صالح الطائي
في مجتمعنا ـ ليس اليوم فحسب ـ بل على مر التاريخ، هناك أسماء، خلدت وأبدت، ليس لأنها خدمت الإنسانية، أو نصرت الدين، أو أرضت رب العالمين، أو أطعمت الفقراء والمساكين والمتصوفة والسائحين، وإنما لأنها كانت تملك أكثر من قناع يعطيها أكثر من وجه لتظهر بالوجه المطلوب الخالي من المساوئ والعيوب أمام السيد اليعسوب، فيظن بها خيرا، ويتخذها ذخرا، ويشيد بمكارمها دهرا، فتأخذ الناس بما قال دون حاجة إلى مراجعة فوال، أو بذخ مال من حرام كان أم من حلال.
ثم يأتي من بعدهم خلف، يجهلون ما ارتكب السلف، فينقلون ما يجدون بلا غاية ولا هدف، وهكذا تجمعت الروايات، وتحولت إلى صحاح ومسندات لا يعتورها خلل، ولا يقربها زلل، ولا يُشك بمصدرها والأصل.
من هؤلاء السادة الأسياد من ذوي المناصب والعماد؛ الذي ملأ ذكره البلاد، كان القاضي الهمام ونصير الإسلام والسلام علي بن محمد بن أبي الفهم، أبو القاسم التنوخي الأديب، والقاص، والشاعر الأريب، الذي كان يعرفُ الكلام في الأصول على مذهب المعتزلة، ويعرف النجوم وأحكامها معرفة ثاقبة، ويقول الشعر الجيد، وولي القضاء بالأهواز والبصرة وسائر كورها، وتقلد قضاء إيذج وجند حمص، فأحسن الأداء وكسب الأصدقاء. والذي كان صريحا مليحا، فأخذ على عاتقه نشر غسيله بنفسه، متقدما به إلى أبواب رمسه، حيث قال: "إن أردت فإني سبحة ناسك، وإن أحببت فإني تفاحة فاتك، أو اقترحت فإني مدرعة راهب، أو آثرت فإني تحية شارب.. وكان يمارس كل هذه الأوصاف دون تعسر أو إجحاف، وربما لهذا السبب كان الوزير المهلب؛ أبو محمد الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون الأزدي من ولد المهلب بن أبي صفرة وزير معز الدولة البويهي، وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه، ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء..
وكان من جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون طيب الذكر الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع على أطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة، جماعة منهم: القاضي أبو بكر بن قريعة، وابن معروف، والتنوخي، وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك المهلبي كان أبيض اللحية طويلها، فإذا تكامل الأنس، وطاب المجلس، ولذ السماع، وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال مملوءة شرابا قطربليا [وهو نبيذ معتق] أو عكبريا[عكبر: بليدة من ناحية الدجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ، وأظنها هبهب، وإليها ينسب أحد أنواع النبيذ]، فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم بعضا، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات، ومخانق المنثور والبرم.
فإذا أشرق الصباح، وانتشر نوره ولاح، تخلوا عن الانشراح، وعادوا كعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء، إلى أن يأتيهم المساء. وهؤلاء هم سبب البلوى والبلاء!.
ولمن يحب التأكد من صدق الحكاية وأصالة الرواية، فليرجع مشكورا وذنبه مغفورا إلى الجزء (12) من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والجزء (3) من وفيات الأعيان لابن خلكان، وكلاهما من كتب العرب الحسان، التي لم تبلى عبر العصور والأزمان، وسبحان العلام الديان.
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع