موفق نيسكو
الكرملي وبرصوم يسخران من المطران أدي شير وكتابه، كلدو وأثور
ذكرنا أكثر من مرة ومقال أن الكلدان والآشوريين الحاليين هم سريان، ولا علاقة لهم بالقدماء مطلقاً، إنما سمَّت روما القسم الذي تكثلك كلداناً، وثبت اسمهم في 5 تموز 1830م، وسمى الإنكليز القسم النسطوري آشوريين سنة 1876م، لأغراض سياسية عبرية، لأن الاثنين ينحدرون من الأسباط العشرة من بني إسرائيل الذين سباهم العراقيون القدماء، وثبت اسم الآشوريين في 17 تشرين أول 1976م.
سنة 1912م أخترع المطران أدي شير عبارة كلدو وأثور، لأغراض سياسية، وقد أصبحت تلك العبارة أضحوكة واستهزاء لكتاب التاريخ ورجال دين ومثقفين، كما قال بطريرك الكلدان عمانؤيل دلي نفسه سنة 2005م: إن اسم كلدو وأثور سيجعلنا أضحوكة للعالم.
كان مطران الكنيسة الكلدانية أدي شير نزيهاً وذو مصداقية علمية ومعتدلاً في مؤلفاته إلى سنة 1912م، ومعتزاً بالسريانية وتراثها، وبعد هذا التاريخ وللأسف استغل شهرته وأخذ يتوجه فكرياً وسياسياً وطائفياً وتصرف كرجل سياسة، لا رجل دين، وواضح من كلامه في كتابه أنه بدأ يؤمن ويعتز بعنف الكلدان والآشوريين القدماء ويُحاول إنكار مذابح السريان النساطرة أسلافه بحق السريان الأرثوذكس..الخ (سننشر ذلك مستقبلاً في مقال: كنيسة المشرق، كنيسة مسيحية أم مقصلة دموية)، وأصبح بعد سنة 1912م، يبتعد عن النزاهة ويزوِّر التاريخ ويتلاعب بالوثائق والنصوص والكلمات محاولاً التمويه وإيجاد مخارج لكثير من الأمور، كتزوير التاريخ المسيحي، وتزوير ورفض الاسم السرياني والتمسك بالاسم الكلداني والآشوري، ومما يؤسف له أن كثيراً من المثقفين والكُتَّاب المهتمين بتاريخ السريان وكنائس الشرق وخاصة من العرب المسلمين الذين يرون أن لهذا المطران مؤلفات كثيرة قد اعتمدوا على بعض كتاباته على علاتها والألغام السياسية والأفكار الطائفية العنصرية الموجودة فيها بشكل مُبطَّن دون أن ينتبهوا أو يدققوا ويتمحصوا فيها، ظناً منهم أنه مطران مسيحي يكتب بنزاهة ومصداقية.
بدأ هذا المطران بتزييف الحقائق بتأليفه كتاب تاريخ كلدو وأثور، والسبب أن أشقائه القدامى من كنيسة المشرق (آشوريي الإنكليز) كانت النظرة العبرية القديمة قد بقيت متأصلة عندهم، وبقوا على العقيدة النسطورية وشكَّلوا أحزاب سياسية قومية، يساندهم أحزاب سياسية في أمريكا من المهاجرين ثم تحالفوا مع الإنكليز في الحرب الأولى، وخوفاً من فوز الآشوريون الجدد في المجال السياسي وإقامة دولة آشور المزعومة والمفترضة على حساب الكلدان، ولغرض تقاسم الكعكعة السياسية معهم من جهة، وكتقية بهدف مجاملتهم لكسبهم إلى طائفته الكاثوليكية من جهة أخرى، فاخترع عبارة كلدو وأثور لأول مرة في التاريخ، وألَّفَ كتابه بهذا الاسم المُركَّب المُخترع كخدعة سياسية دينية، معتبراً دون أي دليل أنهم ينتمون للآشوريين والكلدان القدماء.
والحقيقة إن كتاب أدي شير ليس له أية علاقة بتاريخ الآشوريين والكلدان الجدد، وعنوان الكتاب وحده يكفي للدلالة على ذلك، وهو كتاب سياسي لا علاقة بالدقة العلمية التاريخية إطلاقاً.
وقد قام الأب انستاس الكرملي (1866-1947م) المعاصر لأدي شير بنقد كتاب كلدو وأثور في مجلة لغة العرب 1913م، يونيو، عدد 12، ص578-581، فيقول:
رغم أنه من العجيب أن ينفرد الأجانب بتاريخنا، فقد قام أدي شير بتأليف هذا الكتاب بالعربي، وإننا نأخذ على سيادته أنه وضع له اسم كلدو وأثور، وهو هنا اسم غريب، ثم يعدد أخطائه اللغوية وتناقضاته في أسماء الأعلام، ويقول: المفروض أن يستعمل (كلدة وأثور)، لأنه بالعربية هي كلدة وهو شيخ أحد القبائل العربية الذي أسس دولة الكلدان، وينتقد استعمال كلمة آشور بصيغ متعددة كأثور وآسور، ثم ينتقد أدي شير لقوله إن اليهود والمسلمين واليزيديين والمسيحيين وغيرهم كلداناً وآشوريين، قائلاً: كيف يجوز لأدي شير هذا القول الذي لا يؤيده أي باحث علمي، فالتاريخ يُزييف هذا القول بدون أن تعارضه حجة لإثباته، فقد سكن المنطقة قبل الآشوريون والكلدان وبعدهم أقواماً متعددة كالعرب، العيلاميين، الماديين، اليونان الرومان، والفرس، وغيرهم، وإذا كان هذا الرأي من بناة أفكار أدي شير، فلا يوجد كلداني وآشوري واحد صادق النسب ينتمي للكلدان والآشوريين القدماء.
ثم يسخر الكرملي بأدي شير الذي انتقد الكلدان في مدن وقرى العراق وديار بكر أنهم يتكلمون العربية ويحتقرون لغة أجدادهم، فيقول الكرملي: الغاية من اللغة هي التفاهم، والتفاهم هو مع الأحياء وليس الأموات، ولغة الأحياء والتعايش والرزق في مناطقهم هي العربية وليس الآرامية، ويضيف الكرملي قائلاً لأدي شير: (عليك التعيَّش ثم التفلسف)، فلو فرضنا أن جميع العراقيين تعلموا الآرامية، فهل يستطيعوا التعيش بها؟، لذلك فهؤلاء الكلدان القرويين والجبليين عليهم تعلم اللغة التي يرتزقون بها قبل أن يتقنوا لغة مماته، وهؤلاء يتكلمون العربية لأنها حية ولغة وطنهم، ولو لم تكن كذلك لتركوها كما يُترك الأموات حتى وإن كانوا أعزاء. (يقصد أن الكلدان تركوا لغتهم لأنها أصبحت ميتة عندهم).
ثم ينتقد الكرملي بشدة أدي شير مستهزئاً به لأنه يعتمد على الغربيين كعادة الكلدان والآشوريين الذين شجعهم وضحك عليهم الغربيون بالاسمين (كلدان وآشوريين) لأغراض سياسية وطائفية، فأينما رأى الكلدان والآشوريون اسماً أجنبياً لمستشرق أو كاتب غربي استشهدوا به لإثبات تزويرهم ضناً منهم أن الأسماء الغربية تنقذهم من ورطتهم، فيقول الكرملي لأدي شير:
في الكتاب آراء له ولغيره، وهذه الآراء غريبة لا يقبلها العقل، فقد ذكر أشياء من مذهبه الخاص، ولكننا نذكر ما نقله عن آراء الفرنجة العجيبة كقول المسيو أوبير إنه يوجد في شمالي بغداد موقع موسى الكاظم، أي الكاظمية، يسكنه أناس من بقايا الكلدان القدماء، والجميع يعلم أن أغلب سكان الكاظمية من إيران وليسوا أبداً من العنصر الكلداني، وهؤلاء (سكان الكاظمية) لهم صنائع فائقة كالنقش والتطريز وخصوصاً الحفر على الحجر، فأنظر حرسك الله هل هذه الأقوال يقبلها عقل آدمي؟، فهل كونها منسوبة لأفرنجي يجب أن تجوز علينا نحن الذين نعرف من هم سكان الكاظمية؟، ويضيف الكرملي أن الكتاب مشحون بمثل هذه الآراء وما ضاهاها نقلاً أو تصنيفاً.
ثم يبدأ الكرملي يعدد أخطاء تاريخية أخرى ولغوية، فيقول: إنك لا تُطالع صفحة وليس فيها أخطاء، ويختم بالقول: مهما عددنا أخطاء هذا السفر الجليل يبقى معيناً للأديب خاصة العراقي، فسبحان من تنزه عن كل عيب ونقص. (وللكرملي بحث عن الكلدان في المجلة، عدد اغسطس 1911م، ص52-59. سننشره لاحقاً).
وحدثني المطران السرياني بهنام ججاوي +2014م نقلاً عن البطريرك العلامة السرياني أفرام برصوم الأول +1957م في لقائه معه بحضور المطران يوحنا دولباني +1969م، أن البطريرك أفرام عندما كان مطراناً لسوريا ومعاصراً لأدي شير، وكان للمطران أفرام لقاءات ثقافية واسعة مع أهل العلم والكتاب وكان رأيه مهماً، وأن أحد معارفه وأصدقائه من الكهنة الكلدان زاره وأهداه كتاب كلدو وأثور، وطلب منه إعطاء رأيه فيه، قائلاً له أن أدي شير تعب في الكتاب كثيراً وقد سهر الليالي من أجل هذا الإنجاز، وبعد مدة عاد الكاهن وسأل المطران أفرام عن رأيه في الكتاب، فأجابه: قل لأدي شير: نَمْ كثيراً، لكي تكذب قليلاً.
وللتعليق على كتاب أدي شير وما جاء فيه، والجزء الأول فقط، أقول:
1: لا يوجد في التاريخ شعب بهذا الاسم المُركَّب، ومع أن الكلدان والآشوريين الحاليين لا علاقة لهم بالقدماء مطلقاً، لكن المضحك أن المطران أدي شير اعتبر الكلدان القدماء وهم ألد أعداء الآشوريين القدماء الذين سقطت دولتهم على يد الكلدان سنة 612 ق.م.، شعباً واحداً، والأنكى من ذلك أنه اعتبر اليهود والمسلمين واليزيديين والمسيحيين وغيرهم، كلداناً وآشوريين، والأمر الطريف أن كتابه يبدأ بقصيدة للشاعر حنا أفندي زهيا الأثوري يُسمِّي بلاده زمن السيد المسيح عند دخول المسيحية إليها في البداية " كردستان"، فيمدح أدي شير لتأليفه الكتاب، وبعد أن يعتز بالأقوام القديمة وحروبها من أثور وبابل وهو الهدف من تسمية كلدو وأثور، يعدد الأقوام التي توالت من زمن الطوفان وإبراهيم، فيقول:
أهديتنا تاريخ قومٍ ناطحوا كبد السماء في شامخ البنيانِ
وأريتنا أحوال حرب شيبت رعباً مفارق أحداث الولدانِ
وتوالت الأجيال حتى أشرقت شمس المسيح بقطر كردستانِ
2: الجزء الأول هو قبل المسيحية، وكل ما فعله المطران أنه ذكر تاريخ الآشوريون والكلدان القدماء وتوقف سنة 538 ق.م.
3: في هذا الجزء يعترف المطران أن العنصر الآرامي منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد غلب على سكان بلاد الرافدين أو ما بين النهرين، وانتشرت الممالك الآرامية فيها، وكان سكانها من العشائر الآرامية، ويُسمِّي الكلدان، بالآراميين الكلدان، علماً أنه يُسمِّي كنيسته الآرامية سنة 1906م في مقدمة كتابه شهداء المشرق الجزء الثاني.
ويعتبر المطران أن الآشوريون القدماء والكلدان انقرضوا وانتهوا، ويكتب عنوان: "انحطاط وانقراض دولة أثور على يد الكلدان والماديين والاشكوزيين سنة 608 ق.م."، ثم عنوان: " انحطاط وانقراض دولة الكلدان على يد كورش سنة 538 ق.م "، ثم يحاول الترويج للكلدان فقط فيقول: إن بلاد أثور لم تقم أبداً من سقطتها لأنها أُخذت بحد السيف وشملها الدمار والخراب، أمَّا الكلدان فلم تسقط دولتهم مثل الآشوريين، لكنه لم يأتي بدليل واحد تاريخي على وجود شيء اسمه كلداني بعد سقوط دولتهم سنة 538ق.م.، ويبدو أن حبك التزوير بصورة تامة أمر مستحيل، لأنه لا بد للحقيقة أن تفرض نفسها، فهو نفسه في كتابه يضيف قائلاً: بعد سقوط الأثوريين والكلدان انتشرت لغتهم الآرامية السريانية في كل البلاد، كسوريا ومصر واسيا وبلاد العرب، وأقصت جميع اللغات السامية التي كانت تُستعمل في بلاد السريان، ويُسمِّي بلاد الكلدان حتى قبل الميلاد (بلاد السريان) ولغتهم هي السريانية (الآرامية) ويذكر ملوك الآراميين أنهم (ملوك السريان)، واللغة الآرامية استطاعة قرض جميع اللغات السامية التي كانت مستعملة في بلاد السريان، ويستشهد بكتاب الأسكولين لراهب كنيسته بركوني سنة 600م تقريباً الذي قام أدي شير نفسه بنشر هذا الكتاب سنة 1910م، ضمن المخطوطات السريانية الذي قال فيه بركوني متعجباً: إن اللغة السريانية مع تغير الزمان ومرور الأجيال تبدلت وفسدت بألفاظ غريبة، لا بل عربت من حيث كانت، أي من بابل واستوطنت بلاد أخرى، وأنك لو قابلت اللغة البابلية مع اللغة السريانية الفصيحة لن ترى فيها كلمة سريانية من مئة كلمة.
ويُعلِّق أدي شير على بركوني قائلاً: إن الكلدان كانوا مستوطنين في بلاد السريان، وصارت بلاد السريان الشمالية من أخص مراكز الكلدان القدماء وقرضت لغة الأقوام القديمة، ونعم إن اللغة السريانية بقيت في بابل، والسريانية الفصيحة نراها في حمص وآفامية وأطرافها.
وعندما أكمل التاريخ بعد سقوط الآشوريين والكلدان القدماء سنة 538 ق.م. ذكر ممالك وملوك كثيرة كالاسكندر، الفرثيين، ملوك سوريا، الميديين، مملكة تدمر، ومملكة الرها الآرامية كما رواها المؤلفون الآراميون، حدياب، أربيل، سنجار، ميشان، الحضر، دون أي ذكر للآشوريين والكلدان. (أدي شير، تاريخ كلدو وأثور، ج1 ص6، 39، 49، 66، 70-72، 81، 123، 135، 149، 157-171. وفي الجزء الثاني أيضاً يُسمِّي اللغة الآرامية أو السريانية، والكلدان آراميين، ويقول أحياناً الكلدان أو الآراميين، ج2 ص40، وغيرها).
أمَّا التعليق على الجزء الثاني فسيأتي مستقبلاً.
وشكراً/ موفق نيسكو
972 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع