د.ضرغام الدباغ
التطرف ... الخطوة الأولى للنهاية
قراءة التاريخ هي حتماً ليست لإزجاء الوقت، وكتابة التأريخ هي أيضاً غير التسجيل الكرونولوجي (Chronology) للأحداث بتسلسلها، دراسة التاريخ فلسفة التاريخ تعني في المقام الأول علم التطور المادي للتاريخ، دراسة الأسس التي يقوم عليها التطور، ودراسة عميقة لجوهر الأساسيات في الحياة.
السياسة هي
مجموع الفعاليات (Total actvities) والنشاطات الداخلية والخارجية التي تعتمد بالدرجة الأولى على التوصل إلى قناعات مشتركة من أجل الشروع بفعاليات مشتركة، وهو عمل يعتمد أساسا الحوار واستبعاد اللجوء إلى القوة، وفي مجال بحثنا، تمارس الدول هذه الفعاليات كإحدى سبل تأمين المصالح الوطنية العليا.
والسياسة (تعني بصفة أساسية) التعامل مع الحقائق والعناصر التي تلعب دوراً في إطار الوضع السياسي والاقتصادي العام في مرحلة تاريخية معينة من أجل الوصول إلى هدف تسعى إليه فئة أو فئات اجتماعية وأدواتها التي تفرزها وتمثله: الأحزاب والحركات السياسية، أو بين تحالف يضم عدداً منها. وتمارس السياسة بصورة اشمل وأعمق وأكثر فاعلية إذا جرت ممارستها من مواقع السلطة وفي قيادة الدولة، ومن البديهي أن تشمل دائرة فعالياتها، العلاقات الدولية والأحداث الدائرة على مسرح السياسة الدولية.
والسياسة بهذا المعنى ضرورة، بل حتمية التعامل مع قوى وحركات وأفراد وفئات وكتل اجتماعية وكيانات، وهذه العناوين تختلف في الموقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وبالتالي فإن لكل منها وجهة نظرها، ومصالحها، ومن المؤكد مواقفها. ولا يمكن لواحد من القوى أن يلغي الآخر، بل من الأنجح أن تتقارب هذه العناوين لدرجة إمكان صياغة برامج مشتركة، وحتى إذا كانت هذه الفرصة بعيدة المنال، فعلى الأقل تجنب التصادم الذي سيكون مؤذياً لكل من الطرفين، أو لمجموعة الأطراف.
ومن هنا فإن دراسة التاريخ بعمق، وبالذات تاريخ الحركات والاحزاب الاجتماعية والسياسية، والتيارات الفكرية، التي تظهر مسار هذه الحركات التي تبدأ بطرح فكر جديد، يتجاوز ما قبله، فيجد سبيله للنجاح، ولكن هذا النجاح سيكون وقتياً ما لم تنجح تلك الحركة بأستيعاب ظروف ومعطيات التطور، وأن تسايرها، وأن تخضع نفسها للتطور، وأن تتجنب الجمود العقائدي (Dogmatism) الذي يعني فيما يعنيه العجز عن الأيفاء بمستحقات المرحلة، وعدم قبول الفكرة البديهية العلمية بحتمية التطور، وبالتالي سيعجز عن فهم سائر الظواهر ومتطلباتها.
التطرف بأختصار هو مسار حتمي للحركة / الحركات التي تعجز أو تفقد القدرة على التواصل القائم على القناعات والحوار ضمن محيطها الذي تعيش فيه، وتفتقد تدريجياً الصفة التي أحرزتها في بداية نهوضها وأصطفافها الطليعي، ويواجه عناصرها هذا الخلل تدريجياً حتى يصبح ظاهرة، فتتحول الحركة إلى معسكر، بمواجهة الناس.
في هذه المرحلة وضعت الحركة جداراً شاهقاً بينها وبين الآخرين، وقد يصل الأمر في سياق تناقض مطرد إلى اشتباكات نظرية، مفتوحة على أحتمالات أوسع ، وغالباً ما يجري تصعيد (Eskalation)، وربما أحياناً يكون غير مقصود، بدافع الحماس أو التدافع والتنافس، ومن دون السيطرة على هذا التصعيد الذي ينفتح على احتمالات، ربما لم تكن في ذهن قيادة الحركة، فإن الموقف برمته يكون قابلاً للأنفجار.
في معسكر الحركة، سيتراصف الدوغماتي (الجامد / المتعصب) إلى جانب الأقل ثقافة ووعياً، وإلى جانبهم ستقف مجموعة ممن يمتهنون العلاقات العامة (هو تعبير معاصر مهذب للأنتهازية "Opportunismus")، والمنتفعين أقتصادياً، وستحشى الحركة على صفوفها من التبعثر والأندثار الفكري والتنظيمي، فستسعى الحركة إلى إطلاق موجات متعاقبة من التعصب والتطرف (Fanaticism) لشد صفوفها وطرح تصور لا يبتعد عن الإطار القديم، بل يغطس في غياهب المبالغة ومنح القناعات السياسية (الثقافية) طابعاً تسلطياً فوقياً، لا يجوز التطرق له، أو الشك بشرعيته (Legitimation) والتقرب منه والشك بسلطانه.
والأفراد في هذه الحالة يتحركون سياسياً كأدوات، فهم لا يمتلكون قناعات عميقة، لذلك تسهل عمليات أختراقهم، ويكون مجمل الوضع قابل للتصدع في حالة الأهتزازات، أو الخلخلة في الموقف العام ولاسيما في حال زوال أو ضعف قوة التحريم . ومن هنا نشاهد الشبان الذين كانوا أكثر أندفاعاً، عندما يعيشون في أجواء الحرية يتحولون إلى بدائل واحتمالات كانت بعيدة جداً .
التطرف هو الخطوة الأولى للنهاية، وهذا العنوان لا يهدف إلى أن تتراجع الحركات المتطرفة للعدول عن تطرفها، فالمتطرف قد وضع حركته ونفسه في عملية تاريخية (Historical Prozess) لا يستطيع التراجع عنها، أو لنقل أن التراجع عسير. ولنا من الأمثلة الكثير جداً في التاريخ القديم والحديث. وبوسع القارئ أن يطلع على تاريخ الحركات السياسية والفكرية منذ مطلع تاريخ الفكر السياسي القديم، والوسيط والحديث. وكذلك في أعمال كثيرة تفصل تاريخ الحركات السياسية التي بدأت قوية، وتصاعدت قوتها كثيراً، ولكنها انحدرت بسبب تطرفها، وأبرز تلك الحركات في العصور العربية الوسيطة : الخوارج، المعتزلة، القرامطة، وبدرجة ما حركة الزنج.
هذه الحركات بدأت حركات كان ينتظر منها أن تفعل الكثير ولا سيما الخوارج كحركة سياسية مسلحة، الذين كانوا مثار الإعجاب بنزاهتهم وشجاعتهم، إلا أنهم بالغوا، وتطرفوا، وبلغ الأمر بفرقة من أكبر فرقهم (الأزارقة) أن مالوا لتكفير حتى الأطفال، وبالغوا في استخدام العنف. والمعتزلة الميالون إلى الفلسفة والمناظرات الكلامية، كان لهم مفكريهم العباقرة، وبتقديري هم والخوارج أيضاً، من أوائل الحركات الديمقراطية في الإسلام (بعد الخلافة الراشدية)، ولكنهم تدخلوا في الحكم، وكثرت أخطاؤهم، ثم صاروا يقمعون بشدة من يعارضهم، وانتهى الأمر بتشتت وتلاشي مذهل لهذه الحركات الضخمة فكراً، وانتشاراً في المجتمعات العربية والإسلامية.
أما حركات الزنج والقرامطة، فنهايتهما كانت أسوء بكثير من الخوارج والمعتزلة، فالزنج الذين ثاروا من أجل تحرير أنفسهم واستطراداً مجتمعهم من العبودية، وبعد أن حققوا بعض المكاسب وصار لهم شبه كيان، سرعان ما مال قادتهم ورؤسائهم لامتلاك العبيد، والإقطاعات. والقرامطة الصف الأول من قادتهم تميزوا بالإخلاص والنزاهة، ولكت القيادات التالية ارتكبت القيادات القرمطية الكثير جداً من الأخطاء الفادحة، من الفساد الإداري والمالي، إلى امتلاك القصور، والتطرف الذي صاروا بالنتيجة لا يستطيعون التفاهم لا مع دول ولا حركات عاصرتهم، بل واختلفوا حتى مع الفاطميين وحاصروا عاصمتهم، وكادوا أن يدمروها.
التطرف سيجد طرق الحوار أمامه مغلقة، لأنها قد تعني التراجع مما أعتاد عليه وأتقنه، ويجده سهلاً في التطبيق، وما دامت لديه القدرة على ممارستها، وحمل البعض على مسايرتها، والمتطرف يستصغر شأن الآخرين، ويضع الأكثرية الصامتة (وهي الغالبة في معظم المجتمعات) يضعها في حسابه، وسينتهي الأمر به أن تعتبر هذه الحركة نفسها ملهمة، وتحتكر الحق والصواب، ولا تقبل من الجهات الأخرى إلا أن تردد ما يطرح من سياسات ومفردات.
ويقود التطرف في تفاعلاته إلى اضمحلال وتلاشي الإدارة الجماعية سياسياً، مقابل صعود أفراد، لأن سباق التطرف سيفرز قادة يفرضون أنفسهم أمناء على "الخط" طغيانيين على الأرجح، طالما أن المحيط السياسي عاجز عن التصدي لمثل هذه الظواهر، وبروز ظواهر ملهمة، والقائد الملهم هو جزء من ديكور التطرف ومستلزماته ولواحقه. وقد يكون بعض القادة الطغاة في التاريخ هم حقاً على درجة كبيرة من قوة الشخصية والقدرات القيادية، وقد لا يخلو الأمر من منجزات على أصعدة مختلفة، ولكن النظام السياسي في أي دولة ناجحة، هو متعدد الصفحات، والنظام الديكتاتوري لن يكون بوسعه أن يقدم النظام ويطوره، فهذه تخالف مسارات النظام الديكتاتوري.
الديكتاتورية ( Dictation / وهو مصطلح غربي يقابل الطغيان في الثقافة العربية) وتعني: سلطات غير محدودة، وانتهاج سياسة الإملاء، أو فرض الإرادة، أو التصور المسبق، وأوامر خارجة عن المداولة. ويمكن أن يمارس الطغيان من قبل شخص، أو حزب، أو طغمة وهو مصطلح سياسي بالدرجة الأولى، وهو يعني التفرد بالحكم، بأستخدام القوة، وتجاهل أراء الإطارات الدستورية والسياسية في أي بلد، وقمع المعارضين، وتجاهل إرادة الشعب في التغير، من أجل تداول سلمي للسلطة وتقديم الأفضل، والهيمنة على الرأي العام بوسائل عديدة. وعلى هذا النحو، فهم هذا المصطلح في الشرق والغرب على حد السواء ومورس بأساليب وأشكال مختلفة، إلا أنها كانت متشابهة في جوهرها.
وكما للديمقراطية مؤسستها، كذلك للطغيان له مؤسساته، وإذا كانت مؤسسات الديمقراطية العامة المفتوحة للشعب كالبرلمان الفعال، والصحافة الحرة، والتعددية الحزبية، والقوانين التي تحترم حقوق الإنسان، ودستور يصون الحريات الديمقراطية ويكفلها، الديمقراطية تسعى إلى زج أكبر قد من الناس في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالمقابل الطغيان له مؤسساته (وإن كانت تفتقر إلى شرعية النظام الديمقراطي الدستوري) التي تتمثل بأجهزة عديدة للمخابرات والأمن، وهي مؤسسات نظمها القانون، ولكنها تتوجه إلى معادة الشعب في النظم الديكتاتورية، مهمتها مراقبة أصغر التحركات حتى التافهة منها بين صفوف الشعب واتجاهات الرأي العام، وتتغلغل في أفكار وتصورات الشعب، وتصادر كل شيئ معنوي. وتفعل ذلك بحرفية عالية جداً، وقد تعمل الأجهزة غالباً من وراء الستار، ولكنها تمد أذرعها في كافة مفاصل الدولة والمجتمع. وأجهزة الأمن هي محصورة للنخبة وأبنائهم، وحاشية السلطة ومن العناصر المضمون ولائها الشخصي.
الطغيان والأنظمة الديكتاتورية استفادت من التجارب في بلدان عديدة، ومن اللافت أن الطغاة يعتقدون أن العلة تكمن في خطأ تكتيكي أرتكبه أحد رجال النظام، ويتجنب الاعتراف بأن الخطأ هو في جوهر النظام الطغياني الديكتاتوري، كما يأبى الاعتراف أن الأنظمة الطغيانية آلت إلى الزوال ولقى الطغاة مصائرهم على أيدي المضطهدين والمسحوقين، وغالباً بصورة بشعة هي أقل بكثير من بشاعة النظام الطغياني الذي مارسوه.
والطاغية (Dictator)، وهو يمثل ابتداء ميل جارف للتسلط، وهذا الميل قد يكون قد رافق الطاغية منذ طفولته، فعاش الهاجس في تكوينه النفسي وأثر على كل تصرفاته اللاحقة، فإبداء اللين والموالاة والطاعة، ربما كانت السبيل لما يمور في دواخله، ولكنه لم يبرز لدية إلا في لحظة تاريخية مواتية. وأبرز دليل على ذلك هو الديكتاتور الباكستاني الجنرال ضياء الحق(1924 ــ 1988)، الذي كان موالياً لرئيس الوزراء ذوالفقار بوتو، بل وظن أنه من بطانته، حتى سلمه قيادة الجيش، فقام بأنقلابه العسكري وزج ببوتو في السجن وأعدمه لاحقاً بعد محاكمة مشكوك في نزاهتها. ومثله أيضاً الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشيت(1915 ــ2006) (تشيلي) الذي هو نسخة مطابقة للجنرال الباكستاني لضياء الحق، الذي سار في تأييد الرئيس سلفادور اليندي، ثم قاد أنقلاباً عليه، وقصف مقره مما أدى إلى مصرعه. ومثلهم فعل الجنرال الاندنوسي سوهارتو(1921 ــ 2008)، الذي أستغل ظروف أمنية معينة، فأستلم مقدرات البلاد من الرئيس أحمد سوكارنو، وما لبت أن أنقلب عليه وعزله وأحتجزه حتى وفاته.
ويجزم الكاتب الكولمبي غارسيا ماركيز، أنه تتبع الأصول العائلية لطغاة أميركا اللاتينية فوجد أن جلهم يعاني من طفولة شقية، ومن اضطهاد أسري أو بيئي، رافقت مراحل مهمة من حياتهم، فالطغيان هو نزعة عصابية غير طبيعية، تمثل تنفيساً لعقد وكوامن نفسية، ظاهرة أو خفية، وتعويض لما تمثله هذه العقد من حفرة عميقة في النفس، هي من بين العوامل الرئيسية التي تمثل المحرك الخفي للسلوك الطغياني اللاحق.
ومن أجل تكريس زعامة شاملة، لا يتواني الطغاة عبر التاريخ من وضع أسمائهم بصفة هالة من التقدير والتقديس(موسوليني ـ دوتشي"القائد" هتلر ـ فوهرر " الزعيم "، عبد الكريم قاسم " الزعيم الأوحد ")، وتساهم أجهزة الدولة الرسمية بهذا الجهد، فتمنح الطاغية ألقاباً وأسماء، ناهيك عن الرتب العسكرية والأوسمة لمزيد من الهيبة، ويضعون صورهم الشخصية على العملات الورقية والمعدنية، وربما صياغة قصصاً وأساطير. ففي التاريخ الشرقي القديم (في بلاد الرافدين، ومصر القديمة، وحتى في الحضارات الأخرى كالأزتيك والمايا والأولميك في أميركا اللاتينية)، كان الملوك يشبهون أنفسهم بالملائكة، فقد أدخل الملوك بناتهم وزوجاتهم في خدمة المعابد وأصبحن كاهنات، بل وأن ابنة الملك الأكدي الكبير سرجون، كانت كبيرة كاهنات(نانا)، وكان يحظر على الكاهنات إقامة الاتصالات الجنسية مع الرجال في الظروف الاعتيادية، وذلك هو السبب في أسطورة ولادة الملك سرجون إذ وضعته أمه الكاهنة في سلة من والقصب في تيار النهر (كما حدث للنبي موسى) وأنقذه بستاني. وهناك ما يشير إلى الافتراض الواضح أن الملوك كانوا يمارسون الاتصال الجنسي الطقوسي مع الكاهنات، حيث تقوم الكاهنة بدور الآلهة أينانا ويمثل الملك دور الإله دوموزي(تموز) وفي الأساطير كان هذا الإله في الأصل بشراً، لذلك فقد كان الاعتقاد سارياً وسائداً بأن الحكام(ملوك وأمراء) إنما يحكمون بتفويض من الآلهة (Divine Right) أو أن الآلهة قد حلت فيهم (Incarnation) بصورة من الصور، والحكام هم أصلاً كانوا ممثلين اكبر القبائل والأعراق عدداً وقوة (من حيث المحاربين) وهم بالتالي أكثرها ثراء، ولذلك يحوزون على القوى المادية التي تترجم سلطانهم إلى هيمنة على الفعاليات التي تدور في المجتمع. ولم يتوانى بعض مروجي نظام الزعيم عبد الكريم قاسم أن يهولوا بأن صورة الزعيم موجودة في القمر ..!
والطغاة (الديكتاتوريين) في العصور الراهنة، يمارسون هذه بوسائل أخرى ولكن بذات النتائج، وأن تقلصت بدرجة كبيرة جداً إمكانية تأسيس أنظمة طغيانية، بسبب وعي الشعوب، وتطور العلاقات الدولية التي بات من المستهجن قبول أنظمة ديكتاتورية والتعامل معها على قدم المساواة كالأنظمة الديمقراطية، برغم أن المصالح الانتهازية للدول تتغاضى أحياناً عن أنظمة كهذه، إلا أن هذه الأنظمة فقدت احترام شعوبها والمجتمع الدولي على حد السواء، بسبب التطور الكبير في الفقه القانوني والدستوري، وتطور نظم الدول إلى مستوى رفيع بات معه تنظر وتتعامل مع النظم الديكتاتورية كنظم متخلفة، وشعوبها تستحق العطف.
والطغيان هو نتاج ومزيج (Product & Combination) لعناصر اجتماعية / اقتصادية / سياسية، فالديكتاتورية الفاشية في إيطاليا (أكتوبر 1922/ ابريل 1945) والنازية في ألمانيا (يناير 1933 / أيار 1945) فشهدت إيطاليا وألمانيا في أعقاب تطور صناعي تطورات نقلها إلى مصاف الدول الصناعية، وباتت الدولتان تطالبان بمزايا الدول العظمى، وتشير التجربة التاريخية إلى أن قادة كهتلر وموسوليني نجحا بإثارة المشاعر العدائية لشعوبهم إلى الحد الأقصى، مستخدمين ببراعة الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تمر بها بلدانهم(فساد السياسيين التقليديين، كساد وتضخم اقتصادي، مرحلة تمفصل طبقي/ أجتماعي)، ونجحوا بتأسيس أنظمة طغيانية يحكم في ظاهرها الحزب، ولكن في واقع الأمر كان (الدوتشي/ القائد) موسوليني و(الزعيم /الفوهرر) هتلر هما من يقودان البلاد بديكتاتورية، مع تجاهل المؤسسات الحكومية الشرعية .
والدراسة والتعليم تمثل بصفة عامة جانباً غير مشرق في حياة الطغاة، فغالباً ما يكون شخصاً قد نال حظاً قليلاً من التعليم، ليس بسبب قلة قدراته، بل إما بسبب التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لبيئته الاجتماعية المتواضعة، أو لانغماسه الكثيف في العمل السياسي، واستهلكت المناورات، والأنشطة السرية، والتخطيط للتفرد من قواه، فلذلك فإن الديكتاتور (على الأغلب) شخص لم ينل فرصة كبيرة من التعلم، ويميل الديكتاتور والطاغية إلى احتقار أراء الخبراء والعلماء، لأنهم يناقضون آراؤه السطحية، ويحاول إضفاء مظاهر العلم مزيفة (كعقدة نفسية) على شخصه، فيحاول طرح نفسه كمفكر، أو كعبقري في الرؤية المؤسسة على ألمعية لا يتواني بعضهم أن ينسبها إلى قوى غيبية أو خفيه، تبلغ عند بعضهم أن يقرنها بعلامات إلهية، ومن المدهش أن تمارس هذه الأفكار الغيبية حتى عصرنا الحالي بصور متفاوتة، ولكن بمؤدى واحد، وهو ترسيخ الطغيان.
وعندما ما يدرك الطاغية صعوبة تقارب الاستحالة ممارسة الحكم بعلاقاتها المتشعبة، دون الاستعانة بالأجهزة، وتتسلل لإلى مخيلته نظرية أن الحكم في واقع الأمر لا يستمد قوته من المجتمع / الناس، بل بما تؤمنه له الأجهزة. ويستسلم لهذه النظرية طائعاً مختاراً أو تسليماً بالأمر الواقع، لمؤسسة صار لها جذورها وفروعها، وأعداد كبيرة أرتبطت مصيرياً بهذه الأجهزة، ومنهم من تورط بعمليات لا توصف بالنظافة، من اغتيال وقتل، وتهريب وغسيل أموال، وصارت هناك ثروات سوداء مودعة في بنوك سرية، وأنشطة اقتصادية الكثير منها يدخل في إطار الممنوعات، وهكذا فالطغيان يفرز الفساد أيضاً كمحصلة ضرورية، وكثرة أعداد من يرتبط بهذا الفساد، حتى أصبح النظام الديكتاتوري والفساد وضروب القمع قطعة واحدة متلاحمة يصعب فصمها.
إن التطور التاريخي لا يطرح نفسه بشكل انقلابات وهبات، بل بحتميات تاريخية، وتقود الواحدة منها للأخرى، وبتسلسل لا تتحكم فيه شعارات التطرف أو الطاغية الذي يقود التطرف، ولكت المراحل تحل بأستحقاقاتها، كنتائج تاريخية لا مناص منها. الطرف يقود إلى الفردية والطغيان،وهذا يقود إلى تراجع نظام الدولة وتصاعد دور الفرد، وهذا سيؤدي للفساد، وهذا يقود للقمع، والقمع يؤدي للثورة ... هذا تطور ديالكتيكي حتمي، لا محيد عنه، وبدون فهمه بشكل عميق سيستعصي فهم سائر الفقرات...
التطرف مهلك ... والسائر فيه كالذي يخطو نحو النهاية
الطغيان مآله الهزيمة المؤكدة
3061 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع