قاسم محمد داود
من اعلام التصوف الإسلامي ...عبد الكريم الجيلي
من كبار الشخصيات الصوفية التي تقابلنا في تاريخ التصوف الإسلامي الفلسفي شخصية الصوفي الفيلسوف عبد الكريم الجيلي . ولدَ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم بن خليفة المكنى (قطب الدين ) ويلقبه البعض بالجيلي في سنة (767هـ /1366 م) في قرية قريبة من بغداد ، ينتسب الجيلي الى الشيخ عبد القادر الجيلاني .
أحاط الجيلي بثقافة واسعة أثرت في فكره الصوفي وجعلت مؤلفاته "بحاراً تموج فيها شتى العناصر الثقافية " . كان عالم بدقائق اللغة العربية بجوانبها النحوية والبلاغية والشعرية الى جانب علمه باللغات الهندية والفارسية ، بل ويضع الجيلي كتباً ومؤلفات بهذه اللغات الثلاث .
في العشرين من عمره خرج من العراق واتجه شرقاً فزار بلاد فارس وتعلم اللغة الفارسية . وكتب بها رسالة صغيرة أي ما يمكن تسميتها كتيب في العصر الحالي ،سماها " جنة المعارف وغاية المريد والعارف " . ومن بلاد فارس ذهب الى الهند واطلع على الديانات فيها وعرف اسرار العبادات هناك ، لم يستقر في الهند طويلاً ، وبما ان الترحال من المستلزمات التي لابد منها في المسلك الصوفي لطلب العلم واكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ وهي عندهم تعادل اكبر الاجازات والشهادات التي يحصل عليها طالب العلم . لذا توجه هذه المرة غرباً قاصداً الجزيرة العربية ،وهناك استقر الجيلي في اليمن في مدينة " زبيد " سنة 796هـ /1394م وكان عمره آنذاك التاسعة والعشرين ، وفي هذه المدينة بدأ التحول الروحي في حياة الجيلي عندما تعرف على شيخ الصوفية شرف الدين بن أسماعيل الجبرتي (توفى سنة 806هـ ) وهو الرجل الذي كان له اكبر الأثر في حياة الجيلي وتصوفه .
من مدينة زبيد في اليمن توجه الجيلي الى مكة وكان وصوله اليها سنة 799هـ /1397م . وفي مكة التقى بأهل التصوف المجاورين حول البيت الحرام . ومن مكة واصل سياحته الصوفية ووصل القاهرة سنة 803 هـ /1401م واجتمع بعلماء الازهر الشريف واكمل هناك كتابه "غنية ارباب السماع " الذي جمع فيه بين موضوعات التصوف والبلاغة . ومن القاهرة كانت الرحلة هذه المرة الى مدينة غزة ومنها عاد من جديد الى مدينة زبيد في اليمن والتقى بأستاذه الجبرتي الذي توفي بعد عام من هذا اللقاء ،استقر هناك فترة من الزمن وانهى كتابه الشهير " الانسان الكامل " الذي أكسبه شهرته كفيلسوف متصوف . توفي الجيلي في مدينة زبيد سنة 826هـ/ 1423 م بعد ان قضى معظم حياته في السياحة والمجاهدة الروحية وتحصيل العلوم .
كان الكتاب والسنة النبوية هما أصول الفكر الصوفي الإسلامي وهما كذلك عند الجيلي وكان التأويل والتجربة الصوفية من مصادر هذا الفكر . ومن مصادره المهمة أيضاً مصدر لا يمكن اغفاله ، وهو الثقافة السائدة في الوقت الذي عاش فيه الجيلي .
اهتم الجيلي الذي يصنف بالمتصوف المعرفي اذا جاز لنا تقسيم التصوف الإسلامي الى تصوف معرفي فلسفي وتصوف اجتماعي، الذي احد كبار اقطابه جده عبد القادر الجيلاني . يقترب الجيلي كثيراً من ابن عربي بتقرير وحدة الوجود فتكلم عن سريان ظهوره في الموجودات الا انه كان بعيداً عن فكرة الحلول التي قال بها الحلاج:
فما ثمَ غير الله في الوَرى / وما ثمَ مسمُوعٌ ولا ثًمَ سامعُ
يمكن معرفة الفكر الصوفي لدى عبد الكريم الجيلي من خلال كتابه
(الانسان الكامل في معرفة الأوائل والاواخر ) وهو اهم كتبه واشهرها فقد وضع فيه الشكل النهائي لنظرية الانسان الكامل في تاريخ التصوف الإسلامي ، وهي واحدة من النظريات التي تحتل مكان بارز في الفكر الصوفي ، وتشكل احد الجوانب المهمة في فلسفة الجيلي الصوفية "حيث تمتزج الفكرة بالكشف الإلهي، وتقترن النزعة الفلسفية بالحس الصوفي المرهف ."
" والانسان الكامل او ( القطب ) عند الصوفية المسلمين هو اعلى مقامات التمكين التي يصل اليها السالك لطريق الله اذا داوم على سلوكه حتى تدركه العناية الإلهية فيتصل بنبع الكمال . فاذا وصل الصوفي الى هذه الدرجة العالية كانت نفسه هي النفس الكاملة . وكان نور الحق تعالى هو العين التي يرى بها ... فينظر آنذاك بنور الله ." يرى الجيلي في الديانات السماوية وغير السماوية . انهم جميعاً يعبدون الله لكن كل على طريقته الخاصة . ذلك لان الله خلقهم للعبادة وبعبادتهم تظهر حقائق الأسماء والصفات الإلهية . ويكون الله متجلياً على جميع مخلوقاته . وكأن الجيلي يقول ان الانسان حر في عبادته لأن كل ما يعبده هو آت من الله لأن الله موجود في كل ذرة من ذرات الموجودات وأنه ظاهر في كل الأشياء .
يحتل الشعر مكانة مرموقة في ثقافة الجيلي وهو من الاشكال التي عبر بها عن فلسفته وفكره . وأول ما يستوقفنا في شعر الجيلي قصيدته المطولة المسماة (النادرات العينية في الباد رات الغيبية ) وهي واحدة من أطول قصائد الشعر الصوفي الإسلامي ، اذ تتألف من 540 بيتاً ولا تعرف قصيدة تتعداها في عدد الابيات الا قصيدة ابن الفارض التائية المسماة (نظم السلوك ) والتي تتألف من 667 بيتاً . يقول الجيلي في مطلع قصيدة البادرات :
فؤادٌ به شمس المحبةِ طالعُ
وليسَ لنجمِ العذلِ فيهِ مواقعُ
صحا الناسُ من سكرِالغرامِ وما صحا
وأفرقَ كلٌ وهوَ في الحانِ جامعُ
وتعتبر قصيدة (النادرات )من اهم النصوص الشعرية التي عبرت عن فكر الصوفية في تاريخ التصوف حتى يومنا هذا ، لذلك عني بها الصوفية عناية كبيرة ولا زالوا يرددون أبياتاً منها ، ويتغنى بها المنشدون في حلقات الذكر الصوفي . كما ان القصيدة حوت العديد من الموضوعات الصوفية الفلسفية . بدأ الجيلي قصيدته بالحديث عن الحب في مفهومه الصوفي . والحب عند الصوفية هو آخر طور من اطوار العلم بالمعنى الظاهري وأول طور من أطوار المعرفة اللدنية. نجد هذا في الابيات التالية من قصيدة النادرات :
صُليتُ بنارِأضرمتها ثلاثةٌ
غرامٌ وشوقٌ والديار الشواسعُ
يخيلُ لي أَن العُذِيبِ وماؤهُ
منامٌ ومن فرطِ المحالِ الاجارعُ
فلا نار إلا فؤادي محلهُ
ولا السُحبُ إلا ما الجفون تُدافعُ
ولا وَجدَ إلا ما أقاسيهِ في الهوى
ولا الموت إلا ما اليه أسارعُ
فلو قِيسَ ما قاسيتهُ بجهنمِ
من الوجدِ كانت بعض ما أنا قارعُ
وضع الجيلي ما يزيد على ثلاثين مؤلفاً في مختلف المواضيع الصوفية والفلسفية منها ما طبع ومنها لا يزال مخطوطاً في المكتبات. مؤلفات الجيلي – كما هي مؤلفات غيره من الصوفية –تكثر فيها العبارات الغامضة والاشارات والرموز ، ومن مؤلفاته المطبوعة :
1- المناظرات الإلهية : وهو كتاب صغير فيه مئة منظر ومنظر من المناظر النورانية التي رآها الجيلي خلال خلواته .
2- الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم : وهو اول كتاب وضعه في مجال التصوف واعتمد في تأليفهُ على طريقة علم الحروف وحساب الجمل .
3- شرح الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية، وهو شرح صوفي للباب 559 من كتاب الفتوحات المكية لمحي الدين بن عربي .
4- كتاب الانسان الكامل في معرفة الاواخر والاوائل : وهو الكتاب الذي أثار جدلاً كبيراً حول محتواه وقد قسمه الى ثلاثة وستين باباً تبحث في وحدة الوجود . يقول الجيلي في مقدمته :
" أعلم انَ كلَ علم لا يؤيدهُ الكتاب والسنةَ فهوَ ضلالة لا لأجلِ ما لا تجدهُ أنتَ ما يؤيدهُ ، فقد يكون العلمُ نفسهُ مؤيداً بالكتاب والسنهَ ، ولكن قلة استعدادكَ منعكَ من فهمهِ " .
1162 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع