د.ضرغام الدباغ
السياسة العراقية .. لاعبون أصغر من اللعبة
ثمة مؤشرات هامة في السياسة العراقية تنبأ عن احتمالات جديدة، ولكن ليكن معلوماً سلفاً، أن هذا لا يعني أن الغد الزاهر المزدهر على الأبواب، وأن نهاية العسرة العراقية وشيكة، فبكل صراحة مؤسفة نعتقد أن الموضوع أعقد من ذلك، وأن من هدم الهيكل العراقي فعل ذلك بطريقة فنية حاذقة، تنطوي على الكثير من المكر والدهاء والخبث، فوزعوا أركان الهيكل على المحيطات الخمس وبحار العالم ليتعسر إيجاد وسيلة لتجميع أركان الهيكل وإعادة بناء البيت، ومن جهة أخرى وضعوا في واجهة المشهد من هو مستعد أن يتنازع معك ألف عام، على قضية تافهة لا تستحق عشرة فلوس من فلوس التضخم ..! فكيف تتفاهم مع من لا يفهم من الدنيا سوى ما تحت قدميه وليس أبعد من أرنبة أنفه..! أو شقة مطلة على بحر أو خليج يمارس فيها شذوذه النفسي والمعرفي والثقافي على هواه ..
إنها لمهزلة التاريخ القديم والحديث معاً، يحتار في وصفها وفك طلاسمها أبرع الفلاسفة والمؤرخون، كيف أقنع الشياطين الكبار والصغار أهل البيت أن يحرقوا بيتهم، ويبيعوا أنقاضه وما تبقى منه بتراب الفلوس، بل ورهنوا حتى مستقبله، ويفعلون ذلك بسعادة وبهجة غامرة، إنها حقاً لمسألة يعجز العقل البشري عن حلها، هل هناك فلسفة تنص على أن نصبح خدماً أشرف من أن نكون أسياداً، وأن نستجدي ونشحذ أفضل من أن نلعب كما كنا دائماً نلعب دور الواهب الكريم والمانح السخي..! بطريقة واحدة فقط لا غير يمكنك التعاطي في هذا الشأن، أن تعتبر من هم بمواجهتك عصابيون (مصابون بلوثة عقلية)، أو معوقين، وفي كل الأحوال أنت في محنة، من بيده مقود السيارة البالغة التعقيد، ذات العشرات وربما المئات من الأزرار والمفاتيح، لاعبون صغار ... صغار جداً .. بالكاد تصل أقدامهم لكوابح السيارة ومفاتيحها .... والكارثة أن يسألك أحدهم .. أي سيارة تقصد ..؟
ما هي المؤشرات والإضاءات التي تلوح أمامنا وتستحق منا أن نفكر بعمق شديد بعيداً عن التعصب والتحزب، بهدف وحيد يتلخص، ب : إنقاذ أنقاض الهيكل وبقاياه .. ومنح الأمل للأجيال المقبلة ..!
1. تحولات داخلية تلوح بعيد مؤتمر المانحين في الكويت (ليس هناك مانحين بل دائنين) الذي مثل دليلاً مادياً ملموساً على مستوى انحطاط بلغته السياسة العراقية لم يبلغه العراق منذ العصور السومرية والأكدية وما قبلها، قد (أداة شرطية غير جازمة) تدفع المقامرون أن لم يبق ما يرهنوه إلا أنفسهم وأرواحهم، في هوان ليس هناك ما يماثله هواناً. واللاعبون العراقيون سيقولون لك، أن العراق مدين ب 125 مليار دولار، وهناك أقساط الدين وخدمة الدين بفوائد مرتفعة على الأبواب. فمالعمل ..؟ إنها دائرة الشيطان .. الاستدانة لإيفاء الديون هو فن إطفاء الحريق باستخدام البنزين .. أي أن تستجير بالرمضاء من النار ...!
2. تحولات مهمة جداً في السياسة الدولية، قد تدفع المتحالفون في المصيبة العراقية (الشياطين الثلاثة: أميركا، إيران، إسرائيل) إلى إعادة النظر في مواقفهم، وقد يختلف اللصوص على الغنيمة، فيفضون تحالفهم الأسود، وهذا الاحتمال لا نعول عليه، أن يتوب اللصوص من اللصوصية، بل أن قواعد اللعبة الدولية بأبعادها وأفقها، بين القوى العظمى ستتعرض لتغيرات جوهرية، تقود في ارتداداتها المحلية إلى تغير في مواقع القوى، وهناك مقدمات مادية تنبأ أن مثل هذا الاحتمال متوفر وبقوة في أكثر من ساحة وخط تماس (كوريا الشمالية، أوكرانيا، سوريا)، والعراق ليس ساحتها الساخنة الرئيسية.
3. هناك مؤشرات داخلية بين القوى العراقية، وهي وإن متأخرة، إلا أنها أفضل من السير معصوبي العيون صوب الهاوية القريبة جداً ..! وخلاصة هذا المآل، أن أطرافاً محلية أدركت إنما هي لم تبيع الوطن فحسب، بل ومستقبلها كأطراف وكأفراد، وأن القادم القبيح يريد الأرض وما عليها كالإقطاع الروسي في عهد القيصرية، الذي كان يشتري الأرض وما عليها من بشر ودواب ومواد .
4. الحاكم السوري فهم أخيراً أن الفرس لا يساعدوه لزرقة عيونه، والمسألة الطائفية لا تعنيهم بشروى نقير، ولا حتى الدين كله، ما يهمهم هو فقط المصلحة القومية الفارسية، وبالنسبة لهم هي قضية حياة أو موت، في تصدير الأزمة لبلدان المنطقة وأن يلعبوا دور صانع المشاكل، (Troublemaker) مجيرين أرادات وعواطف ساذجة لمصلحتهم في إطار عمل ثقافي / سياسي يدور منذ عصور طويلة. ويدور أمر مماثل في العراق بعد أن شب التناقض الوطني والقومي والاقتصادي / السياسي في مسار كان متوقعاً، ما كان له أن يستغرق هذا الوقت.
5. إفلاس علني وواضح لمجمل عملية الاحتلال وأهدافها المعلنة والخفية، الأمريكان والإيرانيون من بعدهم سيجدون أن خسائر عملهم أكثر من فوائده، وحتى الإسرائيليون وهم الطرف المستفيد الأكبر، سيجد أن مثل هذه الصراعات سوف لن تحل أزمتهم التاريخية، التي لا حل لها إلا عبر إرضاء ممثلي الشعب الفلسطيني. عبر دولة ديمقراطية موحدة، وأندغام سلمي في مشروعات المنطقة السياسية / الاقتصادية. وليس سوى ذلك يحل إشكالية الأمن والبقاء والتواصل.
لما يبلغ الحال إلى ما وصل إليه، الأستدانة، الاستجداء، رهن ممتلكات، قروض سيادية، فهذا هو الحضيض، ترى هل بعده حضيض ... مالعمل ؟ ..
بتقديري أن هامش المناورة يتضاءل ويضيق، والحلول تطرح نفسها، والخيارات ليست كثيرة. ونظام ما، أو حكومة لا خيار لديها هي كالقائد العسكري الذي كان قد زج بالاحتياطي، وأمسى بلا احتياطي، الحلول أمامه ليست كثيرة بل هي على الأرجح حلول إرغامية (Inevitable) لا محيص عنها، وحتى في هذه الحالة فإن الحكومة قد تحركت صوبها بشكل سيئ بما يضاعف الأزمة لا يساعد بحلها. فالحلول على ضيقها تتلخص بمحاولات حثيثة ينبغي أن تبذلها الحكومة بإيقاف التدهور أولاً بتقليص هامش التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية، وذلك ببذل المحاولات بتجنب الخيارات المكلفة التي سوف تزيد في عمق الأزمات، وتوصلها من حافة الانهيار التي هي عليه الآن إلى الانهيار الشامل فعلاً.
الحل الأوحد يتمثل بحكومة إنقاذ من تكنوقراطين، وإبعاد أجهزة الدولة عن أيدي مشعلي الحرائق، بل العمل المخلص بإطفاء تلك الحرائق، أو النقاط والبؤر الملتهبة، العراق لم يعد لقمة سائغة شهية، لأنه لم يعد فيه شيئ يؤكل، والعائدات قد استهلكت حتى للسنوات المقبلة، وماذا بعد ...؟ ليس سوى تدمير نهائي للعراق حتى لا يعود يمثل كياناً ذا شأن، أو جار يريد من العراق أن يكون دولة وسادة (Buffer State) دولة صغيرة تحجز بين دولتين) أو ودولة تتمتع باستقلال نسبي، وأميركا تريدها دولة تحت الحماية (Protectorate State)، أو دولة دول تابعة (State Vassal)، وفي جميع الأحوال هذه، فالعراق فاقد لسيادته التامة على أرضه ومقدراته، بل وحتى على أبسط شروط السيادة.
إيقاف القوانين والقرارات سيئة الصيت التي قسمت الشعب العراقي طوائفاً وقبائل وأحزاب وميليشيات، إنهاء التهميش والإيثار والأستئثار، والإقصاء والاجتثاث، قرارات قسمت المواطنين وفرقت بينهم، وأججت الصراعات، والعداوات، وأسباب النزاع، المطلوب وبأسرع ما يمكن حكومة تكنوقراط تكون أشبه هيئة أطباء لا يتدخل أحد في قراراتها الفنية والمهنية، حكومة تفعل كل ما يمكن فعله من أجل وحدة الصف العراقي، فالبلاد بحاجة حتى لجهد الطفل الرضيع، لندخل في حالة إنذار عمل وجهد لا يتوقف لأنتشال الوطن والشعب من المحنة.
هذا ما يريده الناس .... ليس لدينا وقت طويل للتأمل والتفكير ..! أنقذوا العراق ...
الأمس قد مضى .. الغد قد لا يأتي ... الآن ...!
2144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع