خالد حسن الخطيب
في اربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم كان السفر بالطائرة من بغداد الى بيروت يستغرق اكثر من اربعة ساعات وعدد مقاعد الطائرة لا يتجاوز ثمانية عشر مقعدا.
اما في الستينيات فتقلص الوقت للنصف وارتفع عدد المسافرين بشكل كبير حتى شهد قطاع النقل الجوي العالمي تطورات وقفزات هائلة بين جميع دول العالم مما حذا بالمنظمة الدولية للطيران المدني ( التي مقرها مدينة مونتريال الكندية وهدفها تنظيم عمليات الملاحة الجوية ومنع المخالفات ) اتخاذ اجراءات جديدة ومبتكره من اجل استيعاب التوسع الكبير بسبب زيادة حجم الطائرات وعدد مقاعدها وانخفاض اجور الطيران مما دفع بالمنظمة الدولية مخاطبة جميع الدول من اجل سد الفجوة حيث كانت اجراءات بعض المطارات الاسيوية والأوربية روتينية ومعقدة مما شكل ازدحام ملحوظ في حركة المسافرين في المطارات المذكورة , فخاطبت المنظمة الدولية حكومات بعض الدول المعنية , لذلك أوفدت الحكومة العراقية احد موظفيها الاكفاء من اجل الاطلاع على تطور وحركة الطيران العالمية بين الدول الاوربية . وكان من نصيب هذا الايفاد هو احد اقاربي حيث يروي لي انة قام بالإطلاع على حركة وانسيابه المسافرين والإجراءات الجديدة التي تكفل استيعاب وزحمة المطارات العالمية في بلدان اوربا . وفي عام 1966 قامت المنظمة المذكورة بدعوته لزيارة كل من مطار فرانكفورت في المانيا و مطار هيثرو في لندن حيث كانت في انتظاره مهمة تعلم واستيعاب الانظمة الجديدة ونقل هذه التجربة الى العراق . وكان لابد من جعله مسافرا عاديا حتى يقوم بملاحظة كافة الاجراءات الصغيرة والكبيرة والتفاعل معها بشكل تام , فحجزت له منظمة الطيران تذكرة سفر من مطار فرانكفورت الى مطار لندن , وكانت مدة الرحلة لا تستغرق اكثر من 45 دقيقة كما ان هذه الوجهة كانت وما زالت من اكثر الرحلات الجوية بين عواصم دول اوربا . فتوجه اقاربي الى مطار فرانكفورت واستقل الطائرة المتجه الى لندن وفي جيبه دفتر الملاحظات ليكتب ويدون ما يلاحظه في سفرته القصيرة هذه لكن سرعان ما تغيرت الملاحظات التي يود تدونها وانقلبت ملامح المهمة التي ارسل لها , فبعد جلوسه في المقعد المخصص له وشد احزمة الامان لاحظ بان هناك ستة رجال من ذوي البشرة الحنطيه المتقاربة اعمارهم بين العقد الخامس و السادس جالسين في المقاعد المجاور له وبدءوا يتهامسون وينظرون له بنضرة الاستفهام .. ولاحظ ايضا كيف كانت تبدو عليهم علامات الدهشة والتعجب بمجرد النظر الية ... فبادر احد الجالسين الستة وقال...الى اقاربي وبلغة عربية تتخللها لكنه بغدادية ... هل انت عراقي يا استاذ ؟ فقلت له نعم وكيف عرفت ؟ فقال من هذا الذي تمسكه بيدك ؟ فنظرت الى يدي فكان جواز سفري العراقي , فبادرته وكنت اظنهم من الايرانيين ؟ وأنت جنابكم من اين ؟ فتنهد وأخذت عينه تترقرق بالدموع ... وقال لا اريد ان اكدر عليك رحلتك ..فقلت له يا اخي لا يوجد شئ يدعو للغضب حتى لو كنت يهوديا اسرائيليا فأنت انسان مثلي ..فابتسم بارتياح شديد وقال انا يهودي عراقي و كذلك اصدقائي يهود عراقيين وقد هاجرنا رغم انفنا في سنوات الخمسينات من بلدنا الحبيب العراق وتركنا بغداد مجبرين رغم حبنا وعشقنا لها والى اهلينا هناك... ولم نذهب الى اسرائيل بل ذهبنا الى بريطانيا وآخرون الى امريكا وقد قررنا نحن الستة ان نجتمع الان لأمر تجاري متعلق بنا . فما ان انتهى من كلامه حتى بادرني من كان يجلس بعيدا عني وقال .. يا استاذ..يا استاذ هل تعلم ان جسدي في لندن لكن روحي معقله في بغداد لاني اعشقها وأحبها حب الجنون ..وأريد ان أسألك سؤال وبالله عليك تجيبني بصراحة .... هل ما زال شارع ابو نواس ومقاهيه موجودا .. فأجبته شارع ابو نؤاس موجود ومقاهيه عامرة بالزبائن حتى الصباح ....فوجهت راسي نحو اليسار حيث كان احدهم يمسك بملابسي ويسحبني بقوة ويقول .. استاذ استاذ .. هل ما زال السمك المزكوف على الحطب في التنور ابو الطين موجودا.. فأجبته .. نعم ما زال موجودا .... فبادرني الاخرون الواحد بعد الاخر وعيونهم تذرف الدموع والعبرات تخرج من صدورهم يملئها الحزن والأسى على فراق بغداد الحبيبة ... وظل الجميع يسألونني .. هل الخس ابو الطوبة ما زال موجودا .. هل عربانة ابو اللبلبي ما زالت موجودة .. وانأ جوابي واحد .. نعم مازالت موجودة .. هل ما زال الطرشي العراقي ولبن اربيل موجودا .. هل ما زالت مطاعم الباجه والكباب والكبة موجودة .. هل مازلت صواني البقلاوة والزلابية والكليجة موجودة .. هل محلات بيع البهارات والكرزات في الشورجة موجودة.... فانهار الجميع بالبكاء ومن ضمنهم انا من شدة الموقف الذي حدث لنا .. حتى ان مضيفات الطيران الاتي كانتا على متن الطائرة البريطانية اسرعن بشدة لتهدئة الموقف لكن دون جدوى .. فما كان من كابتن الطائرة البريطانية ومساعده إلا الاتصال بمطار لندن لإخبارهم بوجود حالات مستعجلة يجب معالجتها على الفور ....فوصلنا مطار لندن ونزلنا من الطائرة وفرق الاسعاف بانتظارنا حتى نزلنا سلم الطائرة والرجال الستة قد احاطوني من كل جانب ولا احد يريد ان يفوت فرصة السؤال عن بغداد .. وبعد خروجنا من صالة التفتيش وختم الجوازات قاموا بتوديعي والاعتذار مني لأنهم قد افسدوا عليه مهمتي التي ارسلت من اجلها وخرجت من مطار لندن ولم ادون اي ملاحظة تخص اجراءات المطارات وحركة المسافرين ...سوى دموعي التي قد ابتل بها دفتر الملاحظات .
1018 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع