د. محمد عياش الكبيسي
اليوم نستطيع أن نجيب بنعم، فقد بدأ الربيع العراقي بالفعل، فبعد خروج المظاهرات المليونية في الفلوجة والرمادي، تجاوبت سامراء وتكريت والموصل، ثم تطورت الأمور إلى إعلان العصيان المدني العام، وإقامة مناطق مخصصة للاعتصام الدائم، وتحديد مواعيد مسبقة للتظاهرات المركزية والتظاهرات المحلية بجداول زمنية معلنة وبوتيرة متقاربة ومتصاعدة.
تميزت الانتفاضة الجديدة بأنها انتفاضة سنية خالصة، وهذا على خلاف المظاهرات المحدودة التي شهدتها ساحة التحرير في بغداد والتي لم تعبّر عن قضية واضحة، ولذلك فقدت الدافع لاستمراريتها، أما اليوم فهناك شعور عام وعميق بوجود ظلم منهجي ومقنن لاستئصال سنة العراق هوية وعقيدة ووجودا، وذلك كخطوة أولية ولكنها ضرورية لإعلان العراق رسميا ولاية إيرانية، حيث إن المحافظات الشيعية لم تبد لحد الآن رفضها لهذا المشروع، وذلك بحكم الخضوع الديني لسلطة المراجع، ومنهم علي السيستاني وهو إيراني الجنسية، وقد اعتذر رسميا عن قبوله للجنسية العراقية بعدما عرضها عليه بعض النواب الشيعة!
السنة لا يشعرون اليوم بالظلم فقط، بل هم متخوفون فعلا من عملية تشييع ممنهج تعقبها عملية تفريس ممنهج أيضا، بحيث لن يكون مصيرهم وفق الخطة المرسومة بأفضل من عرب الأحواز!!
عبّرت الانتفاضة عن هذا التخوّف من خلال حرقها للعلم الإيراني في سامراء، ورفعها لشعار (أنا سني) في الفلوجة، وكذلك تأكيد جميع الخطباء والسياسيين وشيوخ العشائر على (المظلومية السنّية).
تجدر الإشارة هنا إلى أن السنّة صبروا طويلا على شركائهم في الوطن، لعلهم يغلّبون هويتهم الوطنية على انتمائهم الطائفي، ولعلهم ينتبهون لمعاناة شركائهم الذين يتعرضون لأصناف العذاب وعلى كل المستويات، وكان السنّة في كل مناسبة يهتفون (إخوان سنّة وشيعة)، لكن هذا الشعار أضعف المناعة الداخلية للشارع السنّي، ولم يقرّب أحدا من أولئك الشركاء!
كان بعض الزعماء السنّة يردد أن الخلاف في العراق سياسي وليس طائفيا، فهذه أحزاب سياسية متنافسة على المناصب والمكاسب، ولقد كانت هذه أشبه بسياسة دس الرأس في الرمال، فحزب الدعوة الذي يرأسه المالكي حزب ديني مرتبط بالعقيدة الشيعية ومرجعياتها الدينية من تأسيسه وإلى اليوم، وكذلك المجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الفضيلة.. إلخ بل إن الفرد الشيعي لا يصح تدينه إلا بتقليده لمرجع من المراجع، فهو يعطيه الخمس، ويأتمر بأمره في كل شؤونه خاصة المواقف السياسية.
لقد كان بعض الزعماء السنّة يمارسون بحق أهلهم المظلومين والمسحوقين نوعا من التدليس أو «التقية المقلوبة» ويعدون هذا «حكمة سياسية»، ولكن هذه الحكمة أعفت المراجع عن التبعات الثقيلة التي ينبغي أن يتحملوها جراء دعمهم اللامحدود للمالكي وحكومته، بل ولبشار ونظامه أيضا، فلم يعد أولئك المراجع بحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم أو العمل على تلميع صورة الطائفة، فقد تكفلت «الحكمة السنّية» بالقيام بهذا الدور!
ومن المفارقات هنا أن ترى هؤلاء «الحكماء» يرفضون التعامل بهذه الحكمة مع مخالفيهم من القادة السنة، وأذكر أني تعبت من الحوار لأقنع واحدا منهم بأن يتعامل مع طارق الهاشمي وعدنان الدليمي كما يتعامل مع السيستاني ومقتدى الصدر!! فإذا كان الهاشمي والدليمي دخلا العملية السياسية بضعف وللضرورة، فإن السيستاني والصدر هما قاعدتها وعمود خيمتها، مع ما بين الفريقين من خلاف وفروق من أصول الهوية إلى أدق الأهداف والغايات.
من الواضح اليوم أن السنّة قد تجاوزوا هذه المرحلة المترددة والقلقة من تاريخهم وقرروا إعلان هويتهم وقضيتهم، وهذا بداية الحل، حتى على مستوى التفاوض لفرض التعايش السلمي مع الآخر. إنهم الآن يستطيعون أن يقولوا هذه هي مطالبنا، وهذه هي شروطنا للتعايش في الوطن الواحد.
ومن دلائل هذا الوعي بمتطلبات المرحلة الحرجة التفاف السنة حول بعضهم وبعنوان السنة الذي يجمع ولا يفرق، فهناك وقف العلماء، ووقف رافع العيساوي وأثيل النجيفي، وهناك كانت خطابات المقاومة مع بيانات مجالس المحافظات المؤيدة والمساندة، وهناك شيوخ القبائل العربية ووفود الأكراد بأعلامهم الكردية، وهناك في كل ساحة من ساحات الانتفاضة يرفرف علم الثورة السورية.
إذاً انطلق الربيع العراقي بقضية واضحة، ولا شك أن وضوح القضية يعد المرتكز الأساس لاستمرار الانتفاضة وتصاعدها، بيد أن هناك جملة من التحديات ينبغي رصدها وتحليلها، حيث إن الوضع العراقي لا يمكن أن يقاس بكل الثورات العربية، وبالتالي فإن خبرات الربيع العربي المتعاقبة على أهميتها لا تصلح مثالا يحتذى للربيع العراقي.
في كل الثورات كان الصراع أفقيا، حيث تثور الشعوب المسحوقة على الأنظمة الاستبدادية التي تحكمها، فهناك طبقة يصنعها النظام عادة من المقربين والمنتفعين يمثلون الطبقة العليا «النبلاء»، في مقابل طبقة الشعوب «العامة»، وحينما حاول بعض أهل السنة استنساخ هذا النموذج في يوم 25/2/2012 فشلوا ولم يستجب لهم سوى مائة شخص فقط!!
حقيقة أن العراق اليوم منقسم انقساما عموديا، من رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان إلى المدرسة والمستشفى، مرورا بكل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والاقتصادية.
الوزير السني مضطهد كما هو الطبيب السني والمعلم السني، ولذلك يحار المراقبون في تفسير حالة اصطفاف كثير من الوزراء والبرلمانيين والمحافظين مع المتظاهرين، وربما تشيع الاتهامات والظنون السيئة، والأمر في الحقيقة أعقد من هذا بكثير.
وفي المقابل ترى الفقراء في مدينة الصدر والنجف وكل المحافظات الجنوبية يعضون على نواجذهم صبرا وتحملا لكل المعاناة اليومية من انقطاع الكهرباء ونقص الخدمات ويصطفون مع المالكي وحكومته.
في دول الربيع العربي يقف العلماء مع شعوبهم ومن شذّ منهم من النفعيين يوصم بالنفاق، بينما في العراق ترى العمائم السنّية في التظاهرات، والعمائم الشيعية في الوزارات والبرلمانات.
ولذلك فإن الذين يعولون على استقالة الوزراء والمسؤولين السنة، أو حتى على انهيار الحكومة كلها، هم واهمون، لأن الحكومة هذه مجرد واجهة وظيفية لنظام طائفي يستند إلى مؤسسات دينية «مرجعيات» ومؤسسات عسكرية وأمنية لا تخضع للتغيرات الانتخابية، فلو ثار الشيعة معكم لتغيير حكومة المالكي فإن مالكيا آخر ستأتي به نفس هذه المؤسسات أكثر رحمة بالشيعة وأشد وطأة عليكم.
ربما كان رجب طيب أردوغان أكثر صراحة وهو يصف جانبا من المشهد العراقي: (إن حكومة المالكي تتصرف كحكومة شيعية طائفية تتلقى دعما خاصا، وقد حان الوقت لتشكيل حكومة ديمقراطية عادلة).
وربما يكون المثال الأقرب للحالة العراقية هو الوضع اللبناني، من حيث إن السنّة في لبنان لا يعانون من حكومة متسلطة، بقدر ما يعانون من كيان عميق في الدولة اللبنانية أكثر رسوخا وقوة من كل الحكومات المتعاقبة، وهو القادر على أن يتحكم بالمشهد ويملي شروطه الأحادية من دون التنسيق أو التشاور معهم، ومن ثم كان السنة اللبنانيون لا يتفاوضون مع الحكومة بقدر ما يتفاوضون مع حزب الله، وهم كذلك لا يضغطون على وزرائهم للانسحاب من الحكومة، لأن هذا الانسحاب لا يغير من المعادلة شيئا، غير أنه يخلي الطريق أمام حزب الله ليتمدد في مواقعهم.
إن فتوى من سطر واحد تصدرها المراجع الشيعية في النجف تتبرأ فيها من المالكي كفيلة بإسقاطه من دون أية كلفة، هذا لا وجود له في أي من دول الربيع العربي، وبالتالي فإن الحراك السني ينبغي أن يحدد وجهته، إن عليهم أن يستجمعوا كل قواهم لإثبات وجودهم وليقولوا للنظام الشيعي الحاكم بكل عمقه الديني والشعبي: هذه هي هويتنا وهذه هي عقيدتنا ولن نرضى أن نتنازل عنها مهما كلف الثمن، وهذه هي شروطنا للتعايش السلمي في وطن واحد ودولة واحدة
1055 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع