ضرغام الدباغ
تجربة وعبرة أكاديمية
كنت بين أعوام 1975 ــ 1977 أدرس في مرحلة الماجستير في جامعة لايبزغ / ألمانيا وحتى ذلك التاريخ كنت قد كونت تراكماً ثقافياً وسياسياً ومهنياً (كدبلوماسي)لا بأس به، وكنت حقاً على اطلاع دقيق في موضوعات التاريخ السياسي العراقي المعاصر، ولم تكن قد فاتتني معلومة أو مصدر لم أطلع عليه (إلا فيما ندر) لذلك كنت أعتبر نفسي مرتاحاً لجهة المعلومات والإحاطة بها.
وللأسف كان ذلك خطأ جسيماً مني، إذ اعتقدت أنني على خبرة أوسع من أساتذتي، في الشؤون التي أبحث فيها، وكان أستاذي المشرف الدكتور، البروفسور فيما بعد، آرمين برنر (Armin Börner) وهو متخصص في الأوضاع في مصر، ولكن الأستاذة في الكلية، الدكتورة إلزا ريشتر (Ilse Richter) وكان تخصصها العراق، على درجة وافرة من المعلومات والخبرة في الشؤون العراقية إضافة لقدراتها العلمية الرفيعة، ولما كان عنوان رسالتي " المقدمات السياسية للاستقلال الوطني في العراق " لذا كانت هذه الأستاذة تحضر معظم المناقشات الهامة مع أستاذي المشرف.
الدكتورة رشتر، كانت تعرف معلومات تفصيلية عن العراق قد لا يعرفها بعض العراقيين، ولكني كنت أزعم أني كنت أمتلك معلومات أكثر وفرة منها، وإذا كان بعض من هذا صحيحاً، إلا أنني كنت أفتقر لجوانب أخرى هي التعمق في فلسفة وعلم التاريخ، وهذا ما لم أكن أتبينه في ذلك الوقت. لذلك كنت كثيراً ما أشاكس أساتذتي وذلك باستعراض مواهبي الثقافية، ومعلوماتي الوفيرة، والأساتذة الألمان وغيرهم ربما، يدركون بسرعة شخصيات ممن يتعاملون معهم من طلبتهم، وأتجاهاتهم، ولكن ما لم أكن أعرفه، وهو ما كنت بحاجة ماسة أن أتعلمه على أيدي هؤلاء الأساتذة الكبار، هو فهم فلسفة التاريخ والسياسة، وليس تسلسل الأحداث، أو الأسماء بدقة شديدة.
وكنت قد كتبت في إحدى مباحث الرسالة، أن الجيش الروسي القيصري كان قد دخل العراق في الحرب العالمية الأولى من جبهتين: الأولى خانقين، والثانية راوندوز، وثورة أكتوبر الاشتراكية أمرت الجيش الروسي بالانسحاب من العراق. والدكتورة رشتر نفت وجود هذه الأحداث، فأبتهلتها بدوري فرصة لأحرجها، وجلبت مصدري وكان من تأليف ضابط عراقي شهير (اللواء الركن شكري محمود نديم، الجيش الروسي في العراق، بغداد/ 1967 ) والكتاب معزز بالخرائط وأسماء القادة، وبالتفاصيل الدقيقة.
ولكن الأستاذة الكبيرة لم يهتز موقفها العلمي كثيراً، وأنا ما زلت ليومنا هذا أنتقد نفسي على ما فعلت، أو على الأقل على مقصدي غير العلمي. ومنها تعلمت درساً بليغاً حفر في ذاكرتي أن : تعلم بدلاً من أن تشاكس. وأن موقفي العلمي كان خطأ، وأضر بي، لذلك لم تكن رسالة الماجستير التي قدمتها ترضيني قبل كل شيئ. نعم كنت أمتلك معلومات كثيرة جداً، ولكني لم أكن أعرف السبيل إلى ترتيبها، وحسن الاستفادة منها، وتحليلها واستخلاص الدروس والعبر منها. لأني لم أكن سوى طالب مبتدأ في دراسة متقدمة لعلم وفلسفة التاريخ.
وبعد سنة أو أكثر قليلاً، وعندما كنت أعد أطروحة الدكتوراه، أفتش بين أوراقي، وقعت رسالة الماجستير بين يدي وقرأت بعضاً منها فذهلت أن أكون أنا كاتبها. وبعد أيام التقيت أستاذي المشرف (في الدكتوراه) البروفسور دكتور غيرد كيك، فسألته كيف أعطيتموني شهادة الماجستير ؟ فسألني ولماذا ؟ فقلت له أني قرأت بالأمس رسالتي للماجستير وأني لا أستحقها وأجدها ضعيفة.
فقال لي ما لا يمكن أن أنساه : أنظر يا سيد دباغ نحن ندرس الطلاب ليكونوا علماء، ولا نتصارع معهم، ونحن نعلم منذ البداية أنك تستحق أن تكون مشروع عالم، لأنك مجتهد تقرأ كثيراً، وتحب العلم والمعرفة بإخلاص، ربما هناك مشاكل في طريقك وهذا أمر طبيعي، ولكنها مؤقتة وتزول بمرور الوقت والتجربة، والدليل ها أنت تطورت بدرجة لا تقبل على منجزاتك لما قبل سنة فقط ..!
تعلمت كثيراً من تجربتي، وخاصة في دراسة علم التاريخ، وخلافاً لما يعتقده الكثيرون، أن التاريخ تسجيلاً للحوادث فهذا لوحده جيد، ولكن التسجيل (Cronology) وهو لا يحتل إلا مساحة معينة من دراسة التاريخ، المؤرخ هو من يستطيع أن يستقي من الأحداث التاريخية دلالاتها وعيرها، واستنتاجاتها، والمؤرخ الممتاز بوسعه أن يقيم تشخيصاً (Diagnose) دقيقاً للموقف الحالي قائم على التحليل العلمي وليس على الهوى والمزاج والعقائدية (Dogmatism)، وقد يبلغ علو كعبه في العلم أن يكون بوسعه التنبؤ (Prognose)بهذه الدرجة من الدقة أو تلك، وبحسب قدراته الرفيعة. وقد تبلغ تلك القدرات أن يتنبأ التطورات المستقبلية لقضية معينة، كأنه يقرأ في كتاب مفتوح وهنا الفرق بين المؤرخ العالم وبين كاتب قد يكون كاتباً جيداً ولكنه ليس بمؤرخ ولا بعالم ...!
الدراسة وخاصة الدراسات العليا، هي إبحار في بحر لا ضفاف له، يحاول العالم أن يضع خارطة تعينه في إبحاره، والقضية في النهاية ليست نيل شهادة للتباهي، وأن يضع حرف د. (Dr) أمام أسمه الكريم، بل في بلوغه قدرات علمية رفيعة، وأجزم أن ليس كل من نال شهادة الماجستير والدكتوراه بلغها. بل أعتقد أن الكثيرون فعلوا ذلك من أجل التشرف باللقب العلمي بأي وسيلة. الماجستير هي مجرد تأهيل للدكتوراه، وشهادة الدكتوراه هي تأهيل للبحث العلمي، ومن يحصل عليها قد وضع قدمه في طريق البحث الطويل، والذي لا نهاية له.
ولأنني استطعت أن أنقد نفسي نقداً شخصت فيه أخطاء مرحلة الماجستير، وقررت أن أنفذ حرفياً قواعد الدراسة والبحث، وأن الاساتذة الذين يعلموننا ويشرفون علينا، هم علماء أفاضل، وبالفعل تطورت قدراتي العلمية واستطعت أن أتقدم في مرحلة الدكتوراه بنجاح، وأن أستفيد علمياً من الإمكانات المتاحة لطلبة الدراسات العليا في الجامعة.
من تلك التجربة تعلمت أن العلم ليس ما تعلم، بل العلم هو ما لا تعلم ... فأسع لمعرفته ولكن بأخلاص ....
الصورة 1 : جلسة الدفاع عن الدكتوراه في جامعة لايبزغ بتاريخ 14 / نيسان / 1982
الصورة 2 : الدكتورة رشتر تهنئني بحرارة صادقة بعد الدفاع وإعلان الحصول على شهادة الدكتوراه.
2170 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع