الدكتور مليح صالح شكر
الهموم ، هل يمكن عدها ؟
توقفنا لنشرب الشاي عند جايجي في الجانب المطل على حديقة الأمة من عمارة مرجان ، بعد مساء قصير، ولما عبرنا الشارع بأتجاه نصب الحرية في ساحة التحرير لنلتقط سيارة تاكسي ، كان صوت الراديو في تلك الليلة مرتفعاً من سيارة عابرة بأغنية ( عد وآنه عد) لمطربة شابة آنذاك .
توقف حارث طاقة فجأة عن السير، وصرخ بوجهي ملاطفاً : شوف أحنا العراقيين ، حتى بالهموم نتسابق !
أقنعته بمواصلة البحث عن سيارة التاكسي لتوصلنا، هو الى بيت شقيقه الشاعر شاذل طاقة ، والسفير والوزير لاحقاً ،في حي ١٤ تموز بشارع فلسطين ، وأنا الى بيت شقيقي باسم في سبع أبكار في الصليخ حيث كنا، هو وأنا نعيش مع اشقائنا.
حارث يكثر بالحديث المفصل مع سائق التاكسي ليفهمه مقصدنا ، وتدخلت أنا لأفهم السائق الطريق السهل ليوصلنا الى منازلنا، فبعد ان نوصل حارثاً ، يستدير السائق عائداً الى شارع فلسطين ليواصل طريقه حتى سبع أبكار : وافق السائق على ان ندفع ٣٠٠ فلساً! نعم كانت الأجرة في عام ١٩٧٠–١٩٧١ تصل أحياناً الى ٣٥٠ فلساً!
وتناقشنا في وقت لاحق نهار اليوم التالي في قصة الهموم العراقية التي ترددها المغنية الشابة لترى من هو أكثر هموماً:
عد وآنه عد ، ونشوف ياهو أكثر هموم؟
ورحنا نعدد همومنا الراهنة حينئذ والظروف السياسية التي تحيط بالوطن والامة ، مع بضعة ملاحظات قصيرة عن الحزن في الغناء العراقي.
كان حارث طاقة يتمتع بروح بشوشة مملوء بالفرح والوفاء لكنه يتألم لما يتعرض له غيره من متاعب وهموم فيعبر عن مشاعره بقوة ووضوح.
واليوم وبعد أن راح حارث طاقة ضحية لغدر أعداء العراق في حادث تفجير السفارة العراقية ببيروت في ١٥ ديسمبر/ كانون الأول عام ١٩٨١ ، واختطف حياته ذات الجناة القتلة الذين إختطفوا العراق من أهله في التاسع من نيسان / أبريل ٢٠٠٣ المشؤوم ، وترك همومه لأبنائه ولأصدقائه ، وأنا أعيش بعيداً ، ومعي همومي وبأنتظار ما سيحصل ، أجد ان الهموم قد أحتضنت العراقي من المهد الى اللحد .
كل أغانينا، والكثير من الموروثات الشعبية تنضح هموماً لا يتحملها سوى العراقي .
يا صبر أيوب.. حتى صبره يصل
إلى حدود، وهذا الصبر لا يصل
يا صبر أيوب، لا ثوب فنخلعه
إن ضاق عنا.. ولا دار فننتقل
لكنه وطن، أدنى مكارمه
يا صبر أيوب، أنا فيه نكتمل
وأنه غرة الأوطان أجمعها
فأين عن غرة الأوطان نرتحل
هكذا وصف الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد صبر العراقي على همومه.
وسألوا الشاعر كريم العراقي ذات يوم عن سبب الحزن في الأغاني العراقية، فأجابهم بقصيدة قرأها من خلال شاشة التلفزيون :
يقولون: أغانيكم حزينة!
هو إحنا ياعمي إيش بإيدينا؟
من آدم ولليوم واحنا
دم تمطر الدنيا علينا
كل يوم فايض بينا طوفان
كل يوم غرقانة السفينة
توارثنا من نوح السفينة
وفوق الخناجر نمشي حُفّاي
ونغنّي عزة نفس بينا!
ويعبر الشاعر محمد مهدي الجواهري عن ما عنده من الأسى والهم، مثل كل العراقيين وهمومهم :
أنا عندي من الأسى جبلُ يتمشى معي وينتقلُ
وحسب معلوماتي فقد جرت خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين ،بضعة محاولات في الدوائر الثقافية والإعلامية العراقية ، لإخراج الاغنية العراقية من طابعها الحزين ، ولم تلبث حتى عادت بعد حين الى سابق عهدها بالحزن والالم .
يقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في دراسته عن المجتمع العراقي :
أن شاباً عراقياً من الذين كانوا يدرسون في أمريكا ذهب لزيارة زميل عراقي في محل سكنه ، فلم يجده فجلس مع صاحبة الدار يتحدّث معها عنه ، بأنتظار قدومه.
وصفت السيدة نزيل دارها ، بأنه شاب طيب ، ولكنه لا يكاد يدخل الحمّام حتى يشرع بالبكاء ، وقد أتضح أن الشاب لم يكن يبكي في الحمام كما ظنت السيدة الأمريكية ، بل كان يغني أبوذية عراقية!!
ويستفيض عالم الآثار العراقي طه باقر في مقدمته عن أدب العراق القديم في شرح الكثير من معالم الحزن والهم عند البابليين ، والمخاوف من غزو الجيران ، وفيضانات النهر العنيفة التي كانت تغرق كل الاراضي في جنوب العراق ، فتهرب العوائل الى سطوح منازلهم الطينية والقصب ، ويغني رب العائلة ألماً وحزنا من هذه الأذية ، فأصبحت الناس يسمونها أبوذية، كما يخبرنا سعدي الحديثي.
وكذلك ، أعتاد سائقو الشاحنات والحافلات الكبيرة كتابة الشعارات والأدعية على مركباتهم ، كثير منها يتضمن هماً او دفعاً لكل الهموم والحسد :
من راقب الناس مات هماً.
سيري وعين الله ترعاك،
قل اعوذ برب الفلق ،
وغيرها من الأدعية التي تبعد الشر والحسد.
وحتى أن هدير النواعير وهي تغرف الماء من نهر الفرات لتسقي مزارع وبساتين مدن وقرى أعالي الفرات في محافظة الأنبار يسمونه أنيناً! وفيه مأثورات شعبية وأغاني أبوذية كثيرة .
ومتى سيفرح العراقي؟
————
ملاحظة:
أشكر الاستاذ ضياء الشيخلي على الصور التي زودني بها من مقتنياته
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع