اعداد: صديق الگاردينيا الدائم
كان هارون الرشيد رجل دولة عظيمة يواجه قوى غاشمه ويحمل رسالة طاهرة ووصلت الدولة الإسلامية في عهده إلى أزهى في العزة ونشر الدين وفتح الأمصار والإعمار ولثراء واستتباب الأمن والسلام الاجتماعي, وأخضع الزنادقة والخارجين, لذا فقد وجبت مهمة التعريف بهذه الشخصية من منطق الغيرة على الإسلام وأعلامه, ومحاولة التصدي لهذه الافتراءات.
ليس من مجرد باب الشغف للكتابة عن هارون الرشيد هو الدافع الوحيد, ولكن حال الأمة الإسلامية التي فقدت الانتماء, أو لنقول أنه توارى وانزوى خلف الحاجات الملحة,ومسالك الغربة التي فرضت عليها , وركن معظمهم الى التواكل والاعتماد على الغير واكتفوا بأداء المشاعر من الصلاة وصيام وحج وتركوا كيان الأمة تزلزله النكبات وتصعقه الملمات وقد تداعت عليه الأكلة وفي هذا المقال نحن لا نسعى لأن نجتر التاريخ ونفخر بالماضي التليد ونبكي على الأمجاد الضائعه, ولكننا نسعى لنبعث من جديد روح الانتماء للأمة الإسلامية لتصبح حالة عامة تتغلغل في وجدان كل مسلم.
هارون الرشيد الخليفة العباسي الخامس كان عصره أزهى العصور العباسية والإسلامية بعد عصر الخلفاء الراشدين الأربعة والخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، وقد حكم دولته مدة ثلاثة وعشرين عامًا شهدت الكثير من الأحداث الهامة والتاريخية ومن أهم هذه الأحداث نكبة البرامكة التي لا يزال تحيطها الغموض والأسرار مما جعل بعض الأدباء ممن يكتبون القصص ينسجون الخرافات حول شخص وعصر الرشيد فجعلوه بطل ألف ليلة وليلة وبطل الليالي الحمراء وشوهوا سيرته وصورته عن عمد أو خطأ.
هارون من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له وأحنوا هاماتهم رهبة منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية . قال ابن خلكان عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي" .
نسبه ومولده:
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرا عليها وعلى خرا سان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي ، عرف بالشجاعة والقوة ، وقاد الحملات في عهد أبيه ، ولم يتجاوز العشرين.
توليه الخلافة:
ولي الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعد الهادي، وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر.
عبـادتـه:
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: [وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاثمئة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة]. وقد أحصى المسعودي سنوات حجه بالناس فكانت: 170، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 181، 186، 188هـ . وقال الذهبي في التاريخ: [سنة تسع وسبعين ومئة وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوته إلى عرفات]. وقال أبو الفدا في المختصر: [ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد].
وقال الغزالي في فضائح الباطنية: وقد حُكي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي.
غزارة دمعه عند الموعظة:
قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر. وروى أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال بجميع ملكي قال إن ملكا قيمته شربة ماء وبولة لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا.
وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
حبه للسنة و توقيره للعلماء
كان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله. ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الأكابر. قال أبو معاوية الضرير ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى الله على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل " فبكى حتى انتحب .
وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن.
وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا.
وكان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم .
بين هارون ونقفور:
في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك] فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة.
وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله.
وفاته يرحمه الله:
وقد مات الرشـيد أثناء غـزوه الروم، قال السـيوطي في تاريـخ الخـلفاء: مات الرشـيد في الغـزو بطوس من خراسان . ودفن بها في ثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة هجرية وله خمس وأربعون سنة .
وأما ما يذكر عنه من اللهو والمجون والشراب فهذا -وإن ذكر في بعض كتب المؤرخين- فهو من الدسائس التي كان يروج لها بعض المغرضين من خصومه. وفي العصر الحديث كتب بعضهم عنه بغير تمحيص ولا تثبت، فأوردوا عنه الكذب والأباطيل، واتهمه بعضهم بازدواج الشخصية. وكتب عنه بعض المستشرقين مثل: فلبي وترجمه من الإنجليزية عبد الفتاح السرنجاوي، وكتب عنه المستشرق بالمر، وقد انصفه المستشرق ل.أ. سيدبو في كتابه (تاريخ العرب العام) حيث وصفه بالتدين والتصدق. ويكفي أن إماماً كالفضيل بن عياض -كما نقل عنه صاحب كتاب النجوم الزاهره- قال في الرشيد: الناس يكرهون هذا -يعني الرشيد- وما في الأرض أعز علي منه، لو مات لرأيت أموراً عظاماً. فينبغي للمرء أن يتثبت في الأخبار ولا يأخذ تاريخ الأمة إلا من رجالها الموثوق بهم.
1315 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع