الصيام عبر التاريخ

                                               

                         قاسم محمد داود


الصيام عبر التاريخ

تعتبر شعيرة الصيام من اقدم الشعائر الدينية في التاريخ كانت في الأمم السابقة وانتقلت من امة الى أخرى وان اختلفت في كيفيتها لذلك جاءت فريضة الصوم في القرآن الكريم منصوصاً عليها صراحة ومبيناً انه كان شريعة لمن سبق " كُتبَ عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " (البقرة 183 ) ، ولا نكاد نجد امة إلا ومارست نوعاً من الصوم كطقس من طقوس العبادة او الزهد . وعرف الصيام بأنه الامتناع عن الطعام أو الشراب أو جزء منهما ، أو الكلام (إني نَذَرتْ للرحمن صَوماً فلَنْ أُكلمَ اليوم أنسيا ) (مريم 26 ) . أو الامتناع عن امر ممكن ان تُدفع النفس اليه الى وقت محدد ولغاية عقيدية او إنسانية . عُرفتْ بعض اشكال الصيام عند الاقوام البدائية وكان منها الصوم عن الكلام عند الارامل ..فكانت الارملة تعلن الحداد على زوجها مدة ثلاثة شهور قمرية وفي هذه الفترة كانت تحلق شعر رأسها وتجرد نفسها من الملابس وتطلي جسمها بالطين ..وتقضي الشهور الثلاثة في بيتها صامتة . وفي الديانات الآسيوية يمارس الصوم لتطوير وتحفيز واكتشاف الطاقات الكامنة في جسد الانسان ، لذلك استعمل الطب الصيني الصوم لعلاج الامراض ، كما يمارس الصوم في الديانة البوذية للارتقاء الروحي او ما يسمى (النيرفانا ) . اما حضارة وادي الرافدين فقد عرفت طقوس الصوم

و كان عنصراً في ديانات الأمم الصغيرة المجاورة فيما بعد . وكان الكلدانيون (القرن الثامن قبل الميلاد ) يصومون ثلاثين يوماً ، عدد ما تقطعهُ الشمس من كل برج من بروجها ، يمتنعون فيها عن الطعام والشراب من شروق الشمس الى غروبها ، ويفطرون على الأطعمة النباتية ويقسمون صيامهم هذا الى ثلاثة اقسام . صيام اربعة عشر يوماً متتالية في فصل الشتاء موافقة لأعداد الكواكب السبعة المعروفة عندهم وافلاكها . ويصومون سبعة ايام متتالية في فصل الربيع ، موافقة لعدد الكواكب السبعة دون افلاكها ، وفي أواخر الصيف يصومون الايام التسعة الباقية . اما الصابئة الفرقة التي عاشت في جنوب العراق قبل الفي سنة ولا تزال تعيش حتى الآن ولكن في كثافة محدودة من السكان ، كان الصيام عندهم مقارب لمنهج الكلدانيين الا انهم يعدون الصوم الأكبر هو الكف عن الذنوب والصوم عندهم متقطعاً مرتبطاً بمواقيت تشمل العالم كله ، ويقتصر صيامهم على الإمساك عن تناول اللحوم . يقول ابن النديم (توفي عام 384هـ/1076م ) فيهم : "والمفترض عليهم من الصيام ثلاثون يوماً ، أولها : لثمان مضين من اجتماع آذار، وتسعة أخر ، أولها لتسع بقين من اجتماع كانون الأول ، وسبعة أيام أخر ، أولها لثمان مضين من شباط ، وهو أعظمها . ولهم تَنفُل من صيامهم ، وهو ستة عشر ، وسبعة عشرون يوماً . وقال عن عيدهم في نيسان : ويوم الثامن منه ، يصومون ويفطرون على لحوم الخراف . " وقد ذكر أبو الفداء إسماعيل بن علي (1237- 1331 م) ان صابئة حران يصومون ثلاثين يوماً مبتدئين الشهر بظهور الهلال ومنتهين إياه بظهور هلال الشهر الجديد وكانوا يصومون من ربع الليل الأخير الى غروب قرص الشمس .(ابي الفداء المختصر في تاريخ البشر ج1 ص65 ) .

وفي مصر القديمة حيث كانت الديانة تزيل الحدود الفاصلة بين الدنيا والآخرة فقد كانت تضفي على مظاهر الحياة مقداراً من قدسية الآخرة لذا جاء الصيام عندهم معبراً عن هذا الاتجاه ،فقد عرف المصريون القدماء الصيام كفريضة دينية ، تقربهم من أرواح الأموات ، ويعتقدون ان صيامهم يرضي الموتى المحرومين من طعام الدنيا ، كما انه تضامن معهم ، وصيامهم نوعان هما : صيام الكهنة وصيام الشعب ، الأول يجمع بين كونه فرضاً أو استحباباً وكانت له مواعيد محددة ، وتمتد احياناً فترة الصيام الى اثنين وأربعين يوماً من طلوع الشمس الى غروبها إذ يمتنعون عن تناول الطعام ومعاشرة النساء ظناً منهم انه يزيد من قدسيتهم . اما صيام الشعب فكان أربعة أيام من كل عام ، تبدأ عندما يحل اليوم السابع عشر من الشهر الثالث من فصل الفيضان ،وهناك نوع آخر من الصيام يحرم فيه أكل كل شيء من الطعام عدا الماء والخضر مدة سبعين يوماً ، ويصومون في بعض الأعياد كوفاء النيل وفي موسم الحصاد . وعندما نتجه شرقاً الى الهند ومجتمعها القديم المبني عل أساس الطبقات وحيث تتلون الشعائر بألوان غريبة والايمان بالتناسخ ــ أي العودة مرة أخرى الى الحياة بعد الموت ــ كان الصيام يتخذ اشكالاً عديدة تبعاً لما يريدونه من وراء ذلك الصيام ، وطبيعة من يصومون تقرباً اليه ، فلكل خير من خيرات الدنيا شهر مخصوص يُصام من اوله الى آخره ،وهناك صيام العام كله عدا اثنتي عشر مرة يُفّطرُ فيها ، وهو كفيل بدخول المؤمن الجنة عشرة آلاف سنة ثم الرجوع الى الحياة مكرماً . وعندهم صيام يسمى صيام الكفارة ، وهو ان يأكل الصائم في ثلاثة أيام مرة واحدة صباحاً ، ويأكل في الأيام الثلاثة التي تليها مرة واحدة عند المساء ، ويأكل في الأيام الثلاثة التي تلي هذا من الصدقات دون ان يطلبها ثم يصوم الأيام الثلاثة التي بعدها . في بلاد الاغريق كان الطبيب ابقراط (460 -377 ق.م) يجد في الصيام علاجاً لكثير من الامراض وتقويم النفس وتشذيبها ،وكان كهنة اليونان القديمة هم من وضع شعائر الصيام وجعلوها طقوس سرية وقسموها الى اسرار صغرى واسرار كبرى ، تقام الأولى في فصل الربيع بالقرب من أثينا حيث يعمد طلاب الاسرار الى غمر انفسهم بالماء ، فيستحمون ويصومون ،اما عند طلب الاسرار الكبرى التي تدوم أربعة أيام لمن حصل على الاسرار الصغرى يعاد الاستحمام والصيام ثم يقام احتفال سري فيندمج طلاب الاسرار من العام الماضي مع طلاب العام الحالي ويقام عشاء الإفطار وهناك يفطر المبتدئون الصائمون . كما انهم يصومون في مناسبات عديدة مثل الصيام الخاص بالنساء والصيام قبل الحرب طلباً للنصر وصيام الكهنة ، وتبعهم في أنواع صيامهم هذا الرومان . وفي العقيدة اليهودية يُعد الصيام تعبيراً عن الحداد والحزن او إحياء لذكرى نكبة او كارثة في التاريخ اليهودي فيصومون تعبيراً عن الندم والتوبة وللتكفير عن الذنوب ،ولم يفرض عليهم الا صوم يوم واحد في السنة وهو اليوم العاشر من الشهر السابع وهو اليوم الذي حطم فيه موسى عليه السلام الواح الشريعة حسب اعتقادهم ، ولهم أيام تسبق يوم الصيام هذا تسمى أيام التوبة تكرس لإظهار الحزن فكانوا يلبسون المسوح (لباس خشن يصنع من شعر الماعز او الصوف ) وينثرون الرماد على رؤوسهم .ولهم أيام متفرقة على مدار السنة يصومون فيها ، أهمها " يوم الغفران " الذي لا يرتبط بمناسبة من مناسبات اليهود وانما يهدف الى التوبة من خلال تعذيب الجسم حسب اعتقادهم ، وهو الصوم الأكثر قدسية عندهم حيث يمتنعون عن تناول الطعام والشراب لمدة 25 ساعة من الصيام وعلى الصائمين الامتناع عن إقامة العلاقات الجنسية ،الاستحمام ،انتعال احذية جلدية ، وفي الوقت الحاضر تشغيل الكهرباء في المطبخ والسفر في السيارة . وهناك صيام ايام أخرى تمثل مناسبات حزينة . اما الصوم عند المسيحيين فيطول شرحه ، لان الديانة المسيحية هي من اقل الديانات تشريعاً واحكاماً ، لكن الصوم من العبادات المهمة عند المسيحيين وهو الامتناع عن تناول الطعام من الصباح حتى بعد منتصف النهار ، ثم تناول طعام خالي من الدسم ويشمل الصوم عندهم صيام يوم الأربعاء وهو يوم القبض على المسيح ، ويوم الجمعة لان المسيح صلب فيه ، وصوم الميلاد وعدد أيامه 43 يوماً تنتهي بعيد الميلاد ، والصوم المقدس وعدد أيامه 55 وهي عبارة عن الأربعين يوماً التي صامها المسيح مضافاً اليها أسبوعان : الأسبوع الأول منها قبل الأربعين ويسمى أسبوع الاستعداد والتهيئة للصوم الاربعيني . والاسبوع الثاني ، اسبوع الآلام ، ويأتي بعد الأربعين وينتهي بأحد القيامة ، ويُمتَنع في هذا الصوم عن أكل لحم الحيوان أو ما يتولد منه أو ما يستخرج من أصلهِ ، ويقتَصر على أكل البقول ولا يعقد في اثنائه زواج ، ثم يجيء صيام الرسل وعدد ايامهُ يزيد او ينقص حسب الطوائف ، وتتراوح مدته بين 15 او 49 يوماً وصوم العذراء ومدته 15 يوماً تكريماً لمريم العذراء . وعَرفَ العرب قبل الإسلام الصيام عن طريق الديانات التي كانت تحيط بهم وكان لها اتباعاً منهم مثل الصابئة واليهود والنصارى ، اما الحنفاء فلم يُذكر ان لهم صيام ، فلما جاء الاسلام شرع الصوم ركناً من اركانه وأكد انه لم يبتكره بل إنما كان سُنة من سننِ الاولين ، وحدد الاسلام وقت الصيام من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس ( وكُلوا وأشرَبوا حتى يَتَبَين لكم الخيط الابيض من الخيطِ الاسودِ من الفجرِ ثُمَ أتموا الصيام الى الليلِ ) (البقرة 187 ) ، وجاء ذكر الصوم في القرآن الكريم خمس عشرة مرة ، منها ما هو متعلق بصوم الفريضة ، ومنها ما هو مرتبط بصوم النافلة ، حيث يمكن للمسلم ان يتطوع بصيام أي يوم اراد من ايام السنة الا ما ورد النهي عنه " كيومي العيدين وايام التشريق (الأيام الثلاثة بعد عيد الاضحى ) " وهناك ايام معينة يُسنُ الصوم فيها مثل يوم عاشوراء وهو العاشر من محرم ويوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة ، وصيام ستة أيام من شهر شوال ، ومنها ما هو مختص بصوم الكفارة . كما ان الإسلام لم يُخِرج الصيام عن سياق الحياة لهذا أمر المريض والمسافر والحائض والنفساء بالإفطار (فَمَن كانَ منكُم مّريضاً أَو على سَفَرٍ فعدةٌ من أيام أُخر وعلى الذينَ يُطيقونهُ فِديةٌ اطعامُ مسكينٍ ...) (البقرة 184 ) ، وتأكيداً على هذه النقطة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الوصال ، وهو صيام أيام متتابعة دون إفطار ، وأكد على أهمية السحور لتجديد طاقة البدن ، ولم يشأ الإسلام ان يكون الصوم عزلة تامة ، لذلك احل للصائم بعد موعد الإفطار كل ما حُرمَ عليه بالنهار . والحديث عن الصيام في الإسلام اشهر من ان نخوض في تفاصيلهِ .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1039 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع