د. محمد عياش الكبيسي
بعيدا عن التحليلات السياسية والعسكرية التي ازدحمت بها الشاشات والصحف والتي حاولت أن تغوص في أعماق تلك الليلة التي عصفت بتركيا ثم انقشعت بأسرع مما كان متوقعا، لننظر إلى الموضوع من جانب آخر أكثر أهمية بالنسبة للذين يحرصون على بناء مجتمعاتهم وتحصينها والنهضة بها في ظل حالة التيه والشتات التي نمر بها قدّر الله لي أن أكون في مطار أتاتورك بحدود الساعة التاسعة ليلة الانقلاب، ثم سلكت الطريق عبر شارع الوطن في منطقة الفاتح وصولا إلى الجسر الأول على البوسفور، بعدها بدأت أتابع الأحداث من الشاشة، وبالتواصل الهاتفي مع بعض الأصدقاء الأتراك.
كانت الأخبار كلها في صالح الانقلابيين، سوى تلك المكالمة القصيرة لأردوغان والتي لم تكن توحي بشيء من القوة والسيطرة بقدر ما كانت تدعو الشعب للقيام بواجبه وتحمل مسؤوليته.
كنت أتساءل في نفسي كيف سيخرج الناس من بيوتهم؟ وكيف سيتوجهون إلى حيث ينبغي أن يتوجهوا؟ كيف سيتعاملون مع الجيش وآلياته المدرعة؟ من الذي سينظمهم؟ ومن الذي سيقودهم؟
تجمع الناس من كل صوب، لم ينتظروا الأحداث على الشاشة، ولم يتريثوا حتى ينجلي الغبار، مع أنه لم تكن هناك مكافآت لمن يخرج، ولا عقوبات أو غرامات لمن لا يخرج، إنها المحركات الداخلية المستقرة في النفوس عبر ثقافة وتربية عميقة وطويلة الأمد، إنها مجموعة من القيم التي تدفع الإنسان دفعا نحو الموقف الصحيح دون الحاجة إلى عصا الحكومة أو فرمان السلطان أو فتوى المرجعية.
إنها روح المبادرة، والشعور بالمسؤولية، والوعي بطبيعة الأمور ومآلاتها، والإيمان بأن الانقلاب على الشرعية هو عدوان على الشعب وليس على الرئيس أو الحكومة، وأن الشعب هو من ينبغي أن يصدّ هذا العدوان حفاظا على حقه وقراره وكرامته.
الشعب هنا ليس جماهير العدالة والتنمية، ولا الذين صوّتوا لأردوغان، الشعب هو الشعب التركي كله الذي آمن بالانتخابات طريقا للحكم، وآمن بنتائجها مهما كانت، الشعب الذي يقاتل يوم الانتخابات بتنافس وتسابق فإذا ظهرت النتائج أذعن الجميع لها دون مشاكل، وصار الفائزون لا يمثلون أنفسهم ولا كياناتهم ولا الذين صوّتوا لهم، وإنما هم يمثلون الشعب كله؛ ولذلك فالشعب كله مسؤول عن مراقبتهم ومحاسبتهم والدفاع عنهم أيضا.
حتى الذين اختلفوا مع أردوغان وسياساته من داخل حزبه ومن خارجه لم يغتنموها فرصة للانتقام، ولا لإثبات وجودهم ومدى خسارة أردوغان لهم على قاعدة (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر) بل وقفوا جميعا معه جنودا مجهولين بلا مناصب ولا ألقاب، لأنهم في الحقيقة لا يدافعون عن أردوغان، وإنما عن وجودهم وكرامتهم ومستقبلهم ومستقبل أمتهم وأجيالهم.
أقارن هذه الحالة بحالات مرّت بها تجاربنا العربية، فأجد البون الشاسع، مع أن العرب ليسوا أقل شجاعة من الأتراك، ولا أقل استعدادا للبذل والتضحية، لكن الموقف الصحيح في الأزمات الكبيرة يتطلب شيئا آخر لم تتعرف عليه مجتمعاتنا بعد.
إن سرعة التلاوم والتنصّل عن المسؤولية وتغيير المواقف بلا وعي ولا مراجعة جادة والتأثّر بالإشاعات والدعايات سمات طاغية في شعوبنا ومجتمعاتنا، وهي تؤشّر على وجود معضلة أعمق بكثير من الإشكالات الظاهرة والأخطاء العابرة.
966 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع