عدنان حسين
منذ سنة انطلق، ويستمر حتى اليوم، أكبر حراك شعبي في تاريخ العراق، جوهره إجراء إصلاحات جذرية وشاملة. ومنذ سنة تعهّدت الحكومة ووافقها مجلس النواب، بل تعهّد هو نفسه، بتحقيق مطالب الحراك، فكلاهما عرض حزمة إصلاحية أظهرت اعترافاً بمشروعية المطالب ودستوريتها وتبنّياً لها، ولم يتحقق إلى اليوم حتى الأدنى من تلك الحِزَم.
ما كان لهذا الحراك أن ينطلق وأن يتواصل كلّ هذا الوقت وأن يتصاعد زخمه لو لم يكن الدستور قد كفل على نحو جليّ حرية التعبير بكافة الأشكال والأساليب، بما فيها الاجتماع والتظاهر والاعتصام والإضراب، ولم تحُل القوة الغاشمة التي لجأت إليها الحكومة السابقة برئاسة نوري المالكي لقمع حراك 2011 دون اندلاع الحراك الحالي بزخم أقوى ونطاق أوسع.
المادة الدستورية التي كفلت حرية التعبير (المادة 38) أوصت بتنظيم ممارسة هذه الحرية بقانون.. المادة كانت واضحة ودقيقة في تحديد وظيفة القانون الموصى به، وهي التنظيم وليس التقييد، والفرق كبير بين التعبيرين.
مجلس النواب الذي تأخّر كلّ هذا الوقت في تشريع القانون مثلما تأخّر في تشريع أهم القوانين اللازمة لبناء الدولة ولإقامة النظام الديمقراطي وترسيخ دعائمه، يتّجه الآن (اليوم بالذات) لتشريع قانون يُقيّد ممارسة حرية التعبير بوضع شروط ثقيلة عليها.. إنها مهمة قذرة في الواقع لأنها تشكّل سلباً لحريّة تمتّع بها العراقيون بقدر مناسب على مدى السنين الثلاث عشرة الماضية، بعدما حُرِموا منها حقبة طويلة في عهد صدام وقبله، وكانت واحداً من أحلامهم الكبيرة.
الدستور الذي أقرّه الشعب قبل عشر سنوات حرّم تشريع أيّ قانون يتعارض مع المبادئ الديمقراطية التي نصّ عليها الدستور. القانون الذي يريد مجلس النواب إجازته اليوم يتعارض على نحو صارخ مع هذه المبادئ، ولهذا فإن تشريعه سيكون مهمة قذرة،لأنه يمثّل انقلاباً على الدستور وسلباً لحقّ اكتسبه العراقيون بعد سقوط النظام الدكتاتوري وتمتّعوا به لما يزيد على عقد من الزمن.
في السنوات الثلاث الماضية انبرى الكثير من النقابات والمنظمات والهيئات الاجتماعية والشخصيات الثقافية والأكاديمية، فضلاً عن بعض القوى السياسية، لمعارضة نصّ مشروع القانون المقدّم من الحكومة، ونجحت هذه المعارضة في إقناع اللجان البرلمانية المتخصّصة برفض القانون بصيغته الأصلية وإعادته إلى الحكومة لصياغته من جديد بما يتماشى مع الاعتراضات والملاحظات المثارة عليه، لكنّ الصيغة المطروحة على مجلس النواب والمراد تمريرها اليوم عادت لتتضمن الكثير من القيود التي جرى الاعتراض عليها.
بعض القوى النافذة في مجلس النواب ربما تعتقد بأن الجو العام في البلاد مناسب لتمرير الصيغة الحالية في ظل الانصراف الشعبي إلى الحرب ضد داعش ومواجهة خطر الإرهاب. وهذه ستكون فكرة بائسة وخرقاء،لأنها ستزيد الانقسام والشقاق داخل المجتمع وفي الحياة السياسية، فيما الوضع في البلاد يتطلب الوحدة الوطنية المتينة والراسخة لتحقيق الظفر في الحرب على الإرهاب وإزالة آثار الكارثة الناجمة عن الاحتلال الداعشي لثلث مساحة البلاد قبل سنتين. كما أنه ليس من الفطنة السياسية في شيء أن تفكّر قوى سياسية حاكمة بتقييد الحريات، فالحكم ليس دائماً لها، وذات يوم ستجد نفسها في المعارضة وفي حاجة إلى الحريات التي قيّدتها أثناء حكمها.
1130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع