إبراهيم الزبيدي
من الشاه القديم إلى الشاه الجديد
لا أحد يُنكر أن علاقات العراق بإيران، في عهد الشاه رضا بهلوي، لم تكن سمنا على عسل دائما، بل كانت تتأزم أحيانا، وتوشك أن تُشعل حروبَ حدود بينهما، مثلما يحدث دائما بين بلدين من بلاد الله المتجاورة، لكن عقل حكامهما كان ينتصر، دائما، على جنونهم، فيسارعون إلى إطفاء فتيلها، وتهدئة الخواطر، وإعادة المياه إلى مجاريها السائرة الرائقة، دون دم ودموع.
وفي مجمل الحسابات يمكن القول إن رضا بهلوي، برغم ما عرف عنه من كبرياء وغرور وعنجهية، كان ذكيا وحصيفا وبعيد نظر. فلم يستخدم مع العراقيين سياسة المكابرة والتعدي والإهانة وتهريب السلاح والمال وتأسيس المليشيات لفرض نفوذه عليهم بالقوة والغصب والاحتلال، بل اعتمد سياسة ناعمة، سواء كان صادقا فيها أو مخادعا، تقوم على تقديم المساعدات، والتبرع بإنشاء المدارس، وصيانة العتبات المقدسة، والمشاركة في أعمال الإغاثة عند الشدائد، لاستمالة قلوب العراقيين، والتغلغل في شؤون الطائفة الشيعية في العراق. لذلك لم يكن العراقيون الآخرون، من غير الشيعة، حاقدين ولا كارهين لذلك التواجد الإيراني الواسع الكبير، بل قابلون بوجوده، مادام نفعه أكثر من ضرره، ولا خوف منه عليهم، ولا يحزنون.
أخبرنا الراحل الدكتور عدنان الباجه جي، وكان وزير خارجية الرئيس الراحل عبد الرحمن محمد عارف، بأن توتر العلاقة بين العراق وإيران في أواسط عام 1966 بلغ أشده، وأوشك أن يتحول إلى صراع عسكري بسبب مطالبة الشاه بنصف شط العرب.
يقول الباجه جي، ذات صباح هاتفني رئيس ديوان الرئاسة وأخبرني بأن السيد الرئيس يريدني أن أتوجه إلى معسكر الرشيد على الفور. وحين سألته عن السبب قال هناك ستعرف.
يقول، وفور وصولي وجدت طائرة عسكرية على وشك الإقلاع، وحين دخلتها وجدت أن الرئيس قد سبقني إليها، ومعه وزراء الدفاع والداخلية والموارد المائية، ثم أقلعت الطائرة.
لم يخبرني الرئيس، ولا زملائي الوزراء، بوجهتنا إلى أن علمنا بأن الطائرة دخلت الأجواء الإيرانية، دون ترتيب ديبلوماسي مسبق، ودون علم الجهات الإيرانية المعنية، حين خاطب قائد الطائرة برج المراقبة الإيراني وأخبره بأن السيد رئيس الجمهورية العراقية قادم لتناول طعام الغداء مع جلالة الشاه.
يقول، وهبطنا، وتوجهنا فورا إلى القصر الملكي، وكانت المفاجأة أن وجدنا الشاه في انتظارنا عن المدخل الخارجي للقصر، على غير عادته، مرحبا بالرئيس وبنا بحرارة.
وفي جلسة غير رسمية في صالة استراحة القصر بادره الرئيس عبد الرحمن بالكلام قائلا بابتسامته العفوية التي عودنا عليها "لماذا أنت غاضب أيها الأخ والجار والصديق؟، أتريد ماءً؟، خذ ماءً بقدر ما تستطيع، فنحن إخوة وجيران، وحق الجار على الجار". وأردف قائلا، "نستطيع الآن، أنت وأنا أن نعلن الحرب بين جيوشنا، ولكن صدقني لا أنت ولا أنا سنسطيع وقفها، لأن عشرات الأيدي الخفية سوف تتدخل وتتلاعب وتمد أجل الحرب سنوات طويلة، ولن يدفع الثمن غير شعبينا وجيشينا، ولن ينتصر أحد منا على الآخر، مهما قلتُ أنا وفعلت، وقلتَ أنت وفعلت"
" أنا عسكري وأعرف ما تنتجه الحروب لأهلها، فهل توافقني على ذلك؟" يقول الدكتور الباجه جي، وهنا نهض الشاه مبتسما وعانق الرئيس، ثم هدأت الخواطر، وحل الوئام والرضا والسلام، وتناولنا طعام الغداء، وعدنا ونحن فخورون بمبادرة الرئيس الذي أنجز، بطيبه وبعد نظره، ما لم أستطع أنا، وزير الخارجية، وخبراؤنا وسفراؤنا، أن ننجزه مع إيران في شهور.
والحقيقة التي لا يمكن نكرانها أن الإيرانيين والعراقيين، على امتداد أجيال وأجيال، كانوا يتزاورون بدون أذونات دخول، ويتزاوجون، وزهور حسين الشيعية العراقية من أصل إيراني ويوسف عمر السني البغدادي كانا يغنيان بالفارسية في الإذاعة الوحيدة التي يستمع إليها أصحاب الحكم العراقي ومعارضوهم، ولا أحد يشتكي أو يعترض.
وعشراتٌ من أبرز الأدباء والشعراء والتجار وقادة الجيش والأمن وشرطة الحدود كانوا من أصول إيرانية استوطن أجادُهم وآباؤهم العراق، وحصلوا على جنسيته، وأصبحوا من أهله المحترمين الأوفياء، بل من أكثرهم وطنية عراقية صافية، وغيرة عليه.
ولم تتغير الأمور إلا حين حكمت الظروف (المُحيـِّرة) بصعود اثنين، صدام حسين والإمام الخميني، إلى موقع القيادة في البلدين، وفي نفس العام، وبالانقلاب.
الأول ارتكب غلطة الشاطر حين طرد ضيفه الإمامَ السياسي الذي تعشقه الملايين وتؤمن بفتاواه، بطلب من الشاه، بعد توقيع اتفاقية الجزائر، ورماه مع ولده على حدود الكويت التي رفضت منحه تأشيرة دخول، خوفا من غضب الشاه، لتلتقطه فرنسا وأمريكا وتحملاه إلى باريس وتُعينانه على نشر رسائل الكاسيت التي أسقط بها حكم الشاه، ليصبح حاكم إيران المطلق القوي، وليرفع شعار تصدير الثورة لإسقاط (الديكتاتور) (البعثي) (الكافر) في العراق.
والثاني كان الأكثر عنادا وجبروتا وعنجهية. فقد ترجم حقده الشخصي والقومي والطائفي على الحاكم الذي أهانه ذات يوم بإعلان دعوته إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية على أنقاض حكومات المنطقة، وأولها العراق. الأمر الذي أشعل بينهما حرب الثماني سنوات التي خلفت ملايين القتلى والمفقودين والأسرى والمشوهين، وأحرقت مئات المليارات من الدولارات من موارد الدولتين ورسخت الاقتتال المذهبي بين من أيد هذا ومن عاضد ذاك.
أما صدام فقد لجأ إلى الاستنجاد بالعصبية القومية العروبية لجعل حربه دفاعا عن البوابة الشرقية للوطن العربي ضد الهجمة الفارسية (المجوسية)، لاستثارة حمية عروبة المصريين والأردنيين وعرب الخليج.
أما الخميني فقد لجأ إلى إنعاش العنصرية الفارسية، مستغلا دعاية صدام ضد الأمة الفارسية وأمجادها القومية القديمة، جنبا إلى جنب مع جهده الكبير الذي بذله لاستثمار مظلومية الشيعة العراقيين والعرب، في ظل حكم الطائفة السنية في العراق وفي غيره من الدول العربية التي يتواجدون فيها، رافعا شعارات نصرة الإمام علي الذي اغتصبت منه الخلافة، والثأر للإمام الحسين من قاتليه.
شيء آخر. لقد تعلم الخميني من هزيمته في حربه التقليدية مع خصمه (الشخصي) (الطائفي) (القومي) صدام حسين أن خوض حروبه بوكلائه المحليين، رغم أنه الأطول نفَسا، أضمن للنتيجة، وأقل تكلفة من خوضها بجنود جيوشه الإيرانية، وسلاحها، فعمد إلى تأسيس الأحزاب والتجمعات والمنظمات والمليشيات من أبناء الدولة التي يريد غزوها. وأوصى قادة نظامه باتباع النهج ذاته، والالتزام به لإكمال المسيرة نحو دولة الخلافة الجديدة، ولكن وفق شروط الخميني وفهمه وقناعاته، وحده لا شريك له. ورغم رحيله فقد بقيت فتاواه وتوجيهاته وراءه ترسم سياسات وريثه الولي الفقيبه.
والحقيقة أن نظام صدام لم تُسقطه دباباتُ الأمركيين، وحدها، بل المعونةُ الإيرانية والسورية الأسدية التي لا تنكرها إيران، بل تباهي بها على الدوام.
وهنا نأتي إلى خلاصة المقال، ونسأل، من كان الأكثر حكمة وحنكة وبُعد نظر، شاه إيران أم الخميني؟
والسؤال بصيغة أخرى. أيُ السياستين أكثرُ قدرة على استمالة العراقيين، وترويضهم، وانتزاع رضاهم عن الوجود الإيراني (العميق) في الدولة العراقية، سياسةُ الاستثمار المالي والثقافي والصحي والاجتماعي والديني، أم سياسة القمع والقتل والاغتيال وتفجير المفخخات وإيقاظ الأحقاد الطائفية النائمة، وتبني خونة أوطانهم الفاسدين الجهلة الطائفيين المتخلفين الموتورين الحاقدين المزورين، وتسليطهم على باقي فئات الشعب العراقي وطوائفه وأديانه وقومياته المتعددة، وإغضاب الملايين الصابرة، الشيعة قبل السنية، والعربية قبل الكوردية والتركمانية، والمسلمة قبل المسيحية، وجعلها تترقب الساعة التي ترى فيها نهاية عهد الطاغوت الإيراني البغيض؟
سؤال آخر، كم يبلغ عدد الموالين لإيران من العراقيين؟ ثم أليس غباءً إيرانيا احتضانُ هذه الزمر القليلة التي لا يتجاوز عدد أفرادها بضعة آلاف، وتسليحها، وتشجيعها على الاستهتار والتعالي وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، والاختلاس، وإيذاء أهلهم وذويهم، وإغضاب عشرات الملايين الأخرى من المواطنين؟.
أليس هذا كافيا لجعل الشعب العراقي، كله، أو أغلبه، يؤيد ويتمنى وينتظر ويبارك أن تأتيه النجدة حتى من الشياطيين لتخليصه من هذا الكابوس الإيراني الثقيل، ولطرد جواسيسه، ومحاكمة وكلائه على ما ارتكبوه من سيئات وموبقات؟
وأليس هذا ما يفسر هذا الإنجذاب العاجل الواسع العميق لدى كثيرين من العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين والبحارنة إلى ترمب وإلى صقور إدارته أملا في إنقاذهم من سطوة أصحاب العمائم الغبية التي لا تقرأ التاريخ، ولا تفهم منطق الزمن؟
ولأن من غير الممكن أن يتخلى النظام الإيراني عن طبعه العدواني التسلطي العنفي الطائفي السلفي المتخلف، ويجنح للسلم، ويتعامل مع العراقيين، وشعوب المنطقة، بالتي هي أحسن، فقد صار طردُه، كما طُرد داعش من ديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى، أمرا لازما وضروريا لتخليص المنطقة والعالم من الإرهاب الإسلامي، الشيعي، مثلما تخلصت، وسوف تتخلص، من الإرهاب السني، بالكي، وهو آخر الأدوية لمن لا يخاف ولا يستحي.
ومن تصاعد شتائم القادة العسكريين والمدنيين الإيرانيين، وتهديداتهم لترمب وإدارته، يمكن قراءة المحذور المخفي الذي يبدو أنه أصبح أقرب إليهم وإلينا من حبل الوريد.
إن وراء الأكمة ما وراءها. فبعد رحلة مضنية دامية طويلة قطعها نظام الشاه الإيراني الجديد من طهران إلى دمشق وبيروت عن طريق بغداد، وأنفق عليها سيولا من الدماء، وأطنانا من الدنانير والتومانات والدولارات، حان وقت عودته على أعقابه، منتوف الريش، ومكسور الجناحين، شاء من شاء، وأبى من أبى. فلكل بداية نهاية، ولكل ذهاب إياب، كما يقولون.
1581 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع