بقلم : علي المسعود
فيلم المخرج الايراني محسن مخملباف ( ألرئيس ) نقد العنف أكثر من نقد الديكتاتورية ..!!
قبل الحديث عن الشريط الروائي الطويل «الرئيس» للمخرج محسن مخملباف والذي تم عرضه في عام 2014 وهو آخر أفلام هذا المخرج الإيراني الذي يعيش في المنفى والذي يعد واحدا من بين أفضل مائة مخرج في العالم لابد من التعريف بالمخرج الايراني ( محسن مخملباف ) وسعيه الدؤوب في مناهضة الرقابة المشددة على الاعمال الفنية في بلده
وقد شارك محسن مخملباف المولود في طهران سنة 1957، بشكل فاعل في التظاهرات المناهضة لحكم الشاه في ايران ما دفع ثمنه اعتقالاً وسجناً، قبل اختياره التفرغ للاخراج السينمائي بعد الثورة الاسلامية سنة 1979
لقد أمضى أربع سنوات ونصف السنة في السجن، وتعرض للتعذيب عندما كان في سن السابعة عشرة"، و حاولت الحكومة الايرانية قتله أربع مرات على الأقل لكن بعد محاولات عدة لتحدي الرقابة المشددة على الاعمال الفنية من جانب السلطات، اضطر المخرج الايراني الى مغادرة بلاده سنة 2004 والعيش في المنفى بداية في افغانستان من ثم في طاجيكستان قبل الانتقال الى باريس وبعدها لندن , وقد اخرج مخملباف حوالي ثلاثين فيلماً منذ الثمانينيات، كما ان زوجته وابنتيه يمتهن ايضاً الاخراج السينمائي . وقد أراد المخرج ( مخملياف ) في هذا الفيلم توجيه رسالة سلام وتسامح، لأنه عانى من العنف المرتبط بالثورة والحرب طوال حياته وعاش ثمان سنوات من الحرب بين العراق و ايران
وفي فيلمه الذي حمل عنوان «الرئيس»ا تطرق الى قضية الانظمة الديكتاتورية وقد أستوحى المخرج الايراني ( محسن مخملباف) فكرة فيلمه من الربيع العربي والحركات السياسية الايرانية ومن الثورة التي حصلت قبل اكثر من ثلاثين عاماً في ايران. لا شك في أن هذا الفيلم يحمل بصمات واضحة من ثورات الربيع العربي، حتى أن بعضهم قد قارن بين نهاية الدكتاتور في هذا الفيلم وبين المشاهد الأخيرة لمقتل الرئيس معمّر القذافي , لم يقتبس فيلم “الرئيس” للمخرج الإيراني محسن مخملباف عن قصة معروفة أو رواية شائعة، لكننا بالنتيجة نتعامل مع قصة سينمائية, أن سيناريو وحوار فيلم "الرئيس" من تأليف محسن مخلملباف بالاشتراك مع زوجته المونتيرة وكاتبة السيناريو ميرزي ميشكني، ويمتد زمن عرض الفيلم لما يقترب من الساعتين، وهو من نوعية الأفلام الدرامية الساخرة، وترشح الفيلم لجائزة أحسن فيلم بمهرجان فينسيا، وفاز بجائزة الجمهور في مهرجان طوكيو وجائزة أحسن فيلم روائي في مهرجان شيكاغو .
فيلم (الرئيس) الذي قدمه مخملباف دون اسم وهوية ودون نسبته لبلد معين ما هو في الواقع سوى تركيبة لرؤساء أسقطهم ظلمهم واستبدادهم بالحكم. ويناقش العمل ما هو أبعد من ذلك، وهي مرحلة ما بعد الثورات التي تعم فيها
الفوضى والتطرف والقتل والعنف وحكم المتسلقين على الثورة، فيما قد يجد الثوار الحقيقيون أنفسهم مجددا في دائرة الاستهداف والقمع والسجن , حكاية تجري أحداثها في بلد مجهول بطلها حاكم مجهول/ معلوم وأحداثها واقعية وإن لم ينزّلها المخرج في أي إطار زماني/ مكاني محدد
فيلم (الرئيس ) صوّر بجورجيا وقام ببطولته الممثل الجورجي ميشا غومياشلفيي (في دور الرئيس) والطفل العبقري الجورجي داتشي ارفيلاشفيلي (في دور الحفيد) وقدم بعديد المهرجانات السينمائية العالمية وتوج في أكثر من تظاهرة منها جائزة الجمهور بمهرجان طوكيو وجائزة أفضل فيلم روائي بمهرجان شيكاغو , يبدأ الفيلم في مشهد يظهر فيه
الرئيس صحبة حفيده ذي الخمسة أعوام يطلان على المدينة من نافذة القصر، يصدر الرئيس أوامره لينطفئ النور على كل السكان ثم يسلم التليفون الرئاسي لحفيده ليصدر أمرا بإعادة النور ثم يعاود الأمر بقطعه وإعادته ... وهكذا ليتسلى الطفل حفيد الرئيس بلعبة السلطة ويتمتع بغوايتها الى أن ينقطع النور ولا يعود وتضيع أوامر الحفيد وفخامة الرئيس، ويسمع في المدينة أصوات رصاص، انه الانقلاب أو بداية الثورة ... من الغد تسافر عائلة الرئيس بطائرة خاصة ولحظة الصعود يرفض الطفل المغادرة متمسكا بالبقاء مع جده وتفشل كل المحاولات لإقناعه فيضطر الرئيس للإذعان لمشيئة الطفل العنيد المتعلق بجده ويعتبره قدوته ... من هنا تبدأ أحداث الشريط تتشكل بوضوح إنها الثورة فعلا ... تهب الجماهير قاطعة على الرئيس طريق العودة الى القصر وكلما اتخذ السائق طريقا فرعية لينجو بالرئيس وحفيده اعترضت الحشود طريق السيارة الليموزين ورموها بالحجارة موجهين للرئيس كل أشكال الشتائم واللعنات محاولين النيل منه... مرة أخرى يفشل الرئيس في الرجوع الى المطار ومغادرة البلاد خاصة عندما يكتشف أن العسكر انضم الى صفوف المحتجين مطالبا برأسه ... لحظات حرجة يمر بها الرئيس الديكتاتور وحالة رعب لا توصف يعيشها الطفل الذي ينهال على جده بقذائف من الأسئلة , يزداد الوضع سوءا بانقلاب الجيش على الرئيس ومقتل حارسه الأمين وتخلي سائقه
الشخصي عنه مخيّرا الفرار بجلده ... نهاية رئيس وبداية معاناة انسان في بلد لا يعرف شيئا عن فقره ونقمته ووضعه الاجتماعي، يتوغل الرئيس في أرض شاسعة مصحوبا بطفل لا يتوقف عن السؤال, طفل يخرج لأول مرة من عالمه المخملي ليرتمي أو يرمى به في قلب الخراب والغليان الشعبي المتصاعد ولا شيء يمكن إيقافه الا مقتل الجد /الرئيس الظالم... وليحافظ هذا الأخير على حياتهما يقتحم محلا لحلاق فقير ويسلبه ملابسه وملابس ابنه ويغير شكله بباروكة ذات شعر طويل ثم يخرج متسللا ومن كوخ متداع يسرق قيتارا لعازف جوال ويلقن الطفل أنهما بصدد لعب دور موسيقي متجول وراقص صغير وليضمن نجاح اللعبة عليه الامتناع عن مناداته بصاحب الفخامة. تطول اللعبة على طفل سريع الملل تعوّد الرقص والتسلية صحبة صديقته ماريا الصغيرة التي اختفت من حياة الطفل مع اختفاء كل شيء جميل ومريح ونظيف وراق وأنيق, وحل محله عالم بائس يهدده الموت والتنكيل والانتقام الفظيع. يتواصل الهروب وتتواصل الملاحقة في كل مكان صور الرئيس المغضوب عليه ممزقة ومحروقة في بلد تتكشف ملامح بؤسه وفقره عبر جملة من المشاهد , تتواصل الرحلة على متن سيارة تقل مجموعة من الناس حشر الرئيس نفسه بينهم على أمل تجاوز الحدود
وتتوقف عند حاجز تفتيش حيث يقوم الجنود بسلب الركاب الفقراء ممتلكاتهم البسيطة ويتمادون في غيّهم حين يعمد أحدهم لاغتصاب عروس بفستان زفافها , جريمة لم تقدر العروس تحمل وقعها فتصرخ في وجوه من شهد الواقعة وتواطأ بالصمت خوفا ولم يحرك ساكنا فتهجم على الجنود لتنتهي قتيلة برصاصة أحدهم
وفي صورة راقية ابدع فيها المخرج ( مخلباف ) حين جعل الديكتاتور يتجرج مرارة الواقع الذي افرزته سلطته الجائرة و جلاوزته في الزج من ألابرياء في السجون والمعتقلات والذي انعكس على الاسرة وتركيبها , وتجسد ذالك خلال
رحلة الهروب حين يتخفى الرئيس وحفيده وسط مجموعة من السجناء الفارين يعانون تعقيدات صحية نتيجة تعرضهم لشتى أشكال التعذيب الى درجة عجز بعضهم عن المشي للتقرحات التي أصابت أقدامهم فيواصلون الطريق محمولين على ظهور زملائهم. من التفاصيل الفارقة في هذا السرد الميلودرامي للأحداث أن الرئيس الذي ادعى أنه هارب من أحد السجون لضمان تواجده مع المجموعة يجد نفسه مضطرا لحمل أحد المساجين المصابين على ظهره فيتضح أنه قام بمحاولة اغتيال الرئيس ذهب نجله ضحيتها , لحظة غضب يعيشها الرئيس الفار في خياله ويعجز عن التعبير عنها في الواقع حتى لا ينكشف أمره ... يصل السجين الفار محمولا على ظهر الرئيس الى بيته فيصر على دخوله مترجلا ليسعد زوجته التي من المفترض أن تكون متلهفة للقائه بعد خمس سنوات من الفراق فإذا بها متزوجة وأم لطفل لم يتجاوز شهره السادس بعدما أخبروها أن زوجها توفي في السجن, وإزاء هذا الوضع ينتحر السجين تحت تأثير الصدمة فتتولى المجموعة دفنه في مشهد حزين بكت خلاله الزوجة بكاء حارقا
كل مفاتيح الفيلم جاءت على لسان الطفل في شكل أسئلة، روح بريئة تحشر في حكاية كبيرة معقدة ظن أنها مجرد لعبة انطلقت بقطع النور على المدينة فإذا بها تنقلب الى كابوس مرعب يصحو منه على استنتاج يتماشى مع فهمه البسيط حين يقول لجده الرئيس: « لقد غضب الناس لأننا قطعنا عنهم النور وهم لا يحبون الظلام , أراد مخملباف أن يكون الرئيس في الفيلم رمزا يمثل كل الطغاة في العالم وأن الطفل حفيد الديكتاتور فيه "يمثل ضمير الطاغية "
... لم تنته الرحلة ولم يستنفد الطفل في هذا العالم الغريب مخزون الأسئلة وكلما طالت الرحلة تزداد قيمة المكافأة المرصودة لمن يقبض على الديكتاتور. بعد انفصاله عن المساجين يختفي الرئيس مرة أخرى في شكل فزاعة الطيور ليتفادى تفطن جنود يمرون على متن قطار شاهرين أسلحتهم لكنه لم يلاحظ فلاحا بين القصب رصد تحركه . وفي اللحظة التي ظن أنه أفلت من الجنود وبلغ الشاطئ معلنا لحفيده خبر نجاتهما يفاجأ بهجوم الأهالي مطالبين بالقصاص... فوضى عارمة، صراخ عال ووجوه غاضبة، ديكتاتور مستسلم وطفل في أقصى لحظات الفزع. تختلف الأصوات حول طريقة الاقتصاص من الرئيس الظالم بين الحرق والاعدام بالمقصلة وبين تسليمه لنيل المكافأة المالية الضخمة، في خضم هذه الفوضى يعلن صوت مختلف أن العسكر الذي يشارك في هذه المحاكمة كان بالأمس اليد العنيفة أو الآلة العمياء التي يحكم بها الرئيس رقاب الشعب ... صوت الوعي في لحظة محكومة بالجنون والرغبة في الانتقام، صوت يؤكد أن الثورات تفرز واقعا معقدا وأكثر خطرا من الأنظمة الديكتاتورية فكل شيء جائز في غياب قانون يسود المجتمعات وأن النظام القديم يعيد انتاج العنف في أبشع أشكاله ... في خضم كل هذا تذهب كاميرا مخملباف الى الصبي الخائف/الحفيد في أقصى حالات الرعب مرتجفا وهو يردد :«هذه اللعبة لم تعد تعجبني» يأخذه أحد السجناء الفارين باتجاه البحر ويطلب منه الاصغاء لصوت الأمواج , لكن الصبي يردد باكيا أنه يسمع أصوات المحتجين فيعيد الرجل المسن نفس الطلب ويكرر الحفيد ما قاله سابقا... تنفصل أصوات المحتجين حين يأخذ السجين القيتار ويبدأ العزف والغناء بصوته المتكسر شجنا ويفتح الطفل ذراعيه راقصا باتجاه البحر وينتهي الشريط على هذا المشهد المفعم بالدلالات .
فيلم «الرئيس» قدم الديكتاتور فردا وإنسانا مجردا من السلطة معدما وخائفا سارقا وكاذبا ومنافقا في مواجهة واقع قاس هو نتاج سياسته واستبداده يخوض رحلة قاسية تجعله يكتشف وجهه الحقيقي في عيون شعبه ونقمته عليه. كما جعلت حفيده يرى فيه الرجل الآخر خارج برجه وخدمه وحاشيته وبذلك لعب المخرج على ثنائيات كثيرة: البراءة/الاستبداد والسلطة /التشرد والثروة/الفقر والواقع/اللعبة
واخيرا, رسالة الفيلم ليست فقط عن رئيس جمهورية ديكتاتوري وكيف هرب متخفيّا خوفا على حياته وحياة حفيده. بل أن الرسالة الأساسية في هذا الفيلم هي نقد العنف أكثر من نقد الديكتاتورية. لقد أظهر سلبياته وأظهر أيضا سلبيات المعارضة التي قد تقود أيضا إلى ديكتاتورية مماثلة.
وسط هذا العنف نريد أكثر من مانديلا وأكثر من غاندي. نحتاج إلى نشر ثقافة السلام في كل مكان وهذه تبدأ من الجذور.
علي المسعود
المملكة المتحدة
2280 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع