د.ضرغام الدباغ
ينعقد مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن سنوياً في مثل هذا الوقت في هذه المدينة الألمانية الجميلة، في أجواء ضيافة ممتازة، مع تهيئة كافة المستلزمات المادية لنجاح المؤتمر وجلساته الرسمية العلنية والسرية، واللقاءات التي تعقد على هامشه، في حضور صحفي عالمي واسع لتغطية المؤتمر وأحداثه.
ورغم أن المؤتمر لا يصدر مقررات ملزمة للإطراف التي حضرته، بيد أن مداولات ومداخلات الحاضرين (500 شخص تقريباً) كان هناك 16 من رؤساء الدول، و 15 من قادة الحكومات، 47 وزير خارجية، و30 وزير دفاع، 59 من ممثلي المنظمات الدولية، بينهم الأمين العام للأمم المتحدة، تمنح إيقاعاً لطبيعة العلاقات الدولية الدائرة، أو تلك التي على وشك الوقوع، وسمت الاتجاهات في السياسة الدولية، أو تلك التي لها تأثيراً عليها. والمؤتمر الأخير الذي انعقد بين 17 ـ 19 / شباط / 2017 هو الثالث والخمسين، أنعقد في ظروف خاصة، أوربية وعالمية، منحت المؤتمر ومداخلاته أهمية خاصة، وسنحاول أن نحدد أبرز تلك التوجهات والمؤثرات.
تلقت أوربا التي لم تصحو بعد من زلزال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، ضربة لا تقل إيلاماً بفوز دونالد ترمب وأفكاره المثيرة للقلق لا سيما تلك التي تتعلق بالعلاقات بين ضفتي الأطلسي والناتو عموماً، والتي تلقى تناغماً قد يتحول إلى كابوس حقيقي إذا ما تمكن اليمينيون من الفوز في هولندة، وفرنسا، عدا النزعة البريطانية في الميل للولايات المتحدة في توجهاتها الاستراتيجية، وآنذاك قد يتمدد اليمين الجديد ويزداد تطرفاً في جملة تطورات تطرح صورة جديدة للوضع السياسي والأمني في أوربا، والروس يراقبون الموقف بدقة متناهية، وإذا ما تهاوت العلاقة بين ضفتي الأطلسي (وهو رأي يتداول في القيادات العليا للدول الأوربية)، وتفكك عرى الأتحاد الأوربي، وإذا تحققت هذه التطورات الحادة فقد تعني نهاية حلف الناتو، والاتحاد الأوربي، استطرادا النظام الغربي بأسره وهو ما تذهب إليه مراكز أبحاث رصينة، وأمر يتوقعه حتى بعض الساسة المتفائلين في أوربا (وزير الخارجية الألماني)، فليس من المستبعد أن تنهض قيادات أوربية، وتتشكل أصطفافات جديدة، لمواجهة توسع روسي مرتقب يتجاوز في مداه أوكرانيا في شرق أوربا، وأيضاً بأتجاهات آسيا الوسطى، وليس من المستبعد أن تجد أنظمة أوربية غربية (ديمقراطية) أن التحالف مع روسيا (الإمبريالية) أفضل من الأنظمام لليمين النازي الجديد. وبعبارة واحدة، أن خارطة التحالفات والأئتلافات السياسية / الاقتصادية / العسكرية معرضة بأرجحية عالية للتغير، وفي آفاق ربما ليست بعيدة.
وفي أجواء ملبدة بغيوم سوداء ثقيلة ممطرة حافلة بالترقب والحذر، أنعقد مؤتمر ميونيخ، وكان الحاضرين فيه، يريد بسرعة أن يستطلع ويرى، ليتبين موقعه ومصلحته، وطرق النجاة والسلامة، ليقرر موقفاً قبل فوات الأوان، وأن يقيم جرداً واقعياً لمستودعاته، وأن يقبل ربما بخسارة جزئية على خسارة مواقعه كلها.
أرادت المستشارة ميركل، وهي لاعبة ماهرة، أستباق الموقف الأمريكي، المتجاهل للهواجس الأوربية، (أو لم يعطها حق قدرها من الاهتمام) وبل لغة التهديد الأمريكية حيال حلف الناتو للحلفاء الأوربيين الذين لا يؤدون مستحقاتهم المالية للناتو، والشكوى الأمريكية من حلفاءها ليس جديداً طيلة العقود الماضية، ولكنها لم تبلغ هذه الدرجة من التهديد الجدي، وبلغة تفتقر إلى الدبلوماسية الناعمة بين الأصدقاء. ومع أن المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، نوهت بأهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالنسبة للأوربيين. ولكنها صرحت (المستشارة يركل) (17 / شباط)، عقب اجتماعها مع رئيس الوزراء الكندي جلستن ترو دو، قلئإلة "ولكن قوة الولايات المتحدة الأمريكية نمت أيضاً بفضل الناتو". بمعنى واضح، أن أميركا أيضاً ليس بوسعها العمل دون أوربا.
ولكن المستشارة عبرت بما يكفي عن أن الحلف هو مهم لجميع الأطراف، وقالت ميركل إنه يتعين على الدول الأعضاء في الناتو أن تكون على وعي بقيمة التحالف. كما أشارت إلى أن ألمانيا زادت هذا العام من ميزانية دفاعها بنسبة 8 %، مؤكدة تمسك بلادها بتعهد زيادة نفقات الدفاع لتشكل نسبة 2 % من الناتج المحلي الإجمالي، وأكدت إن الحفاظ على علاقات جيدة عبر الأطلسي " مصلحة الألمانية كبيرة " بصرف النظر عمن يقود الولايات المتحدة وأشارت ميركل أيضا إلى أهمية المساعدات التنموية والوقاية من النزاعات. وقالت موضحة أنه سيتم عقد لقاءات مستقبلية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انطلاقا من هذه الروح. فيما عبر ضيفها الكندي ترودو إلى أن الاهتمام بالناتو لا يمكن قياسه فقط بحجم النفقات العسكرية، موضحا أن إرسال قوات للمشاركة في مهام خارجية يندرج ضمن هذا الاهتمام أيضا، وهي وجهة نظر تقترب من الرؤية الأمريكية للناتو.
وتولى رئاسة المؤتمر فولفغانغ ايشنجر (سياسي ودبلوماسي مخضرم/ سفير ألمانيا لدى بريطانيا، والولايات المتحدة) قال بان أوربا دخلت حقبة من " التخبط الأعظم " وهي الفترة التي تعتبر أكثر ضعفاً من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". ولكنه عبر عن أعتقاده بأن مناقشات المؤتمر ربما ستساهم بإنهاء قلق الأوروبيين ومعهم حلف شمال الأطلسي (الناتو) من سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة التي يدأب زعيمها بانتقادهم وتطرق في إطار الإشارة إلى عجز اتخاذ القرار، إلى الوضع في سوريا مشيرا انه لمس من خلال المناقشة بأنه لن ينتهي الوضع المأساوي للشعب السوري دون تدخل عسكري دولي لإنهاء نظام بشار أسد.
وأتهم زير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في خطابه حلف شمال الأطلسي الناتو بأنه يعد لإشعال الحرب الباردة والسيطرة على العالم والاعتداء على روسيا من خلال توسعت رقعته في شرق أوربا وتحشيده لفرقه العسكرية بدول بحر البلطيق التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي وفي بولندا وغيرها إضافة إلى إجراؤه المناورات العسكرية الغير أعتيادية
وأخفق نائب الرئيس الأمريكي الذي حضر المؤتمر في تبديد هواجس الأوربيين، بل وربما زاد منها من خلال إبداؤه القليل (وصف بالقليل جداً) من الاهتمام بالشؤون الأمنية والدفاعية الأوربية، ومع أنه تعهد من جهة بأن روسيا ستتحمل مسؤولية أفعالها في أوكرانيا وشرق أوربا. ولكنه أكد من جهة أخرى عدم التزام بلاده بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف الذي ينص على التزام جميع الأعضاء بمساعدة أي عضو يتعرض لاعتداء، وأن حجم المساعدة تقرره مساهمة ذالك العضو، وهو ما تؤكده المادة الثالثة المتعلقة بالحصص المالية لأعضاء الحلف.
ورد وزير الخارجية الألماني بأن بلاده لا تشعر بتهديد لتزيد الأنفاق الدفاعي. فيما عبر وزير الخارجية الفرنسي عن استيائه عن ترحيب الوزير الأمريكي بأنسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، ومثل هذه الأفكار تشجع على التصرف الأنفرادي
وفي إحدى مناقشات اللجان، طرح سؤال مهم " هل ينجو الغرب من أزماته " إشارة إلى العجز عن أتخاذ القرارات، في أوكرانيا، والقرم، والوضع في سوريا، الذي ازداد تعقيداً نتيجة للتدخل الروسي. وملخص المناقشات أن المشاكل تواجه جناحي الناتو تشهد مشكلة، ولأول مرة لا تستطيع أوربا الوثوق في المساعدة الأمريكية.
وأنبرى وزير الخارجية البريطاني بالدفاع عن الولايات المتحدة قائلاً " إن على أوربا أن تخشى صواريخ بوتين، وليس ترامب ".
وفيما يخص منطقة الشرق الأوسط، وجه وزير الخارجية الإيراني الاتهامات التي شملت السعودية بأنها تحارب الشعب اليمني وتقف مع حكومة البحرين ضد الشعب البحريني وأن بلاده مستعدة لمحاربة الإرهاب نافيا أن تكون لبلاده مصالح باليمن وسوريا. إلا أن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير استطاع بكلمته المقتضبة أمام المؤتمر دحض اتهامات الوزير الإيراني، والدفاع أيضا عن الإسلام مؤكدا أن الإرهاب لا يعرف دينا ولصقه بالإسلام يعتبر ظلما وعدوانا مشيرا إلى أن الإرهاب استهدف السعودية كما استهدف تركيا وفرنسا وألمانيا وأيضا أفغانستان والباكستان إلا أن إيران بقيت بمنأى عن ذلك فالدول المذكورة تشارك بتدمير سوريا وتحاول تغيير أنظمة منطقة الشرق الأوسط مؤكدا أن طهران هي المشكلة وليست الحل. وبالرغم من ذلك فقد أكد الجبير حرص الرياض على علاقات طبيعية مع طهران شرط أن تتوقف عن التدخل بمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
1930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع