بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ...السابعة والأربعين
الشاطر حسن
تقول جدتي: أن جارنا ابو البنات تخاصم مع زوجته ووصل الخصام بينهما الى التطاول بكلام جارح وخشن، تدخلت جدتي لحل المشكلة والتصالح بين الزوج والزوجة، لكن عناد أم البنات وكلامها الغير منضبط، جعلها تستلم من أبو البنات كفين اعادها الى رشدها. بعدما هدأت الفوضى حكت جدتي هذه الحكاية عن سلامة الإنسان في حلاوة اللسان، تقول: كان رجلا يعيش في بيت قديم البنيان مع زوجته وولده، وكان في البيت حيّة تعيش داخل جحر في أحد حيطان البيت منذ أمد بعيد، وكان الرجل يكره أن تعيش الحيّة في بيته، ويخشى منها على ولده، وفي ذات يوم رأى الرجل الحيّة تهمّ بدخول جحرها، فأسرع إليها ليقتلها، ولكنها استطاعت أن تفلت منه، وأن تدخل جحرها فتنجو بحياتها، ومنذ ذلك اليوم أضمرت الحيّة للرجل وأهل بيته شرا، وفي صباح ذات يوم، رأت الحيّة ربة البيت تعدّ الفطور لزوجها وولدها، فتضع اللبن في أواني، ثم تصفّ تلك الأواني على منضدة الطعام، فرأت الفرصة مواتية للانتقام من الرجل وأهل بيته فجاءت إلى اللبن وذرفت فيه من السم الزعاف ما يكفي لقتل أناس كثيرين، ثم عادت إلى جحرها فدخلت فيه. وبعد مدة وجيزة استيقظ الرجل من نومه، فسمعت الحيّة زوجته تلومه على كراهيته للحيّة ومحاولة قتله لها، وقالت له ( أنتَ هوايه غلطان، هاذي الحيّة ساكنة ويانا من سنين، وصارت واحدة من أهل البيت ، وأني أحبها مثل ما أحب ولدي) فأجابها: (والله يا زوجتي أني متندم على محاولة قتلي للحية، ومن الآن فصاعدا راح أعامل الحيّة مثل ما تعامليها أنتِ، وأحبها مثل ما تحبيها)، وفي هذا الاثناء كانت الحيّة تنصت لما قاله الرجل وزوجته، فلقي ذلك القول منها قبولا حسنا، وندمت على ما فعلت من ذرف السم في أواني الحليب، فأسرعت خارجة من جحرها، وذهبت إلى حيث يوجد بعض الرماد، فتمرغت فيه، ثم راحت إلى أواني الحليب فجعلت تغطس في الأواني آنية بعد آنية حتى لوّثت الحليب كله بالرماد، فصار غير قابل للشرب، وأنقذت تلك العائلة من موت محتّم، ثم علمت الزوجة بأمر الحية مع الحليب، وخروجها من جحرها لتلوّثه، كما علمت أن الحيّة إنما فعلت ذلك بعد استماعها لكلامها وكلام زوجها، فقالت في ذلك(السان الحلو يطلع الحيه من الزاغور). وهكذا الشخص الذي ينال بحلو لسانه ما لا يناله بقوة .
نعود لحكايتنا اليومية، كان يا مكان في قديم الزمان، كان شاب وسيم الطلعة اسمه الشاطر حسن، كثير الحركة، يعيش على الشطارة والحيلة وخفة الدم، يحبه الناس جميعاً لحسن أخلاقه، وكانت أمه امرأة عجوز صاحبة دين لا تترك وقتاً من الصلاة، تحب ابنها وتدعو له دوماً بالرضى، وكانت تطلب من ابنها أن يتزوج بنت حلال، وصاحبة أصل تساعدهما في اعمال البيت، وتنجب لهما الأولاد من الصبيان والبنات وتفرح به مادامت على قيد الحياة، فكان يضحك ويقول: لا أتزوج حتى أجد بنت أحلى من القمر، وطبخها أطيب من طبخك، فكانت أمه تدعو له أن ينال مراده.
في يوم من الأيام وهو يتجول بين الحقول والبساتين، لمح صبية مثل البدر التمام، تضع نقاباً على وجهها وتحمل صينية على رأسها، فاعترضها وسلّم عليها وسألها: ماذا تحملين على رأسك ؟ فأجابته: أحمل الغداء إلى والدي في الحقل، فطلب منها أن يذوق طعامها، فوضعت الصينية أمامه، فأكل لقيمات فوجده شهي الطعم لم يذق مثله في حياته، فسألها عن بيتها، فدلّته عليه ومضت في حال سبيلها.
عاد حسن إلى أمه ملهوفاً، وقال لها: البشارة عندك، لقد وجدت أحلى عروس في البلد، وطعامها أطيب طعام ذقته في حياتي، وطلب منها أن تذهب بسرعة و تخطبها له.
حاولت أمه أن تؤخّره أياماً حتى تسأل عن أصلها وفصلها قبل أن تخطبها، لكنه أصرّ على رأيه.
ذهبت الأم وخطبت الفتاة، وبعد أيام أقام العرس وتزوجها فسرّ بها، وقضى معها أجمل الأوقات وطبخت له أشهى المأكولات، وبعد فترة من الزمن بدأت الفتاة تسيء معاملة أمه، وتشكو عليها كلّ يوم، وهو يحاول أن يرضيها ويطيّب خاطرها دون جدوى.
في يوم عاد من الصيد ومعه إوزّة كبيرة، وطلب من أمه وزوجته أن يطبخوها بالرز والصنوبر، وخرج إلى عمله، أمرت العجوز كنتها أن تنقّي الرز ولا تضيع منه حبة واحدة، فأخذته وصارت تنقيه فسقطت منها حبة وجاء الديك وأكلها، فأمسكت به وذبحته وأخرجت الحبة منه، فغضبت العجوز منها وبهدلتها وضربتها، فانزعجت الكنّة ودخلت غرفتها وأغلقت عليها الباب.
عاد حسن إلى البيت فوضعت له أمه الطعام، أكل منه فلم يعجبه، سأل أمه: من طبخ الإوزة ؟. فحكت له القصة، فدخل على زوجته فوجدها زعلانة وحزينة، حاول إرضاءها فلم ترضى، قالت له لقد طفح الكيل ولم أعد أتحمّل أكثر من ذلك، إما أنا وإما أمك في البيت.
فكّر حسن قليلاً فلم يجد حلاً سوى أن يأخذ أمه إلى مغارة في سفح الجبل يضعها هناك، ويجلب لها الطعام كل يوم، وبما أنها أصبحت عجوزاً يمكن أن تقضي بقية حياتها هناك وتريح وترتاح.
في الصباح حمل أمه فوق الحمار مع بعض الزاد والماء، وأوصلها إلى المغارة وعاد، وعاشت العجوز في المغارة حزينة وحيدة تصلي وتصوم، وتدعو الله أن يهدي ابنها ويحفظه ويسعده ، وكان حسن يحضر لأمه الطعام والماء كل أسبوع، ويتفقّد أحوالها وحاجاتها ويعود.
في أحد الأيام أتى إلى المغارة شابان جميلان يشعّ النور من عينيهما، فسلّما على العجوز فردّت عليهما أحلى السلام، ودعتهما ليرتاحا ويتناولا الطعام معها، ويسلّيانها فشكراها على كرمها وأخلاقها، وسألها الأول: ما رأيك في الصيف ؟ فأجابت: الصيف جميل، ليله مقمر، ونهاره دافئ، وخيره كثير من الفواكه والثمار والخضار الله يبارك فيه.
سألها الثاني: ما رأيك في الشتاء ؟ فقالت: الشتاء كله خير، تنزل فيه الأمطار ويزرع فيه الناس ويسهرون حول النار، ولولا الشتاء ما جاء الصيف، ولولا الصيف ما جاء الشتاء.
أعجبهما جواب العجوز، فدعا لها الأول أن يخرج من فمها جوهرة كلما نطقت بكلمة، وأشار الثاني إلى الأرض فتفجّر نبعاً ماؤه كالزلال، ونمت حوله الأشجار وحملت من كل أنواع الثمار، ثم ودّعاها وغابا عن الأنظار، فرحت العجوز وأخذت تشرب من الماء وتتوضأ لكل صلاة، وتأكل من الفواكه اللذيذة، وتحمد الله على هذه النعمة العظيمة.
عندما جاء ابنها يتفقدها شاهد الأرض غير الأرض، والخير كثير والماء وفير، وأمه تعيش في جنة، فتعجّب وسألها عن القصة فحكت له حكاية الشابين، وكلما كانت تنطق بكلمة يخرج من فمها جوهرة، فزاد عجبه وفرحه، واعتذر من أمه، وطلب منها السماح فرضيت عليه، وحملها فوق الحمار وعادا إلى البيت، فاستقبلها الناس والجيران وفرحوا بالجواهر التي تخرج من فمها، وصاروا يجمعونها ويأخذونها إلى بيوتهم.
لما رأت زوجته ذلك ذهب غضبها وانزعاجها ورحبت بحماتها وصارت تجمع الجواهر منها، ثم اختلت بزوجها وطلبت منه أن يأخذ أمها إلى المغارة التي وضع أمه فيها، فوعدها بذلك.
في الصباح حمل أم زوجته (حماته) ووضعها في المغارة وعاد، وبعد أيام حضر الشابان إلى العجوز الثانية (حماته) فسلما عليها، فلم ترد عليهم السلام وقالت لهما بلهجة منزعجة: ماذا تريدان، ولماذا أتيتما ؟ فسألاها عن بعض الطعام والشراب، فقالت بغضب: ليس عندي لا طعام ولا شراب، فسألها الأول: ما رأيك في الصيف؟. فقالت: كله حرّ وجفاف وتعب وغبار الله لا يعيده علينا، وسألها الثاني: ما رأيك في الشتاء؟. فأجابت: أرذل من الصيف ليس فيه سوى البرد، والثلج والوحل الله يبعدنا عنه.
غضب الشابان من كلامها وأشار الأول إلى الأرض، فجفّ النبع ويبست الأشجار، واختفت الخضرة وأصبحت الأرض قاحلة جرداء، ودعا لها الثاني أنها كلما قالت كلمة تخرج من فمها حصاة، فشتمتهم وسبّتهم، فتركوها ومضوا في حال سبيلهم.
بعد أسبوع أتى الشاطر حسن ليعيد أم زوجته، بينما جمعت زوجته الناس لاستقبالها بالزينة والطبول والأفراح، ولما وصل حسن إلى حماته العجوز، وجد الأرض قاحلة ليس فيها عرق أخضر ولا نقطة ماء، ورأى حماته تكاد تموت من العطش، والجوع فسألها عن حكايتها؟ فأخذت تسبّه وتلعن الساعة التي تعرّفت بها عليه، وكلما نطقت بكلمة خرجت من فمها حصاة تصيب وجهه، فتعوذ بالله من الشيطان ولعن الطمع وسوء الأخلاق، وحملها فوق الحمار وعاد إلى البيت. وفي القرية استقبلها الناس لكي يرحبون بعودتها، وينتظرون الجواهر منها، فأخذت تسبّهم وتلعنهم ويخرج من فمها الحصى، يضرب وجوه الناس، فهربوا من أمامها وتركوها وحدها.
لما رأت ابنتها هذا الحال أخذت تبكي وتنتحب على أمها، فوضعها الشاطر حسن زوجته وراء أمها فوق الحمار وطردهما من البيت، وعاد إلى أمه وقبل يدها وطلب منها الرضى والغفران، فدعت له بالتوفيق والسعادة والهناء، وخطبت له بنت الجيران، وعاشوا في هناء ونبات وخلفوا الصبيان والبنات.
3395 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع