محمد حسين الداغستاني
بعد التحول الدراماتيكي الذي شهده العراق في اعقاب الحرب الماحقة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية في اذار 2003 والتي إنتهت بسقوط بغداد واحتلال البلاد ، هندس الإستراتيجون والخبراء الغربيون لمرحلة ما بعد الحرب ، فأنيطت المهمة الدقيقة بعراب السياسة الأمريكية في العراق الحاكم المدني برايمر ، الذي كان حريصاً تماماً على تأسيس بنية سياسية مثيرة للإنتباه والجدل بلورها بتشكيل سلطة الإحتلال ومن ثم مجلس الحكم وفيما بعد الحكومة العراقية المؤقتة .
وكانت السمة الظاهرية لهذه التشكيلات توحي بتمثيل كافة مكونات الشعب العراقي بينما كانت في جوهرها تستهدف خلق خلطة اثنية ودينية مزدوجة لضمان السيطرة على مجريات مستقبل العمل السياسي في العراق وفق المخطط المرسوم لصورة ما يجب أن يكون عليه النظام الجديد في أحد أهم وأخطر بلدان الشرق الأوسط تمهيداً لتطويع المنطقة بأسرها ..
قواعد للتناحر الوطني
فبتحليل البنية السياسية نجد ان المخطط الجديد لم يعتمد التكوين الديني / الطائفي لوحده ذلك لأن في معطيات الحجم العددي لهذا الفرز نوع من التوازن الذي لن يحقق أية إمكانية حقيقية لتفعيل عامل التناقض الديني لوحده تمهيدا لهدف استراتيجي تقسيمي مستقبلي ، وكذلك الحال في عدم إقتصار المخطط على التعامل مع المشهد السياسي الجديد في العراق على أساس قومي فحسب ، لأن ذلك لا يخدم المقاصد المستقبلية أيضاً ، لهذا فإن المخطط كان فيه الكثير من الحنكة فقد أخذ بتوظيف مزدوج لعاملي الدين والقومية معاً في التقسيم الثلاثي للتكوين السياسي العراقي السائد الجديد ومن ثم تأطير عملية تأسيس الأحزاب والتيارات السياسية وفق هذا المنظور ليتحول بؤرة الصراع على السلطة الى نزاع بين الاقوام والطوائف وخلق البيئة المناسبة لإناطة مسؤولية صنع القرار بقوى وتيارات بعينها لتكون لها الحصة الأكبر في ذلك، ومن هذا المنطلق فإنه شكل دافعاً لطرح خيارإناطة نظام الحكم بالأكثرية لأنه يترجم المفهوم الديمقراطي لممارسة الحكم .
الأكثرية والخيار الوطني
لا شك أن ضمان حكم الأكثرية في أي بلد يشكل جوهر النظام السياسي الديمقراطي الذي يفرض فيه الإنصياع لإرادة الأغلبية ، وبالتالي خضوع الأقلية لنتائج صناديق الإقتراع ، وهذا تكوين بنوي سليم بل وملح في ظروف الإنتقال من مرحلة النظام الشمولي الى مرحلة بناء نظام مؤسساتي ديمقراطي يلبي طموحات ورغبة الناخبين في أي مجتمع حضاري يعيش العصر ويتوق الى التغيير و يعمل على إرساء أسس نظام مدني كفوء ، فضلاً على أن هذا الخيار سيؤمن الإنتقال والتبادل السلمي للسلطة ، لكن المشكلة تكمن هنا في المضمون الكمي والنوعي لهذه الأكثرية ، فإن كانت أغلبية الناخبين ( بشتى قومياتهم وطوائفهم) منضوية الى تيارات سياسية تعتمد المفاهيم الفكرية والعقائدية المدنية فإن فوز الأكثرية لا يشكل عامل قلق بل العكس من ذلك فإنه سيعزز الفعل السياسي ويمنح الشعب فرصة المشاركة الفعلية في عملية صنع القرار ، مثلما يحصل الان في الأوطان التي تنتهج النظم الديمقراطية الحديثة سواء في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها او في البلدان الغربية الأ خرى حيث يقتصر تبادل السلطة على الديمقراطيين والجمهوريين أو العمال أوالمحافظين أو الأحزاب اليسارية واليمينية الأخرى ، وليس على أساس جنس الناخب سواء أكان من البيض أم من السود أو على أساس الإختلاف الكنيسي (الكاثوليك أوالبروتستانت) وما الى ذلك من تقسيمات ، فيما إلحال تختلف دون ريب إذا كانت الأكثرية ناتجة عن خيار قومي أو طائفي فإنها تعني الإمساك بمقاليد السلطة الى أمد غير معلوم من قبل قومية معينة أو طائفة دينية محددة خاصة إذا كان الحجم الكمي لتلك القومية أو الطائفة طاغية على البنية الوطنية ، وسينتج عن ذلك حتماً تهميش بل وحتى اقصاء بقية الأقليات القومية او الطوائف الدينية الصغيرة عن المشهد ، وهذ ا ناتج طبيعي لممارسة النهج الديمقراطي على ارض الواقع كما يراد له .
إن حلول المعضلات السياسية في العراق تستوجب وفق المعطيات الســـابقة إعادة نظر كلية في التكوين او البنية السياسـية لطبيعـة التشكيلات القائمة ، فعلينا العمل الدؤوب من أجل تعميق الوعي بأهمية إحلال المفاهيم المدنية التي تتلائم مع طبيعة مجتمعاتنا الوطنية ولا تتناقض في الوقت ذاتــــــــــه مع إنتماءاتنا القومية او الدينية المقدسة ، فالتأكيد يجب أن يتجه نحو إعادة هيكلة البنية السياسية على أسس ومفاهيم فكرية وديمقراطية تؤسس لأحزاب وتيارات وحركات تدعو الى تطبيق نظم سياسية واقتصادية توحد الشعب ولا تفرقه ، وتعمل على طرح برامج سياسية تتنافس فيما بينها ليبقى في الساحة اخيراً البرنامج السياسي الأكثر قدرة على ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بعيدا عن النزاعات القومية والطائفية القاتلة والمهلكة والتي تقود البلاد الى التجزئة او التقسيم .
إن نظرة فاحصة ونزيهة الى الحصيلة السياسية خلال السنوات الماضية تشير الى إزدياد بؤر التوتر والصراع وإنعكاساته السلبية على طبيعة الأداء السياسي وتبادل الإتهامات بشأنه من مختلف الكيانات والمضي قدماً نحو هيمنة قوى معينة على حساب أخرى ، وتؤكد عدم إستقرار النسيج الوطني والمخاطر التي تهدد كيانه الداخلي ، وهذا ناتج حتمي لما تم تأسيسه منذ البدء لصورة المشهد السياسي .
مسؤولية تأريخية
لذا فإن عملية تأهيل وإعادة تكوين البنية السياسية العراقية خلال المرحلة القادمة قد تتجاوز الخطوط الحمراء في حسابات القوى الدولية الفاعلة على الساحة الوطنية ضمن المناهج المقرة مسبقاً لما يجب أن تكون عليه صورة المشهد السياسي ، لكنها عملية في غاية الأهمية لتأمين وحدة البلاد وإنقاذها من بين براثن مشاريع التقسيم والتجزئة وفعل أكيد نحو حسم الخلافات وتجاوز بؤر النزاعات المتفجرة وخلق حاضر وغد آمن يتمتع الجميع بخيراته وثرواته بعيداً عن أي تصنيف أو تمييز، وهذه مسؤولية الساسة والمثقفين ومن يملك مفاتيح التأثير على إتجاهات الرأي العام ، وهي مسؤولية تأريخية حاسمة .
3064 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع