من حكايات جدتي ... الخمسون

                                               

                         بدري نوئيل يوسف

من حكايات جدتي ... الخمسون
اشتغل في صنعة أبيك

في هذا اليوم حاولنا أن نصنع لنا فرارات ولم تنجح تجربنا وخسرنا الورق اللامع والعيدان، والفرارات تصنع من ورق ملون مربع الشكل تقص رؤوسها إلى مسافة مناسبة، ثم تثقب الورقة من وسطها ويقوى الثقب بقطعة مقوى صغيرة مثقوبة أيضا من وسطها، ثم يلصق عدد الرؤوس الجديدة على قطعة الورق المقوى، وتترك الرؤوس الأخرى سائبة، على أن تكون بين رأس وأخر يلصق رأس ويترك الثاني بالتتالي، يمرر في الثقبين عود من جريد النخل الجاف بعد تنظيفه من شوائبه، وتكون نهايته مدببة ليمسك بها الطفل حينما يواجه بها الهواء وهي تدور بيده، واغلب أطفال المحلة كان اهلهم يصنعونها لأطفالهم، وحين يقتنون الفرارة يرفعونها عاليا ويركضون مسرعين في الازقة فرحين بدورانها. لكن جدتي تدخلت بعدما فشلنا في صنع الفرارة وقالت: جمعت كمية من الصمون والخبز اليابس (الغير معفن) الذي سيقوم بائع الفرارات بأخذه مقابل اعطائكم فرارات، وبدوره يبيعه لبائع الحلويات وخاصة صانعي الزلابيا رخيصة السعر، ويقوم الحلواني بدق الخبز والصمون اليابس وخلطه مع الطحين الذي تصنع منه الزلابيا، أو عمل جريش بعد خلطه مع السكر ووضعه تحت قوالب الزلابيا لتكون فاصلة بين الصينية والزلابية، وهكذا بائع الفرارات يحصل على ربح زهيد يحصله جراء ذلك ويوفر له القوت اليومي لإفراد أسرته، وبائع الفرارات رجل بسيط يحمل بيده مجموعة من الفرارات الملونة بالألوان البراقة ويتجول في الأزقة والأحياء ليبيعها للأطفال الذين يستأنسون بها. البائع يصنعها بيده بعد أن يوفر المواد اللازمة لصناعاتها والتي لا تتعدى الورق اللامع (والشريز) وقطع من العيدان يساعده بذلك أفراد أسرته ليحملها في اليوم الثاني على كتفه مثبتة على حاملة وهو ينادي بأعلى صوته (فرارات ،فرارات ، شندل مندل ، فرارات ) دون إن يفهم اطفال الازقة المغزى من كلماته، وهذا الصوت الجهوري يجتذب إليه اطفال المحلة ويتبعونه لشراء أو مقايضة فراراتهم المصنوعة من ورق (الزرق ورق) بالخبز اليابس،
أولادي: انتظروا قدومه وستحصلون على الفرارات غدا.
أما حكايتنا لهذه الليلة، يُحكى أنه كان هناك شابّ زاهد متعبّد يرتدي ثياب الزاهدين، من ثوبٍ أبيض وعمامة خضراء وغيرها، وكان هذا الشاب هو الذي يعيل أمه وإخوانه بعد وفاة والده، وفي ذات يوم ضاقت في وجهه سبل العيش ولم يجد عملاً، أو أي شيء يرتزق منه، وكان يتمشّى في أحد الأيام في سوق البلدة والحزن يخيّم عليه وعلامات اليأس والقنوط ترتسم على وجهه، فرآه شخصٌ من معارفه، وسأله ما الذي بك يا فلان ؟ أراك على غير وضعك الطبيعي، فأخبره عن حاله وعن الوضع الماديّ الصعب الذي يعيش، فقال له: أعمل يا أخي في صنعة أبيك وتوكّل على الله .
ولما كان الشابّ لا يعرف ما هي صنعة أبيه لأن والده مات وهو صغير توجّه إلى أمه وسألها قائلاً: ماذا كان أبي يعمل يا أمي، وما هي صنعته ؟ فتغيّر وجه الأمّ وأصابها شيء من الوجوم وقالت بشيءٍ من عدم المبالاة : كان أبوك يعمل في التجارة يشتري ويبيع ويربح ويرتزق من ذلك، غير أن الشابّ لم يقتنع بهذا الكلام فقال لأمه: والله إن لم تخبريني عن صنعة أبي لأترك هذا البيت ولن أعود إليه مرة أخرى. ولما رأت الأمّ الإصرار في نبرات ابنها وفي نظرات عينيه، وأيقنت أنه يعني ما يقول تنهدت وهي تقول: وماذا كان يصنع أبوك يا أبني؟ كان لصاً يحمل عَتَلَةً وهي عمود من الحديد له رأس عريض يستعمله البنَّاءُ ويُهدم به الحائط، ونَبُّوتَاً وهي العصا الغليظة المستوية وهذه أدوات صنعته، فيفتح أبواب الناس خلسة في الليل بالعتلة، ويضرب بالنبوت من يجيء في وجهه من الناس، لقد قضى أبوك أكثر أيام حياته هائماً على وجهه في الجبال مطارداً من الناس ومن الحكومة، وقضى بقيّة أيامه في السجون، وكنت لا أراه في السنة إلا لأيام قليلة، وصدّقني إني كنت أتمنى له الموت حتى يريحني ويريح نفسه، وسكتت الأم بعد أن أفرغت ما لديها من كلام طالما كتمته ولم تُصرّح به، ولكن دمعات خفيفة ملئت مقلتيها .
أما الشابّ فذهب إلى السوق وأشترى عتلة ونبوتاً، وقرّر أن يشتغل في صنعة أبيه، بعد منتصف الليل سار لوحده يحمل أدواته المذكورة حتى وصل إلى قرية مجاورة، وكان الظلام حالكاً والليلة غير مُقمرة مما يُسهِّل مثل هذه الأعمال، وتوجّه إلى أول بيتٍ صادفه في طرف البلدة، وبالعتلة الحديدية فتح الباب الخشبي بخفة ورشاقة دون أن يُحدث صوتاً أو ضجّة، ونظر داخل الغرفة وإذا برجل وامرأة نائمان فوق سريرهما، فأغلق الباب وقال: أعوذ بالله من أعمال الشيطان، وأخذ يلوم نفسه ويقول: من أعطاني الحقّ في فتح بيوت الناس وكشف أسرارهم وعوراتهم، ثم ترك الغرفة وذهب للبيت المجاور، وبخفة ورشاقة فعل به كما فعل بالبيت الأول، وإذا بفتاة وحيدة تنام فوق سريرها، فتعوّذ بالله من الشيطان مرة أخرى وأغلق الباب، وقال لنفسه: إنّ هذه الأعمال التي أقوم به هي أعمال لا يرضاها الله، فترك هذا البيت وسار نحو البيت الذي يجاوره، وفتح بابه بعتلته كما فتح سابِقَيه ونظر داخله وإذا به يرى بضعة جِرَار، فقال الآن أصبح الوضع أحسن مما كان عليه في الأوّل، ثم دخل وفتح جرّةً من هذه الجرار وإذا مليئة بالقطع الذهبية والنقديّة، وفتح بقية الجرار، ونظر داخلها مثل الجرّة الأولى، فقال لنفسه: إن هذا المال له أصحاب ادَّخروه ووفّروه وتعبوا من أجله، فمن أعطاني الحقّ في سرقته، والله لن أسرقه ولكنني سآخذ منه الزكاة، سأقسمه وآخذ منه العُشْر، فأشعل سراجاً كان هناك وأفرغ واحدة من هذه الجرار، وبدأ يعدّ ويخرج تسعة قطع ويضعها في ناحية، ويضع قطعة واحدة في ناحية أخرى، وهكذا وهو على هذه الحالة يعدّ تسعة هنا وواحدة هناك أذَّنَ مؤذّن البلدة لصلاة الفجر، فترك العدّ وفَرَشَ عباءته وأخذ يصلّي الفجر، ومرّ الناس إلى المسجد فرأوا البيت مفتوحاً والسراج مضيئاً فتنافروا وأتوا بهراواتهم وعصيهم، وتحلّقوا حول الرجل، ولكن عندما رأوه يصلّي تركوه حتى يكمل صلاته، وبعد أن فرغ من الصلاة أحاطوا به وقالوا له: ما الذي تعمله هنا؟ وكيف تفتح بيوت الناس وتأخذ أموالهم؟ وما الذي تعمله في هذا المال حتى جعلته قسمان: فقال لهم: أتركوني وسأخبركم بالحقيقة، ثم سرد عليهم قصته بكاملها، فقال أحدهم وكان أكثر الناس لغطاً: أما البيت الأوّل الذي فتحته ورأيت به الرجل والمرأة وسترتهم وأغلقت عليهم الباب، فهذا بيتي والرجل الذي رأيته هو أنا والمرأة زوجتي، أما البيت الثاني الذي فتحته ورأيت به الفتاة وسترتها وأغلقت عليها الباب فهذا بيتي أيضاً والفتاة هي ابنتي الوحيدة، أما البيت الثالث الذي به المال وهو هذا البيت، والذي لم ترضَ أن تسرق منه المال بل اكتفيت منه بالزكاة فهو بيتي أيضاً وهذا مالي، ولأنك شابّ مؤمن وتقيّ فقد زوجتك ابنتي الوحيدة التي رأيتها وقاسمتك في مالي هذا الذي بين يديك، وأعطيتك بيتاً من هذه البيوت تعيش فيه مع زوجتك، فخرَّ الشابُّ راكعاً لله يشكره ويحمد فضله، على أن هداه وأبعد عنه إغواء الشيطان، ثم ذهب إلى بلده وأتى بأمه وإخوانه ليعيشوا معه في هذا العزّ الذي لم يكن يحلم به
وهكذا نرى مدى تأثير الإيمان على النفوس، وعلى الأخلاق السامية النبيلة، وكيف تقود الإنسان إلى عمل الخير ونبذ الشر والفساد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1081 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع