًا في الحزب الشيوعي البرتغالي منذ عام 1959 وحتى آخر أيامه، نشط في في محاربة العولمة، كما كان من المشككين في الرواية الرسمية لأحداث 11 سبتمبر وداعمًا قويًا للقضية الفلسطينية، ولم يتردد في نقد ازدواجية الولايات المتحدة في التعامل مع مشكلات الشرق الأوسط. توفي في 18 يونيو/حزيران 2010 عن عمر يناهز 87 عامًا في بيته في جزر الكناري .
أما فكرة العمى الجماعي الأولى تبناها الاديب الانجليزي «هربرت جورج ويلز» في قصته الشهيرة «أرض العميان)) وهي قصة خيالية تعد من أشهر القصص على الاطلاق للكاتب (هـيربرت . ج . ويلز) طبعت لأول مرة عام 1936 وما زالت حتى الان واحدة من اروع القصص العالمية وفيها يحدثنا فيها المؤلف وكاتب القصة هذه عن مرض غريب انتشر في قرية نائية معزولة عن العالم بجبال الانديز فأصاب المرض سكان القرية بالعمى, ومنذ تلك اللحظة انقطعت صلتهم بالخارج ولم يغادروا قريتهم قط و تكيفوا مع العمى وأنجبوا أبناء عُميان جيل بعد جيل حتى أصبح كل سكان القرية من
العميان ولم يكن بينهم مبصر واحد . وحين يسقط متسلق جبال في وادي سحيق ليكتشف تلك القرية ويكتشف أن هناك مجتمع كامل من العميان يستوطنه، سخر القوم منه وبدأوا يقهقهون بل ووصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون، وقرر بعضهم إزالة عيون (نيونز) متسلق الجبال فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه . لم ينجح بطل القصة (نيونز) في شرح معنى البصر وكيف يفهم من لا يبصر معنى البصر ؟ . فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه وهو يتساءل :
كيف يصبح العمى صحيحاً بينما البصر مرضأ ؟؟
لكن ساراماجو ذهب بجدلية العمى لابعد من ذلك بكثير . وحين ذهب المخرج البرازيلي «فيرناندو ميرليس» ليحاول اقناع ساراماجو بتحويل رائعته لفيلم سينمائي وبعد محاولات كثيرة قال ساراماجو : «حسنا «فيرناندو»، لا اسماء، لا مدن محددة، لا زمن محدد ))
قرّر المخرج البرازيلي " فرناندو ميرليس "خوض تحدٍّ مع نفسه لتحويل تلك الرواية إلى فيلم سينمائي حين وقع اختياره على رواية ساراماجو "العمى"، وهو الذي كان بنى شهرته العالمية على فيلم "مدينة الله" في فيلمه المأخوذ عن رواية وبنفس الاسم للروائي البرازيلي بولو لينس.
والفيلم " العمى " يبدأ حين يصاب رجل أسيوي بالعمى أثناء قيادته للسيارة يتوقف في الإشارة
الضوئية الحمراء، تخضّر الإشارة ولايتحرك ويتسبب توقفه في تعطيل الطريق المزدحم بالسيارات. يقوم رجل آخر بمساعدته وإيصاله إلى أحد العيادات الطبية ثم يقوم بسرقة السيارة وهو بهذه الحالة الغريبة من فقدان البصر . تتوالى الايام و الليالي ومعها تتوالى الضحايا في تتابع ألاحداث المنفصلة
ويصيب المرض عددأ كبيرا من ساكني تلك المدينة وتعلن السلطات عنه كوباء من الدرجة الاولى,
وتجند الخبرات في البحث و الدراسة لمعرفة ماهية الوباء و أسبابه و علاجه وتطل وزيرة الصحة لتوصي المواطنين باتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة للحد من إنتشاره ( لاحقأ ستصاب الوزيرة نفسها بالعمى ) . هذا الوباء الغريب الذي يحل على سكان تلك المدينة المجهولة والذي يصيبهم بالعمى الابيض لأن مايظهر أمامهم هو البياض بدل السواد . تفرز هذه الحالة الفوضى و الأضطراب و العنف و الخوف . يتم إدخال المصابين في الحجر الصحي للحد من إنتشار ذالك الوباء الغامض و في نفس الوقت نكتشف هناك شخص واحد لم يصبه ذالك الوباء وهي زوجة طبيب العيون وتخفي ذالك و لاتعلنه وتؤدي هذا الدور الممثلة القديرة ( جوليانا مور) , وتخفي حقيقة سلامتها من الوباء كي تكون قريبة و بصحبة زوجها والتي ستصبح فيما بعد بمثابة النور الذي يقود المصابين بالوباء. المدينة المجهولة تصبح مجازًا لمسيرة العميان التي تمشي على هديها البشرية وهو ما يحاول المخرج وكاتب السيناريو التعبير عنه في معرض تعليقهما على الفيلم من خلال إدراكهما للفارق بين فكرة ساراماجو، وبين كليشيهات أفلام الخيال العلمي الهوليوودية. يقول ميراليس: "أنا لا أحاول شرح ما أحبّه في الرواية أو كيف سأحكيها. كل ما أستطيع قوله إنني سآخذها بعيدًا عبر رؤية تنقل العمل من الفضاء الروائي إلى السينمائي، من خلال التركيز على فكرة فقدان البشرية للبصيرة قبل البصر،وكيف أننا ما زلنا على قدر من الحيوانية المغطاة بقشرة الحضارة، والتي سرعان ما تسقط عنا، ويسقط معها المنجز الإنساني، وتحديدًا في إصرارنا على تخريب هذا الكوكب الذي يحملنا بصبر، وقد ضاق ذرعًا بنا بينما .تتركز الشخصيات الأساسية في ثلاثة رجال وثلاث نساء وطفل وكلب، يتحوّل مستشفى المجانين الى مصحّة مزدحمة بالعميان الى جانب محجر للمشتبه بهم. وفيما تتكدس المجموعات البشرية الهائمة الباحثة عن طعام الرعاية، يطلق الجنود النار على المجموعات الهائجة في المصحّة قبل أن تفقد السلطة سيطرتها على تفشي الوباء الذي أصبح شاملًا ومصحوبًا بالمزيد من العنف. وحتى في ظل وضع خانق وكابوسي مثل هذا سنجد صراعات وأحزاب تقوم بين الموجودين من المصابين . أحد المصابين يترأس مجموعة عصابية تضع قوانين قاسية على العميان الآخرين ويبتزهم بأوامره للحصول على المال والمتعة مقابل الطعام، وفي واحد من أشد الكوابيس البشرية التي يعرضها الفيلم، تأتي مجموعة من رجال العصابة مدعومين بذكوريتهم وأسلحتهم التي تتنوع بين خناجر ومسدسات وعصي، يأتون لطلب النساء لمضاجعتهن أمام أزواجهن في مقابل الحصول على الطعام والشراب، يتم عقد صفقة الاغتصاب بالتراضي بين العصابة وبين المحرومين من الأكل والشرب لعدة أيام . في نهاية الرواية تقول زوجة الطبيب – المبصرة الوحيدة :
" لا اعتقد اننا اصبنا بالعمى، لقد كنا عميانا من البداية حتى لو امتلكنا عيونا مبصرة،"
نعم ربما كنا كلنا عميانا ورأينا بعيون الروائي (( خوزيه ساراماجو ))!!.
1922 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع