د.صالح الطائي
إلى الشباب (٢): أنت والتفكير النقدي والنمو المعرفي
كل ما قالوه لك عن حوادث التاريخ، وكل ما سيقولونه الآن أو مستقبلا يقبل القسمة، ولا يمكن التسليم بصحته دون نقاش، فقد يكون صحيحا، ما أدرانا، فنحن لسنا شاهدين عليه، ولا ناظرين إليه، ولكنه بكل تأكيد يحتمل الخطأ أيضا بنفس الدرجة والمقدار، ولنفس الأسباب. وهذه من البديهيات المعروفة تاريخيا، لخصها قول مشهور مفاده: "لا تصدق كل ما تسمع، ولا نصف ما ترى، واترك النصف الأخر لعقلك".
وأنا هنا لا أدعوك إلى الشك، مع يقيني أن شك العاقل يقوده ويوصله إلى اليقين، ولكني أريد تحذيرك من بديهة تعَّوَدَ الناس على سماعها، وهي أنهم في الغالب يُصَدِّقون الآخرين لأسباب عديدة، قد يكون من ضمنها أن ما يقوله المتحدث يوافق هوى أنفسهم، حتى لو كان كلاما كاذبا بذيئا مبالغا فيه، أو أن المتحدث يملك سمات، ومهارات شخصية، وأسلوبا جذابا في الحديث، وقدرة على الإقناع، تستهوي السامعين وتؤثر فيهم، أو أن له مكانة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، تجعل الناس يثقون بكلامه ويصدقوه. ومعنى هذا أن لا شيء أكيدا، والشك مسألة عقل مطروحة على بساط البحث، قد تكون واحدة من أفضل الخيارات المتاحة إذا كانت بعقل! فلا تتهيب أن تشك بهذا الأمر أو ذاك ما دمت تبحث عن الحقيقة.
إن كلمات مثل: نمو معرفي ... شك ... نقد .. تشكل ثلاثية من أروع ما يمكن أن يعتمده الإنسان الواعي في رحلة البحث عن الحقيقة. قال محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي في كتابه (المثلث ذو المعنى الواحد): "المثلث في اللغة له معنى واحدا هو الدلالة على ثلاثة أشياء". وجاء في التهذيب، قال الليث: "المثلث من الأشياء ما كان على ثلاثة أثناء.. والمثلوث من الحبال ما فُتل على ثلاث قوى".
والمثلث Triangle)) هو أحد الأشكال الأساسية في الهندسة، وهو شكل ثنائي الأبعاد مكون من ثلاثة رؤوس تصل بينها ثلاثة أضلاع، وتلك الأضلاع قطع مستقيمة. ويرمز المثلث إلى السحر والإبداع, فهو يشير إلى المجموعة, الخلق, المظهر, الإضاءة, الانسجام, التكامل, الصعود, الذاتية, والذروة. وما يميز المثلث عن غيره من الأشكال الهندسية, أنه عند قلبه يعطي معانٍ مختلفة. وللمثلث كما يرى الباحثون والعلماء رمزية خاصة في أغلب الحضارات، ففي الحضارة السومرية يرمز إلى المدفن الشمسي. وفي اليهودية يرمز إلى القوة الروحية . وهو في الحضارتين اليونانية والإغريقية يرمز إلى القوة الفكرية والدينية والجسدية.
بمعنى أن هذه الثلاثية التي تمثل واقعك، تحمل رمزية كبيرة يجب الانتباه إليها. وهذه الثلاثية هي التي يجب توظيفها عند التعامل مع الآراء والأفكار الكثيرة والمتشابكة والمتعارضة فيما بينها إلى حد الغرابة قبل أن نأخذ بها أو نرفضها، وعلى سبيل المثال نجدهم قد تكلموا عن بداية وجود البشر على سطح كوكب الأرض، واختلفوا في ذلك، فادعى بعضهم أن وجود البشر على الأرض يعود إلى مليون عام، وادعى آخرون أنها ليست أكثر من عشرة آلاف عام، والفرق بين الرقمين كبير جدا.. واختلفوا في معرفة عصر بداية الزراعة، فغاص بعضهم في عمق التاريخ، واكتفى آخرون بإرجاعها إلى نحو ستة أو سبعة آلاف عام.. واختلفوا في وقت معرفة البشر للكتابة، فقالوا الكثير، شاع منه قولهم: إن معرفة البشر للكتابة تعود إلى نحو ستة آلاف عام.. واختلفوا في تحديد حقبة هيمنة العلم، فأرجعه بعضهم إلى عصور الحضارات القديمة، وتقدم آخرون حتى وصلوا به إلى نحو ثلاثمائة عام فقط، وأنه لم يصبح مصدرا للتقنية الاقتصادية إلا منذ مائة وخمسين عاما فحسب.
وأنت حينما تسمع كل هذه الأقوال، وتعرف حجم الاختلاف بينهم، لا يسعك سوى أن تقف باهتا لا تدري أين ستجد الحقيقة، وعند أي منهم الخبر الصحيح. هنا يأتي دور نموك المعرفي ليكون الحَكَم الفصل، فيرشدك إلى الرأي الأكثر صوابا من غيره.
اقتبس الدكتور عادل مصطفى في كتاب (المغالطات المنطقية) عن(جان بياجيه) رأيه الذي قسم فيه مراحل النمو المعرفي للإنسان إلى أربع مراحل عمومية تشمل جميع البشر هي: (المرحلة الحسية الحركية) التي تبدأ مع الولادة، وتقف في عمر السنتين. وهي مرحلة انعدام بناءات التخطيط الذهنية. و(مرحلة ما قبل العمليات) من عمر سنتين إلى أربع، حيث تبدأ البناءات الذهنية بالتعقيد. و(مرحلة تفكير العمليات العيانية) من سبع سنوات وحتى المراهقة، وهي مرحلة تفهم ثبات الجوهر والتساؤل عن الحياة. و(مرحلة العمليات الصورية) وفيها تواتيه القدرة على التفكير المنطقي المعقد، والتفكير التجريدي غير المرتبط بالأحداث المادية، والتفكير الافتراضي، ومعها الحل المنطقي للمشكلات.
وهذا الرأي مع كونه يغطي مجمل النشاط التطوري الإنساني لا ينجو من النقد لأنه ليس حكما قطعيا؛ لا يقبل النقاش، والدليل أن أكثر المتماهين معه والمؤيدين له، اقترحوا إضافة مرحلة خامسة، أطلقوا عليها اسم (مرحلة التفكير الجدلي)، التي يُكتسب فيها التفكير النقدي، وسيأتي من يضيف مراحل أخرى تبعا للتطور الحياتي والمعرفي.
ثم إن مجرد اختيار المؤلف عنوان (التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي) للمبحث يدل على أن نمو المعرفة لم يتوقف في عصر ما، وأنه لا زال، وسيبقى مستمرا؛ ويتسارع عادة بشكل مهول من خلال توظيف المعارف المتاحة. فالنمو بحد ذاته، يوسع المدارك، ويحرق تلك المراحل التي تحدث عنها (بياجيه) وهو ما أسميه أنا (التسريع المعرفي) الذي يشبه تسريع الطلبة الأذكياء بنقلهم إلى صف دراسي أعلى من مراحلهم بمرحلة أو مرحلتين. فالعقل النقدي الذي يمتلكه طالب الدراسة المتوسطة اليوم يكاد يزاحم عقول بعض علماء القرن العاشر مثلا، وربما يتقدم عليهم. فالنمو المعرفي يُفيد عادة من التراكم الثقافي؛ في إحداث عملية التسريع التي تسهم في حرق المراحل.
معنى هذا أن كثيرا من الخيارات المتاحة أمامك، والمعروضة عليك، والتي يشجعك عليها بعض أصدقائك، ويطرحها ويناقشها بعض من تقرأ لهم من المؤلفين والباحثين والسياسيين، هي خيارات قابلة للنقد والتأويل والتبديل، واختيارك لأي منها دون نقد وتحليل، أو لمجرد أنك تأثرت بصديق أخذ بها، أو لأنها أثرت فيك نفسيا، أو لأنها وحدها متاحة أمامك، أو لأنها أصبحت ظاهرة في العصر الذي تعيش فيه، كلها قد تكون مجرد وهم يوقعك في مشاكل تنهكك، أو يكون أحدها هو الحقيقة التي تبحث عنها. إن الصعوبة ليست في الاختيار، بل في معرفة الحقيقة لاختيار الأنفع!.
ولا تنسى أن بعض الخيارات تملك من القوة والتأثير ما مكنها من إحداث فوضى وضوضاء عالية، جلبت الأنظار والعقول إليها. وبعضها مشهورة جدا لدرجة أنها تبدو من المسلمات التي لا غبار عليها، بسبب شيوعها، وكثرة معتنقيها، وقوة الإعلام الذي يروج لها، مثل: الإيمان .. الإلحاد .. العلمانية .. اللادينية .. الفوضوية، عبادة الشيطان، وأشياء كثيرة أخرى! وأنا واقعا وضعت الإيمان ضمن هذه المجموعة، لأن بعض الإيمان الشائع قد لا يكون هو الإيمان الصحيح، أو يكون إيمانا محرفا، أو إيمانا مبنيا على الوهم، وقد يكون غريبا عن الإيمان الحقيقي. هنا يأتي دورك.. دور نموك الفكري، دور رزانة عقلك، ورجاحة معرفتك، وأثر شخصيتك وتربيتك، وطبيعة مجتمعك الذي تعيش فيه، وثقافتك العامة، ومقدرتك في النقد، والغاية التي دفعت إلى البحث عن معتقد؛ على القرار الذي تنوي أن تتخذه. أما الأهم من كل ذلك؛ فهو شعورك بمدى جدية ما ستختار، والتداعيات التي سيحدثها الاختيار على مستقبلك، ومستقبل وطنك وأمتك والإنسانية جمعاء، واثر الاختيار على شخصيتك، ووضعك الاجتماعي والنفسي.
فضلا عن ذلك هناك شيء مهم قد لا تلتفت إليه حينها بسبب وقوعك تحت مؤثرات الحيرة، أو نتيجة التسرع في الاختيار، وهو أثر الاختيار على وضعك المصيري، وأقصد وضعك ما بعد الحياة، فهو مشروع مهم يجب أن تفكر فيه كثيرا حتى لو كنت لا تؤمن بحياة بعد الموت، لأن عدم إيمانك بالحساب والثواب والعقاب الأخروي يتطلب منك أن تعتنق ثقافة؛ ربما تتعارض كثيرا مع نوع خيارك الذي عزمت أن ترجحه على غيره. وهكذا ستجد نفسك واقفا محتارا قلقا مستفزا أمام سلسلة طويلة من الامتحانات القاسية والصعبة التي ستقض مضجعك، وتقلقك، وتربكك، في أمر ممكن أن تتجاوزه؛ إذا ما آمنت أن ما جاءت به الأديان بصورتها النقية وليست المحرفة أمر لا يحتمل التأويل، فأنا بالرغم من كرهي الشديد لثقافة القطيع، لا يمكن أن استهين بأربعة أخماس البشر الذين يعتنقون ديانة ما في العالم كله، اقتنعوا بصوابها. أقول هذا على اعتبار أن الخمس الباقي، هم الملحدون، كما بينت الإحصائيات، وأذكرك أن هذا الرقم مهما يكن كبيرا ومرعبا، فإنه مبالغ فيه كثيرا، وأن بعض أشهر الملحدين في العالم، تخلوا عن إلحادهم في مرحلة ما من أعمارهم بعدما شعروا أن وعيهم كان غائبا أو مغيبا عنهم، فعادوا إلى الإيمان، وهذا يعني أن كل خيار من الخيارات المتاحة أمامك ومهما كان مقبولا ومقنعا ربما ستجده في التجربة ليس الخيار الأفضل من بين الخيارات المطروحة.
1723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع