عائشة سلطان
هناك أشياء في هذه الحياة لا تتكرر مرتين، لا تُعاد ولا تُستعاد إذا ذهبت، وإذا هُدمت فإنها تكون قد فُقدت إلى الأبد ومعها ضاعت قطعة من قلب المكان أو الإنسان أو الزمن، وما يحدث في سوريا اليوم هو نهب وهدم وتمزيق ممنهج ومقصود لمدن عربية كاملة، اعتُبرت على الدوام مراكز إشعاع وتنوير حضاري كدمشق وحلب وغيرها، هناك مدن تتم سرقة آثارها ووثائقها عبر عصابات دولية، وقتل سكانها وحرقها بالكامل لتضيع آثار الجريمة، إن هذا الذي يحدث هو تجريف حضاري حقيقي، المشكلة أن هذا التجريف يتم أمام أعين العرب جميعاً وفي وضح النهار دون أن يقدر أي منا على مقاومة هذا المشروع أو وقفه!
كيف يمكن أن نعيد بناء كل هذا الذي هدمته همجية داعش ومن سار على دربهم من الغوغائيين والمتطرفين والمتخلفين، كيف يمكن استعادة آثار العراق التي نهبت منذ الأيام الأولى لتلك الفوضى المخيفة التي عمت البلاد بعد لحظات من الاحتلال الأميركي، وكيف يمكن إعادة الحياة لما هُدم وكُسر وتم التعامل معه بهمجية لا نظير لها؟ هل سياسة اهدم مدينة وأقم جسراً أو برجاً فيما بعد يمكن أن تعوض ما ضاع؟
هناك أمور لا تتكرر في الحياة مرتين، كأن يبني المصريون أهراماً أخرى كالموجودة مثلاً، أو يعيد الفرنسيون إنشاء برج إيفل آخر، أو ينحت الأميركيون نصباً بديلاً لتمثال الحرية إذا ما تم تدمير النصب الموجود؟ إن هذه الآثار الخالدة لا تُمثّل بعداً مادياً هو الحجر والحديد والصلب والرخام والزجاج.. فهذه الآثار ترتبط بزمن وتاريخ وحقب ومنجز إنساني تراكم عبر سنوات، لذلك فإن سياسة اهدموا المدن وأعيدوا بناءها لن تقود لبناء حضارة بقدر ما ستملأ الجغرافيا العربية بالجسور والمدن الفارغة من مضامين الحضارة والانتماء!
لقد أُحرقت مدن بكاملها، شُرّد أهلها، تفرقوا في جهات الأرض كلها، صارت المدن والقرى والأحياء وكأن لا حياة مرت من هنا، أو كأنها كانت على الدوام مدن أشباح، المصيبة ليست في التاريخ فقط وإنما في المستقبل كذلك، فهذا التشويه سيطال سلسلة الأبناء والأخوة في الأسرة الواحدة، تمزقت الهوية إلى هويات في الأسرة نفسها، تعددت الولاءات والانتماءات والجنسيات، فأخ في ألمانيا وآخر في دبي، وثالث في السويد، وأخت مع زوجها في بلغاريا، وثانية في كندا، مات الوالدان وانقطعت الصلة بالحي والضيعة والمدينة والوطن، كيف سيتعاملون معاً في المستقبل؟ هل يمكن لهم أن يقفوا ضد أوطانهم الأصلية يوماً؟ نعم هذا ما يحدث فعلاً!
كثيرون من الألمان الذين يصوتون ضد قبول لاجئين جدد في ألمانيا اليوم هم من أبناء السوريين الذين ينتمون للجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين القدامى، تخيلوا أين يمكن أن تصل بنا هذه الهويات الجديدة القاتلة؟!
901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع