كلمات لها قدرة المرايا / الجزئين ١١ ، ١٢

                                                           

                                 د.ضرغام الدباغ

في ظهيرة يوم قائظ، نودي على سليم ورفاقه، وعلى عجل، قرأ عليهم ما يفيد أن الحكم عليهم قد استبدل بالسجن المؤبد .. أدرك سليم أنه أفلت بأعجوبة .. وعلى عجل تم تعليبهم وشحنهم حفاة في سيارة، مغمضي العيون والوثاق إلى الخلف، يحيط بهم رجال آليون مدججون بالسلاح، وسليم دهش إذ شاهدهم يقومون بهذه الأعمال بمهنية خالصة، لا أثر تقريباً للعواطف الإنسانية، مع ملاحظة أنه شاهد من لم تكن الشريحة المضادة للتفكير مثبتة بدقة ...!

تم استلامهم من قبل رجال لا أهمية لهم، أقل مرتبة من الآليين، أدرك سليم ذلك من طريقة تعامل الآليين معهم، بعبارات خالية من الذوق والاحترام، وأسر برأيه إلى سليمان ..

ـ بالله عليك يا سليم دعنا من هذه الأفكار .. أنا ما زلت غير مصدق نفسي بأننا نجونا، وأنت تبحث عن الذوق والاحترام ..

وضعوا في زنزانة كبيرة نسبياً، ولكنها مكتضة لتكون أشبه بعلبة سردين، ولكن من يسأل، كل غارق في شأنه، وبعضهم ما يزال يعاني من ذهول مطبق، وآخر يحدث نفسه ..

ولاحظ سليم أن هذا المكان الجديد يضم في عداد القائمين عليه رجال آليون وآخرين أصطلح على تسميتهم بالوجوه الخشبية، وإن لم يكن هناك فرق كبير بينهم، فالصنفين قد هجر معسكر الإنسانية، استولت هذه القضية على تفكير سليم : لماذا هجر هؤلاء الشبان معسكرهم حيث يكونون ..؟ أو حيث ينبغي أن يكونون ..؟

أليس حياة الشباب الرائعة الحافلة بالمسرات السرية والوشوشات والغرام، وأغاني الحب والطيران في الخيال وأحلام اليقظة والمنام، والاكتشافات الرائعة والانبهار السحري،  ترى لماذا استبدلوا كل ذلك الجميل لكي يصبح له وجهاً خشبياً، يتناول الطاقة في دبره ..؟

ـ عفريت دخل في أدبارهم ... قالها وسام ضاحكاً ..
ـ لا ... لا بد أن أمراً أو أموراً قاهرة، لم تتحملها شخصياتهم الهزيلة ربما ..
ـ فدخل العفريت في مؤخراتهم .. كررها وسام ضاحكاً ..
ـ أنا أعتقد أن الحاجة للمال شكلت دافعاً ربما أساسياً، ثم ضعف التكوين الشخصي والثقافي، والخضوع للابتزاز، والتلفيق النظري .. إن أي تداعي كهذا له أسبابه الاجتماعية ..
ـ ها أنت تكبرها كالعادة .. هؤلاء ضحلين والسلام ..
ـ أنا لا أكبر شيئاً وسام .. الأمور هي كبيرة ومعقدة، ليس ببساطة يقبل الإنسان بالتحول إلى رجل آلي ينفذ دون تفكير البتة، أو أن يرتدي قناعاً خشبياً فلا يتأثر بما يرى، لا تشمئز نفسه مثلاً، هنا الأمر أعمق مما نعتقد ..
ـ مثل راقصي الديسكو ..؟
ـ لا راقصي الديسكو فئة أخرى أكثر رقياً .. أنها تفلسف الانحطاط ..
ـ وخبراء التكنولوجيا .. ألم تكتب مرة عنهم في أحدى مسرحياتك ..؟
ـ آه .. نعم كنت أريد القول أن خبراء التكنولوجيا، هم في الواقع الموضوعي خبراء في التنقل بخفة القط ورشاقة النمر وهدوء القنفذ ..
ـ ولماذا القنفذ، كيف خطر على بالك ..؟
ـ القنفذ حيوان لا صوت له، يتسلل دون أن تحس به، يخفي رأسه عند شعوره بأدنى خطر..
ـ وهل فكرت بها أم وردت تلقائياً على بالك ..؟
ـ خبراء التكنولوجيا رمز للإنسان الكوزموبوليتي لا تعوزه الثقافة ولا الذكاء، لكن لا جذر له، وهو لا يرسل جذوره في الأرض حيث يعشعش، فقد تضطره الظروف أن ينقل موقعه من هنا إلى هناك، والمسوغات دائماً ذاتية، إنهم طفيليات الأرض ..
ـ وهل يمكن أن يكون هناك إنسان يجمع بين الآلي وراقص الديسكو، والتكنولوجي ..؟

ضحك سليم كثيراً، وكان بين أصدقائه يعرف بإطلاق التسميات الصائبة، راقصي الديسكو مثلاً كادت أن تسبب له متاعب جمة، كما أنه أطلق تسمية قبيلة سانتافي على أولئك الذين يتسمون بالشراسة، وقلة التهذيب، ويتفاخرون بقلة الأدب والحياء.

وكان قد روى مرة أن شاباً سنتافياً دخل غرفة عميد الكلية الآداب وأستلقي على طاولته، فيما تولى العميد طقطقة ظهر السانتافي، وأغلب الظن أن السانتافي كان قد تراهن أن يحمل العميد على تدليك ظهرة ..! أما العميد قابل المحتجين من الأساتذة بالتهدئة، مبرراً أن السنتافي قد أصيب بلفحة برد ولابد من تدليك ظهره ..

وسأله أصدقائه ماذا يمكن أن يعني السانتافي، لم يدر سليم من أين خطرت التسمية على باله، أغلب الظن أنه اسم لشيء ما في أميركا اللاتينية. أما تسمية راقصي الديسكو، فجاءت بعد مشاهدة لفلم هندي مدهش اسمه راقص الديسكو Disco Dancer مدهش لخفة حركات الراقصين وصعوبة الدوران على قدم واحدة، وربما على أصبع الأبهام حتى ..! كراقصي الباليه ... كان سليم يضحك طيلة مشاهدته للفلم، وقال أن بوسع هؤلاء الراقصين البارعين أن يحصلوا على قوتهم ورزقهم في السياسة أكثر من الرقص بهذه المؤهلات الراقية، ولكن عدد من خبراء التكنولوجيا سمعوا حديثه في النادي الجامعي فحدجوه بنظرة نارية تعني ما تعني في قاموس التكنولوجيين وراقصي الديسكو ..

والحق أن عدداً من أصدقاء سليم كانوا قد تنبؤا له أن يقع فريسة بأيدي الآليين، وقال له مرة أحد أصدقائه : يا أخي أعمل مثلنا الله يخليك .. نقصف الربع عرق مع جاجيك ولبلبي، ولا تنقصف أعمارنا ... تطلع إليه سليم ملياً، وكان هذا من قادة الطلاب أيام الانتفاضات والمسيرات الجماهيرية المزلزلة .. فأطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفعه، وكانت عيناه مليئتان بالدموع .. لم يقل له سليم شيئاً، فقد كانت إجابة معبرة بما يكفي ..

ـ تعبنا سليم .. يكفي، سيأتي من يحمل لواء العلم والثورة غيرنا .. نحن خيول هرمة لم نعد ننفع لشيئ ...
ـ ولكنك تدرس في الجامعة يا صديقي وتعلم الشباب..!

لم تكن هناك إجابة ...
أرى كلنا يحب الحياة لنفسه      حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى    وحب الشجاع النفس أورده الحرب

أما وسام فقد ألح عليه ذات يوم بالأسئلة، أجابه سليم، أن نهر الجماهير لا يتوقف عن الجريان والهدير، القمع لا يوقف مسيرة تاريخية مستوفية لشروطها، التاريخ لم يكف قط عن إفراز الثورات والانتفاضات الشعبية، حتى يوم كانت المجتمعات لا تعرف جدول الضرب، أو المدارس الابتدائية، إنه نهر ملتهب يجري تحت الأرض، ينفجر في لحظة ومكان معين ..

ـ وهل يتعين علينا أن ننتظر حتى ينفجر ذلك الذي شبهته بالبركان ..؟
ـ لا .. لا أحد ينتظر، العملية التاريخية ماضية، وهي كاللوحة التي تضيف الأحداث كبيرها وصغيرها، إضافات يومية تزيد من وضوحها، قل رتوش، قل ما شئت، ولكن عملية رسم اللوحة ماضية دون توقف ..
ـ وهل نحن رتوش برأيك في هذه العملية ..؟
ـ نحن إسهامة، وغيرنا يساهم، في بلداننا وبالعالم، أنت تلاحظ، أن الموقف الحالي هو غير نهائي .. بل أن دهاقنة القوة والمال من يقول لك ذلك، بيد أنهم يحاولون حفر مسار للعملية التاريخية بما يبعدها عن المس بمصالحهم السوداء ..
ـ وهذه المكونات .. من خبراء التكنولوجيا، وراقصي الديسكو، والآليين، والوجوه الخشبية .. ما دورها ..
ـ هؤلاء كومبارس المسرحية، يحاولون حجز تذاكر في مسرح الليلة الكبيرة ..
ـ الليلة الكبيرة .. هذه المسرحية الساخرة ..؟
ـ هي ساخرة، أو رمزية، هي تنبأ .. هي مقدمات ... سمها كما تشاء ..

وسام كان شاباً في مقتبل العمر، لا يقبل إلا بالخبز الساخن والشهي، وحالاً ..! ومثله كثيرون ..

السجن كان رحيباً واسعاً بمعنى أنه كان يضم الناس من كل حدب وصوب .. بل أشبه ما يكون بسوق خردوات، تجد فيه ما تعتقد أنه مفقود في الأسواق.. وهذه أبسط التشبيهات .. هناك مجانين رسمي، وكان سليم قد تعلم في دراسته الجامعية الثانية، أن كلمة مجنون هي مجازية تعارف عليها الناس، والأصح علمياً أن يقال (عصابي) وهناك من حفرت العقد النفسية كهوف عميقة في أعماقهم، بل هي بادية على وجوههم، وهناك من يتخذ من الدجل مهنة له، والدجل هو أدعاء العلم، ولأنه يخلط أقواله بخرافات ويحيطها بغيبيات، تضيف عليها الألفاظ ذات الوقع السحري فيجلس أمامه الأميين وأنصاف المتعلمين فاغري الأفواه .. مسلوبي الإرادة، فهم بحاجة إلى شأن أكبر من الدنيوي الماثل الذي هم له رافضون، ليسحق نظام تفكيرهم البدائي وليبدو سلطاناً ما فوقه سلطان ..

كانت هذه الوقائع قد صدمت تفكير سليم، الذي أضطر معها أن يعيد الأمر بأولويات وأنساق التفكير ... كان عليه أن يكون واقعياً لا براغماتياً، وهناك فرق بين الاثنين .. واقعياً يقيم خططه بناء على معطيات الواقع الموضوعي الملموس وسوى ذلك بناء قصور في الهواء .. وفي ذلك يقبل التراجع خطوة، ولكن ليتقدم فيما بعد بخطوتين ..

وكان العديد من الماديين قد استمرؤوا لعبة التراجع التكتيكي، والواقعية، ليصبحوا براغماتيين أصيلين، بل أضحى التكتيك عندهم استراتيج في ضياع لقواعد التفكير ... فما لعمل ...؟

عليك أن تخط طريقك عبر هذا النفق المظلم الموحش الذي لن ينيره سوى شعاع فكرك، وهو الوحيد الذي سينقذك باستخدام أقصى القدرات العقلية التلوث من جدران النفق وطحالبه وطفيلياته، ومن التلوث على أيدي الآليين وراقصي الديسكو وخبراء التكنولوجيا .. وعليك أن تبق يقظ البصر والبصيرة والوجدان لكي تنفذ بجلدك .. هذا إن بقي لديك جلد بعد كل العمليات الكيمياوية والفيزيائية وعناصر التعرية الطبيعية والاصطناعية ..

بعد قراءة دقيقة تحليلية لأعمال المخرج الياباني أكيرو كورازاوا ، بخاصة لفلمه الذائع الصيت (الأحلام) صار يشاهد أحلام عجيبة، يكتبها فور استيقاظه من النوم، ويحاول أن يفسرها فرويداً، وكان في شبابه قد تأثر بشدة بفرويد، وأعجب برسوم دالي، الذي أستقى الكثير من موضوعات رسومه من أحلام فرويد ومدرسة التحليل النفسي. ومنها سليم يكتب بين الحلم واليقظة .. ليست خيالاً ... بل هي رؤى ... كامنة أو ظاهرة يستخرجه ويكتبها ...

مدناً ساحلية، يغسل زبد الموج شوارعها المطلة على البحر، وضوء القمر، كنت تسير مع أصدقائك بكل رصانة، وفي داخلك تفور الرغبات بأن تنتهي من كل ذلك فتطير نورساً أبيضاً يملأ الهواء جناحيه، وتلاعب النسمات ريشاته الفضية.

يختلط في بارات المدن الساحلية صخب البحارة، بثرثرات شذاذ آفاق، ودهشة السواح عابري سبيل، وأمثال سليم ممن يبحثون عن قافية ضائعة .. وطقطقة العلكة في أفواه العاهرات، وصيحات النادل المسرع في تلبية طلبات الزبائن...

في الخارج، ساحة فسيحة، وتمثال لعقيد أو مشير يشير بيده شرقاً أو غرباً ... وصرخات الشبان السكارى، ونداءات العاهرات الممزوجة بالرغبة والفحيح، حتى تكاد تقنعك أنك فارسها وحبيبها الوحيد ...!

ترتد بك الذكرى للأيام الخوالي يوم صرت أنانياً ومنحت نفسك لنفسك،  أقنعك صديق أن العلة تكمن في التحليل العلمي المادي الملموس للمواقع المادي الملموس، وأن خطايانا تبدأ عندما ننظر للتقويم بالمقلوب بحيلة المغلوب .. ونتخلى عن الخرافة لصالح العقل...

اقرأ بأسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ... أليست هذه دعوة صريحة تستثير كل الهمم للقراءة، لماذا إذن يحرضون الناس على قبول الخرافة ..

أمامك صحراء قاحلة، زادك الملح والصبير والعاقول .. وشمس محرقة وعذاب مستطير .. تموت من العطش، تطير شوقاً إلى سرابات لا توجد ... تنهار مدن كنت قد شيدتها لتأوي إليها يوم لا ينفع أي شيء سوى ما جنته يداك، واليوم لا ينفعك سوى ما في جيبك ..!

بعض من أهلك تخلوا عنك، الوقت عصيب، والزمن ردئ، والخوف يملأ القلوب وما بين العيون والجفون، فلا يعود بوسع المرء يرى أو يسمع ... الشواخص الكبيرة التي ما فتأت أن كانت منارات طريق، انهارت كلها، فالمسيرة متجهة صوب المغيب .. إلى أفول لا يعلم مداه إلا الراسخون في العلم ومن يتعاون مع القوى الكبرى ويقبض بالأخضر والأصفر فأستبدلوا جلود وجوههم بمؤخراتهم، وهي غير قابلة للتعرق خجلاً ...  

آه ... يا سليم ... آه .. أنت ما تبرح أن تحكي لنا بلغة اندثرت في الواقع، وأنت واحد من آخر رجال قبائل انقرضت، وأغلب الظن تمارسها بدافع نوستالجيا تجتاحك كحمى، فتردد كالأبله مصطلحات عف عليها الزمن .. وصارت مفردات قديمة ...

أتدري .. أنك تغدو مضحكاً للغاية .. أرجوك لا تغضب .. ولا تقنط .. عندما تتحدث عن الإخلاص والقيم والمبادئ، ... الإخلاص للوطن .... ها أن سامعيك يكادون أن  ينفجروا من الضحك .. هناك بقايا احترام لمواقفك ولتاريخك الوطني، ولكن إياك أن تغالي .. فينقلب الأمر وبالاً عليك ..

أمامك بركة زجاجية شفافة من الكريستال، عليك أن تملئها دماً ودمعاً، لا تسل كيف ولماذا ومتى، فهذه أسئلة مزعجة يكرر السذج طرحها، وكأنك تبدي شكاً فيمن يمسك عصا موسى ويهش على الغنم .. أعلم أنك تدفع ضريبة نوعك .. فطب نفساً وأدفعها راضياً مرضياً ..

كتب في دفتر صغير كان يخفيه بعناية، أنه قد استفاق من حلم، شاهد كلوديا وحكى معها، كانت تبكي، وأراد أن يلعب دور الفارس الشجاع، وبقلبه الموجوع، كتب:

لا تبك يا حبيبة العمر، إن صفرت القطارات بالرحيل، لا تبك إن واجهت الوحدة وبرد المحطات وأنت وحيدة، لا تبك إن رأيت كل المرقص يرقص، واشتقت لهمسة الحب وحضن الحبيب، لا تبك إن قرع المطر على نافذتك، وأخافك هزيم الرعد، لا تبك إن شعرت بالغربة في ضجة الاحتفال، وكنت تائهة وهزك الحنين لدفء العناق ..
لكن يا كلوديتي يا حبيبة العمر ليس بيدي سوى أصابعي وبها أكتب إليك، وآمل أن أتلمس بها ذات يوم وجهك الحبيب..

كان سليم يواصل المسيرة، يقاوم المرض والحصار، وشتى الآلام، كان يريد أن يرى الحرية ويعانقها .. وأن يقاتل الديدان ...

ـ أتقدر ... قال له وسام .. أتقدر ..؟

ـ لا أدري، إن كانت واحدة من هذه الإغماءات ستكون الغيبوبة الأخيرة، ولكني سأقاوم حتى آخر لحظة، وسيكون فخوراً بي من يعرفني ... لن أهزم أبداً، نعم بوسعهم أن يعرضوني لمواقف مهينة، ولكن ليس بوسعهم إهانتي، ما لم ينكسر شعاع الضياء في ناظري سوف لن أهزم، لم ولن ينجحوا بانتزاع موقف مهين مني، لن يحملوني على التراجع، هذه هو مآل اللعبة .. أن تهزم .. وأن تشعر بداخلك باليأس، وأنهم أقوى منك ... صحيح أنك هرمت ولم تعد أذرعك تقاوم القضبان، صحيح أن زئيرك لم يعد يفزع أو يخيف، وأوسمتك التي نلتها في ساحات الوغى، لم تعد تساوي شروى نقير... قيدوا يداك، كمموا فمك، وأنت في قفصك قابع يتفرج عليك الأولاد والصبيان .. تنتزع من صدرك الآهات..

طويل ليل بحر الظلمات  ..

لكن ... قف مستعيناً بآخر ذرة قوة لديك، كالرمح في قلب الأشياء والزمن، مستعيناً بقوة أبطال الأساطير .. أقذف بنفسك إلى الأعماق ... بعنفوان الشباب .. لا تهاب، لا تخاف، أنت أكبر منهم، كن أبياً كن قوياً كن شامخاً ..

تطلع سليم إلى وجه وسام ... كانت الدموع تغطي عينيه .. إذ يشهد ولادة جديدة خلف القضبان لأخيه سليم المناضل والكاتب الذي يعرف ...

كان سليم قد ألتقط صورة في السجن، وهو جالس على سريره وهو مرتد بدلة رياضية، يترجم كتاباً، فأرسل الصورة إلى الخارج .. وكتب على ظهرها:

في نهاية الجولة الثانية عشرة ...
ما زلنا بخير، نهديكم السلام
ـ بدلة الرياضة دليل اللياقة البدنية
ـ الكتاب في اليد دليل على اللياقة الفكرية
أما الشيب في الرأس .. فيزول ببضعة دراهم

وكان سليم لا يهوى الترجمة، كان يفعل ذلك في الحالات النادرة، ولكنه ابتدأ يمارسها فكانت كتب عديدة تشكل تحدياً لغوياً وثقافياً صعباً، حافلة بالمصطلحات الفنية الصعبة، كما كان يؤلمه أن لا يستطيع المثقفون العرب قراءة هذه التحف .. من الكتب، ولكنه كان لا يحبذ أن يقال له أنه يفعل ذلك قتلاً للوقت رغم أنه كان الشعار الرسمي الذي يرفعه السجناء عادة .. وكان يؤلف، بل هو خاض بحوراً كانت بعيدة نسبياً عنه ولكن ما أن ابتلت قدماه حتى أستطاب مياهها العميقة ... ولكن العذبة.

ترجم ومن تلك أعمال عسيرة بأسلوب راق صعب، ترجم صفحتان يصف بهما حصان يعدو في الفلاة وأجتهد سليم أن ينقل الأسلوب بروعته، كان يدعك تشاهد الحصان بل أن تشعر بأنفاسه المتهدجة، وعضلات ساقه وفخذه في أقصى توترها، ولاحظ أنه بعد أن انتهى من ترجمة الصفحتان، اللتان أخذتا وقتاً غير اعتيادي، وجد نفسه يتصبب عرقاً، يلهث منقطع الأنفاس.

فريحات صغيرة، يلملمها من هنا وهناك، وأعمال يحلو له أن يحسبها منجزات ... أو على الأقل ليقلل من حجم الخسائر، ولكن هل تعوض الحرية بشيئ ...؟ تذكر قصيدة بول إيلوار قرأها يوما له صديقه القديم أسامة .. هي هكذا تقريباً ... كأني أريد أن أضيف لقصيدة إيلوار الخالدة .....

كتبت أسمك على خوذات الجنود العائدين من الجبهات ..
كتب أسمك على جناح الطير الغافي بأمان ..
كتبت أسمك على ورقة وأرسلتها في مجرى الأنهار ..
كتبت اسمك عناوين للأغنيات والأناشيد
كتبت اسمك على رغيف الخبز الساخن ..
كتبت أسمك على أهداب الأطفال الحالمين بالأعياد
من أنت ....!
ومن غيرك يا حرية .............

القصيدة طويلة، وأنا لست متأكداً إن كان شيئاً مما كتبته في النص الأصلي .. القصيدة طويلة .. ربما صفحتان ونصف وعندما يستبد بك الشوق لتعرف ... كتب أسم من ... الحرية ..؟

ذات ليلة أرسل عليه المحقق، وتمنى سليم في نفسه أن لا تكون جلسة ثقافية ..! فالمحققون معه يحلو لهم لأن يستعرضوا عضلاتهم الفكرية والثقافية، الغائبة حتى أفق الدنيا، وكان سليم يحافظ بشق الأنفس على أعصابه وأن لا يموت من الضحك، ولطالما ناقشوه لماذا يكتب عن المسرح، وهنا يحتم عليك الظرف أن تتحدث بلغة يفهمها من أمامك، وستكون العواقب وخيمة إذا سخرت منه، معاذ الله، بل عليك أن تجاريه لإنقاذ الموقف ..

ناقشوه طويلاً عن مقال لما ينته منه بعد " النداء الأخير قبل غرق السفينة " وللأسف لم ينجح في إقناعهم أن المقال يدور عن تربية الأسماك، فأحيل بموجبها إلى المحكمة وحكم عليه بسببها، السبب طول لسان والتفكير في حقول ممنوعة.

ـ أي سفينة ستغرق ..؟

تذكر غرق سفينة تايتانك، وهي حادثة عجيبة تنطوي على عبر كثيرة، كان على وشك ترجمتها عندما ألقي القبض عليه، إذ كان لا بد أن تتوافر أكثر من 15 خطأ فاحش غير اعتيادي لتغرق السفينة، ولابد أن تحدث هذه الأخطاء كلها وبتسلسل معين محدد، وإلا فالسفينة وطاقمها وأجهزتها قادر على تصحيح الخطأ، فكان أن حدثت الأخطاء الخمسة عشر وبالتسلسل أياه، فغرقت السفينة العملاقة ... أليس في الأمر عبرة ...؟

ـ أنا أقصد بالسفينة رمزاً لأوضاع يمكن إنقاذها، يمكن إنقاذها بعد ...!
ـ وهل تعتقد من الممكن عدم إنقاذ السفينة ..
ـ يمكن في حالات نادرة ..
ـ وما المقصود بالسفينة في مقالتك .. أي سفينة تقصد ..؟
ـ أنا أتحدث بشكل عام، أريد القول أن السفن يمكن أن تغرق ما ينتبه ربابة السفينة، والتكنيكيون فيها، والملاحون، طاقم القيادة والإدارة..
ـ ها .. انك تقصدنا بوضوح ..!
ـ أنا لا أقصد جهة، أو دولة معينة بالذات ..
ـ ولكنك ترمز للدولة بالسفينة .. هذا واضح جداً .. سيد سليم ..
ـ أنا أقصد الدولة والكيانات السياسية والمجتمعات .. لا شيء محدد .. لاحظ رجاء لا توجد أسماء لا لأشخاص ولا لأشياء .. أنا اتحدث عن جوهر الأمر وأسعى لتكريس العبرة فحسب ...
ـ صحيح، ولكننا نحن المقصودين .. أليس كذلك ..؟
ـ أنا لم أقل ذلك ..
ـ كنت ستقوله ..
ـ ولكني لم أقله ولم أكمل المقالة ..
ـ حتى إذا لم تكملها، الغرض واضح جداً سيد سليم .. نحن أيضاً مثقفون.
ـ بالتأكيد ...
ـ أتسخر ..؟
ـ لا بالطبع، لا داع للسخرية ..

كان يخشى أن يناقشوه في موضوعات ذات طابع رمزي، فيصعب عليه تبسيطها لدرجة قدراتهم العقلية، ومن تلك على سبيل المثال، وجدوا لديه كتاب "أسبانيا غداً" لسنتياغو كاريللو وتتضمن أفكار كثيرة كان سليم قد سحب خطوطاً تحت المهمة منها، بيد أن المحقق وهذا ما كان سليم يخشاه، ومرة أراد أن يفهم المعاني العميقة لقصيدة كتبها قسطنطين كفافي، مليئة بالرموز، وبأبعاد فلسفية يصعب على القارئ العادي إدراكها.

ـ لماذا إيثاكا .. من هو إيثاكا ؟
ـ لا أعرف، الشاعر كفافي أختارها من الأدب الإغريقي هي رمز لمدينة الحكمة.
ـ أليست  جمهورية جقراط (يريد أفلاطون) هي مدينة الحكمة ..
ـ يجوز أيضاً، لا أعرف بدقة ..
ـ لا .. أنت تعرف ولكنك لا تريد إطالة المحاورة .. تحدث لا تخشى شيئاً ..
ـ قلت الذي أعرفه .... إيثاكا هي مدينة الحكمة ..
ـ ولكنه يتحدث عن موسيقى والأحلام والأوهام ..
ـ لا أذكر النص ...
ـ ومن هو بوسيدون ... وزير الدفاع اليوناني ...؟
بصعوبة بالغة سيطر سليم على نفسه لكي لا ينفجر بضحكة ...

عزيزيي قارئ هذه السطور إليك قصيدة قسطنطين كفافي الرائعة أقرأها وفكر وأستمتع رجاء : الرحلة إلى إيثاكا

الرحلة إلى إيثاكا

حين تسمعُ فجأة  .. في منتصف الليل ..
فرقةً غير مرئية ..
بموسيقى مدهشة .. وأصوات ..
حظّك يتعثر الآن .. أعمالك التي أخفقت .. و خطط العمر التي غدت كلّها أوهاماً  

لا تأس بلا جدوى ..
بل مثل من إستعّد منذ زمن .. وبكل شجاعة .. قُل وداعاً لها ..
لإيثاكا التي تُغادر ..
والأهم ألاّ تُخدع ..
لا تقل أبداً كان الأمر كلّه حلماً .. وأنّ حُججكَ قد أخطأُت..
لا تنحني أمام أوهامٍ فارغة كهذه..

بل مثل من استعدّ منذ زمن ..
بشجاعة من غدا جديراً ،مثلك، بمدينة كهذه ..
إقترب بثبات من النافذة ..
وأنصت مُنفعلاً، لكن بغير شكوى الجبناء و توسّلاتهم
أنصت إلى متعتك الأخيره ..
إلى الأصوات ..
إلى الآلآت المدهشة للفرقة الغامضة ..
وقل وداعاً ..
وداعاً لإيثاكا التي تفقدها ... !!
 
عندما تبدأ رحلتك إلى إيثاكا
تمنّ أنْ يكون الطريق طويلا ..
مليئا بالمغامرات والأشياء المثيرة...
ولتكن الرحلة فرصة لإشباع شغفك بالمعرفة...
لا تخف من الغيلان والمردة آكلي لحوم البشر  
الذين يظهرون في العتمة، أو تلك المخلوقات ذات العين الواحدة، مفتوحة في انتظار الفرصة..
وواجه بلا خوف غضب بوسيدون وبحاره المتقلبة...
أنت لن تقابل هذه الأشياء التافهة في رحلتك إذا ما بقيتْ رؤيتك ثابتة نحو الأفق الذي تريد..
إذا ما بقيتْ روحك على شهامتها ...
لن تقابل هذه الغيلان آكلة لحوم البشر، ذات العين الواحدة،
ولن تعاني من تقلبات بوسيدون إذا لم تحمل كل هذه المخاوف معك، في أعماق نفسك ...
لن تقابل هذه الأشياء ما لم تستحضرها روحك أمام عينيك...
تمنّ أن تكون رحلتك طويلة،

أن تكون صباحات الصيف عديدة لسنين طويلة فتبحر إلى مرافيء لم تحلم بها، ولم ترها من قبل ستبحر إليها في فرح وسلام ويقين هاديء تجوّل في كل الأسواق التي تقابلها واشتر من الأشياء كل ما قد تحتاج إليه: من المرجان واللآليء الجميلة والعطور الشهوانية التي تمتع حواسنا...
تعلم قدر ما تستطيع توقف في كل مدينة وتحدث مع كل من له معرفة،
ليتسع خيالك وينمو شغفك بالعلم...
لتكن إيثاكا ماثلة دائما في ذهنك..
والوصول إليها هو هدفك النهائي
لا تتعجل في رحلتك بأي حال...
الأفضل أن يدوم السفر لسنين طويلة
ألق بمراسيك عند الجزر الصغيرة
عجوزا بالثروة التي جمعتها أثناء رحلتك
لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا أي شيء
لقد أعطتك إيثاكا الرحلة
وبدونها ما كنت بدأت
وليس لديها شيء آخر لتعطيك...
واذا وجدت إيثاكا فقيرة ومعوزة ،
فهي لم تخدعك...
فمن الحكمة التي اكتسبتها ،
والمعرفة التي حصلتها ،
والخبرة التي صارت جزءا منك ...
سوف تفهم أيّ معنى لإيثاكا ...

ولقسطنطين كفافي قصيدة أخرى رائعة وزاخرة بالمعاني، هي فليأت البرابرة ......!

كأن كفافي كان يقرأ التاريخ بالمقلوب ..!



12

بوسع حتى البسطاء ملاحظة بعض التحولات على الأشخاص(السجناء)، ظاهرة للعيان يمكن رؤيتها، وأخرى تحتاج لعين فاحصة ... فقد امتدت طحالب وفايروسات إلى أدمغة الناس وتعششت، ووضعت يرقاناتها، وتكاثرت، بل صار منطقياً أن تنتقل العدوى، وإن بطرق معقدة، ولكن هذه مرحلة فقط، وطرق الانتقال ستتطور هي الأخرى، للتنقل الفايروسات بطرق أكثر سهولة، وآنذاك سيكون الخطر مستطيراً.

كان داء الجرب ينتشر في بعض المواسم، فيحيل حياة المصابين لجحيم، وإلى رعب رهيب لغير المصابين. والجرب طفيليات دقيقة لا ترى بالعين المجردة(تأمل الأمر)، تحفر جلد البشرة، ثم تسير داخل الجلد وتضع بيوضها ويرقاناتها حيث يحلو لها ذلك، وعلاج الجرب سهل ومتوفر، ويتلخص بأن يقوم المصاب بتغطية بشرة بدنه بطبقة من المادة العلاجية وهي بيضاء اللون، ذات رائحة كريهة، وآنذك سوف لن تجد حشرة الجرب متنفساً فتنفق، وتأمل سليم هو عملي وسهل العلاج من الجرب، فيما تستعصي عندنا آفات وأمراض تتسلل للدماغ، وتحفر أخاديد وكهوف وتقيم إمبراطوريات، ويصبح إثبات البديهة من الأمور الشاقة، والبشر المبتلون بهذه الأمراض الوبيلة، تطرأ تغيرات مهمة على سحناتهم، وألوان جلدودهم، وعندما تحاول استئصال ورم فكري من دماغه، يصعب ذلك والعملية محفوفة بالمخاطر، إذ قد ينتفض، أقصد أن ينهض فزعاً ويفر منك، لاعتقاده أنك تقوم بعملية تغيير لنوعه النادر...

في حمأة هذا الوضع التراجيدي، كان سليم يحاول الحفاظ على نفسه، بالغوص في عالم القراءة والكتابة، تأليفاً وترجمة.

كتب مرة :
يتدور الحرف في رأسي ... يستقيم، يلتوي، فيرسم دوائر ضوئية، أشيح بوجهي مستديراً .. مرتقباً لحظة .. ومضة .. لأغيب في عوالم لا مرئية، متكور الوجود في هذا العالم المنفي، آه تكمم فمك .. ولعنة تنهال على اسمك، تتدحرج إلى العالم المنفي المخفي، تلاحقك كلاب الصياد تنهش لحمك، ثم يختم الجلاد على جلدك، وشماً ... كتابة ورسماً، فيجرح لك قلبك، وأنت إذ تحتار، أن تختار، تستدير شرقاً أو غرباً تهم أن تطيرا، تفرز الأرض الموحلة ديداناً، تلتف حول كاحليك، تبتلعك الأرض فتغوص حتى منكبيك، فلا تطيق حراكاً .. تستغيث ... أمصادفة أم أتفاقاً، استوطنت جرثومة النوم الضمير....

كن طاهراً .. كن أبياً ... كن قوياً .. استقبل حتى المستحيل، فلابد يوماً يأتي .. تكون فيه الدائرة غير المستطيل ...

الناس يعانقون أقدارهم دون خيار حقيقي، هم لم يختاروا معاركهم، في الأغلب، بل وجودوا أنفسهم مصادفة في التيار الذي دفع بهم إلى أيدي آليين لا يتمتعون إلا بنسبة ضئيلة من الذكاء واحترام القانون، مقابل كثير من الصلاحيات والقوة.

وقد تنتابك الدهشة أن ترى جموع من السجناء السياسيين أميون، يجهلون القراءة والكتابة بصورة تامة، ونسبة كبيرة منهم بالكاد تفك الخط، وأقل منهم من يمتلك المعارف الأساسية، أما المتعلمين جيداً، فهم قلة نادرة، والمثقفين بندرة الكبريت الأحمر ...!

كان سليم يتذكر بقوة رأي عبر عنه عبد الوهاب البياتي جواباً على الأمل المرتجى، أعتبره سليم في وقته تشاؤم مبالغ به، نعم الوضع الحالي لا يمكن أن يوصف بأنه جيد، ولكن ماذا عن المستقبل، البياتي رأي ذلك مبكراً: " الصدأ في كل مكان .. في الزوايا السوداء والبيضاء، السرية والعلنية، الصدأ في كل مكان، والرماد والهزيمة، فكيف لمستقبل مشرق أن يولد من بين هذه الأنقاض وهذه الحثالات من الرجال والمأجورين والمرتزقة والخونة ..".

كان سليم يحاول بحذر، أن يخلق قضية لمن لا قضية له، كانت قراءات في كتب اقتصاد التنمية والسياسة، وأزمة الثقافة في العالم الثالث، قد جعلته أن يقلب مسألة ما كانت أهمية تشييد مسرح يعادل بناء مصنع، وأن يطرح على نفسه سؤال مضن الجواب: هل أزمتنا ثقافية، أم اقتصادية ..؟ وباعتباره يدرس السياسة والاقتصاد، كان يرى أن لب المسألة يكمن في التخلف الاقتصادي كناتج رئيسي لقرون من فقدان الاستقلال والهيمنة الأجنبية، ولكن الافتقار المريع للثقافة هو علامة بارزة في مجتمعات العالم الثالث، فكان أن توصل إلى فكرة أنها كالعملة ذات الوجهين، احدهما يمنح القوة الدافعة، والأخرى تدفع إلى الأمام، في موازنة، كان يعترف بأنها قلقة بين وجهات نظر تقول أن أبتداء عصر النهضة كان ثقافياً، والنفس إذا أرتقت وتقبلت فكرة الأرتقاء الاجتماعي / الاقتصادي، والقبول بمنجزات العقل.

كان يعمل كثيراً، يؤلف ويترجم، لا يدع ساعة تضيع منه هدراً، كانت فكرة أنه قد أصبح سلعة معلبة تهاجم أعصابه وأفكاره، تستفزه وقد تخلى، مرغماً، عن العديد من هواياته كالتصوير وسماع الموسيقى، ولكنه لم يكن ليدع الكتاب يسقط من يده، وكان يعلم السجناء أيضاً بصفة خاصة اللغة الألمانية.  ولكن هل يلغي ذلك حقيقة كبيرة جداً هو أنك محتجز عن العالم، ومحاولاتك هذه ما هي سوى قفزات في البقعة، لن تقدمك إلى الأمام، ولكنها تبقيك في يقظة فكرية، ومنجزات كتابية تأليفاً وترجمة، وقراءة كثيفة جداً لكتب ومباحث، هي السلوى لفقدان تلك السنوات الطويلة.

فكر بدقة .. أستبعد كل الأقاويل الطيبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع... لا تعتمد على وعود الزبد والعسل، أنظر إلى أمام، حلل موقفك بدقة، والظروف المحيطة بك ... لا داعي للولولة وندب الحظ، ضع برنامجاً دقيقاً استبعد فيه كل ما هو غير ممكن مادياً وموضوعياً، وليكن هذا قراراً لا حياد عنه، دونه الضياع والتآكل، وغيلان القضبان الحديدية.

قلت مصارعة حرة، لأن الضرب واللكم مجاز على كل الجسد ... كن يقظاً ولا تدع جرثومة تافهة تقضي عليك، ولكن سليماً وبعد جولات طويلة أحترف اللعب، صارت أعتي الجراثيم لا تقاربه، وعلى درجة عالية من المهارة في تفادي طلقات المطاط التي تخدش ولا تميت، وحتى الألغام البحرية الضخمة التي بوسعها إرسال أكبر البوارج إلى قاع البحار والمحيطات، كان في ساعات زهوه يتباهى بالاقتراب منها ثم يتفاداها بسرعة، ماهراً في الابتعاد عن الطلقات بأنواعها وبكافة أفاعيل الآليين والخشبيين، بأنواع رتبهم، بل أنه توصل إلى وضع معادلات غريبة في قضم الزمن، بإنتاج وفير وبإنجازية عالية.

ولكن في السنوات الأخيرة، كانت الجولات قد بلغت ستة عشرة، بدأت رطوبة الجدران والهواء المتعفن، تنال من هذا الجدار الأسمنتي.

كان وسام قد أطلق سراحه بعد أحد عشر جولة (سجن) وكان في ذلك مدعاة ارتياح عميق لسليم، إذ كان منظر الشاب الرائع يقضي أفضل سنوات عمره يصارع الغيلان يعذبه، في قواعد لعب غير متكافئة، فكان خروجه، أشبه بسنارة اصطادت بالصدفة سمكة نادرة فخرج وسام الذي تحمل الكثير، يعانق الحرية، وليحفر بساعده طريقاً جديداً.

عاد سليم إلى طاولته الصغيرة الفخمة(بمقاييس السجن) يضعها فوق سريره، ثم صفيحة خشبية، فتصبح طاولة كتابة، يستهلك الورق وأقلام الحبر الجاف بكثرة، وتوفير الورق بصفة خاصة قد أضحى هاجسه الأكبر، ولكنه بمرور الوقت أبتكر الطرق والأساليب في توفيرها، بل والاقتصاد بها، وكان قد ترجم كتاباً كاملاً أنجزه كاملاً على كارتونات مساحيق الغسيل، وعلب السكائر الكبيرة، وعندما سلم الكتاب المترجم كحزمة من أوراق الكارتون، كاد أن يغشى على أخته....!

ومرة أعاره صديق كتاباً يصنف من الممنوعات، قام بنسخ معظم الكتاب في ليلة لم ينم فيها ولا دقيقة واحدة ..! العمل (القراءة والكتابة والترجمة) قد أضحى بالنسبة له مسألة صراع حياة أو موت، ويوم اسر لصديق له بهذه القاعدة المرعبة، فغر الصديق فاه، وجحظت عيناه، أترى سليم يخطط لمعاركه بهذه الجدية .. ألم يتعب بعد جولات طويلة من المصارعة الحرة ...!

ــ أنظر نجاح، قال لصديقه الأثير : إن الأمر قد تحول بالنسبة لي كحياة أو موت، أرجوك أن تأخذ الأمر على هذا المحمل.

السجن قاس جداً، والقضبان باردة جداً، ورغم كل ما يحيط بك .. فأنت وحيد جداً .. لا ترى من تشتاق أن تراه، لا تكلم من تشتهي حديثه، وحتى لا تقرأ كما تريد، ولكنه الممكن الوحيد للإفلات من التدمير والتلاشي .. ممنوع من التواصل المهني الوظيفي، ممنوع من العيش ضمن أسرة، ولا حتى أن تضع برنامجاً وتطبقه، ولكن هناك دائماً عبقرية كامنة في فن التعاطي مع الأزمات .. وكان سليم قد قرأ في مطلع شبابه كراساً صغيراً لماوتسي تونغ: كيف تحيل الهزيمة الساحقة إلى انتصار .. والكتاب رغم أنه لمفكر مادي، إلا أنه ينطوي على شحن معنوي ونفسي وثقافي كبير جداً، إنه يتعامل مع الرجال ذو الصلابة الحديدية.

كان السجن قد أحال بعض الرجال إلى أشباح، الكثير منهم كان يتناول الأدوية المهدئة، وآخرين تحولوا إلى مرضى الأمراض العقلية والعصبية، وأكثرهم يفرح بدون داع حقيقي، ويغضب عندما تزعجه ذبابة، والخلافات كالعادة لا تدور حول موضوعات جوهرية، ونادراً ما تجد مناقشات جادة حقيقية، فهذا ما لم يصادفه سليم إلا مرتين أو ثلاثة خلال ستة عشر عاماً ....

السجن كان يعج بالمخبرين، وبعضهم من يفعل ذلك هواية، والآخر بداعي خوف استوطن نفسه، وانحطاط غريزي، وكان سليم قد تيقن من هذه الحقيقة مبكراً جداً، فالحذر عنده صار منهجاً، لكن ذلك لم يمنع إقامة علاقات سياسية وعلاقات قائمة على احترام الموقف والرأي، ولكن الطفيليات يا للعنة كثيرة، وقادرة أن تحيل أي برنامج محترم إلى مجازفة، وكان سليم قد تحادث مع بعض السياسيين حول الدور الحاسم للنفط والغاز في السياسة الدولية حيال الشرق الأوسط، وقرروا عقد جلسات دورية لبحث هذا الموضوع الهام، وليس للأمر علاقة مباشرة بنظام ما، ولكن المخبرين وعبقرية راقصي الديسكو والآليين اعتبروا الموضوع خطيراً خطورة لا يجوز التهاون تجاهها، وكاد الأمر أن يصل إلى حدود المؤامرة، فما كان من سليم وأصدقاءه إلا أن قلبوا الأمر إلى ولائم وطبيخ وانتهى الأمر بلا طاخ أو طيخ.

والسجن ينطوي أيضاً على فتوحات فكرية وثقافية، لمن يريد ذلك ويقدر عليه، فكان سليم طيلة حياته لا يكن الود لبعض المفكرين، إذ كانت هناك مسحات من دوغماتية لازمته منذ فترات الشباب الصاخبة النقاشات، والقناعات المميتة، والولاء حتى الموت للحركة، فكان وفق هذه المعطيات لا يكن الود لمفكر مثل سيد قطب، ولكنه وبعد أن قرأ بإمعان شديد تفسيره الفذ " في ضلال القرآن " أدرك أي مفكر عملاق خسرت الأمة، واللوم في ذلك لا يوجه إلى نظام بعينه ولا للمفكر الكبير، ولكن إلى تداخل الخنادق والمواقع، الصراعات الجانبية التي كانت وربما ما تزال، لا داع حقيقي لها في معظمها، أو قل أنها لا تستحق العنف الدموي الذي مارسته الأطراف، وتلك تجربة كبيرة.

حاول سليم أن يستجمع ذاكرته، ويكتب عن الفرص الضائعة في تاريخ الحركة الوطنية لبلاد تاهاري السعيدة، وكتب فعلاً بضعة صفحات، ولكن المجازفة كانت كبيرة، وكانت بداية مصائبه مع الخبراء ممن يؤجرون عقولهم وكأنهم يؤجرون شقة مؤثثة، أو غرفة خاوية على عروشها، وراقصي الديسكو الذين يملأون الدنيا صخباً وجعجعة، ولكن بلا طحين ..!

ولكن بين راقصي الديسكو والآليين من تجد ذرة في ثنايا ثيابه، وربما بين عينه والجفن، ولكن يستبعد إخفاء هذه الذرة في العقل والقلب، ذرة إنسانية منسية، إن استطعت إثارتها بلطف قد تحصل على نتيجة. والشيئ بالشيئ يذكر، أن سليماً كان قد قرأ في السجن قصيدة رائعة لبرتولد برشت، فترجمها إلى العربية واعتنى فيها، والقصيدة لا تهاجم أحد، ولا تسمي أحدأ، ولكنها مع ذلك حاربها كل الغيلان والتماسيح، والخبراء وراقصي الديسكو.

وماذا يعني برشت ..؟ صينية مليئة بلحم هبيط تساوي ألف برشت ...!
القصيدة تداولها السجناء سراً ... القصيدة مسالمة، القصيدة تخاطب الجنرال بود واحترام لا يستحقه .. القصيدة بعنوان " غلطة الجنرال ".

إليك عزيزي القارئ قصيدة غلطة الجنرال للشاعر الألماني برتولد برشت

غلطة جنرال

يا جنرال، دبابتك قوية
أنها تستطيع أن تحطم غابة، وأن تسحق مئة إنسان
ولكن لها غلطة واحدة :
أنها تحتاج إلى سائق

*      *       *        *
يا جنرال، قاصفتك قوية
إنها تطير أسرع من العاصفة وتحمل أكثر مما يحمل الفيل
ولكن لها غلطة واحدة :
أنها تحتاج إلى طيار

*         *         *          *
يا جنرال، الإنسان ضروري جداً
إنه يستطيع أن يطير، ويستطيع أن يقتل
ولكن لديه غلطة واحدة :
إنه يستطيع التفكير

كانت هذه المسألة، مسألة نسف عقل الإنسان واستبداله بشرائح ألكترونية، وهي محاولات جرت كثيراً عبر التاريخ والعصور.. فليس نادراً ما أعتقد طاغية، أحمق أو عبقري .. سيان، أن بوسعه نسخ أفكاره وزرعها في أدمغة الناس أجمعين والرافضين مارقين ملعونين إلى أبد الآبدين ... فتنشط صناعة الكتاب الموجه، ويستلم الخبراء المهمة بكل همة وذكاء، لكن دونما أدنى كبرياء، ثم جوقة من الراقصين والمطبلين، الذين قد يجيدون العزف، ويتقنون فنونهم، ولكنهم وبأنضباط عجيب وتدريب عالي الجودة، يعملون بالإشارة ... فبلمح البصر يبدأ ضجيج يصم الآذان، ولكن بمرور الوقت تعلم راقصي الديسكو أن يعملوا بتناغم، ولكنهم يكفون بأقل من ثانية وبسود صمت مطبق تقطعه ضحكة إعجاب، ثم إشارة خفيفة من اليد بالكاد يفهم منها ما يراد، ولكن الخبراء وراقصي الديسكو، تطوروا في إتقانهم للفن، بأن يفهموا حتى حركة أصبع واحدة، بل لا أبالغ القول صاروا يقرأون الأفكار، ويتقلون على ذلك هدية بسيطة، كما يعطي المروض قطعة سكر للدب إذ يجيد الرقص ويستحق التصفيق ....

تصفيق .... تصفيق .... تصفيق، ثم وضع أحدهم إصبعيه في فمه ليصفر فأخرج دون قصد صوتاً قبيحاً، فأصفر وجهه اصفرارا ثم توارى خلف الستارة، ويقال أنه قضى ليلته في موقف النظارة وتبول على نفسه عدة مرات، ثم حكم علية بعدها بالإهانة علناً والبصاق على وجهه ثلاثة أيام في ساحة البلدية.

وقد يبرز أحد راقص الديسكو وقد استبد به الهوى نشواناً .. فيبدأ رقصاً خفيفاً على نقر الطبلة، وإذا ما صادف أن يستبد الحماس بقارع الطبل، والهوى بعقل راقص الديسكو، فيقع في حالة من الوجد والهيام فيفقد وعيه التام، فيخرج عن النص، وتلك خطيئة كبيرة عند راقصي الديسكو، فيصاب الحضور بالوجوم ويصيب الهلع قادة الديسكو، ولكن راقص الديسكو لا يأبه، رغم التحذيرات بالنظرات، إذ لا يجرأ أحد الكلام بصورة مباشرة، ولكن الهوى قد استبد بهذا الراقص الديسكوي الشاب الصاعد وهو يحلق الآن في دنيا العشق التكنولوجي، وخروجه عن النص سيكون محموداً إذا أفترت شفتا التنين الأعظم عن شبه ابتسامة ملكية، إشارة إلى أن تصرف الراقص كان في كافة الأحوال قلة أدب، ولكن قلب التنين الأعظم أدرك ما بفؤاد الراقص من هوى أخرجه عن الانضباط ...

حسناً يكفي الآن ...

وكان بلاط مملكة تاهاري تشهد أمسيات يطلق فيها الراقصون والحواة والهواة، ولاعبوا الإكروبات ومطلقي النيران من أفواههم بحركات تأسر الألباب .. والحق أن الجمهور كان يستمتع بهذه الفعاليات أيما استمتاع، ويخرج الجميع غير مصدق، يحمدون على سلامتهم، ويباتون ليلتهم وهم حيارى ... لا يستطيعون مضاجعة زوجاتهم من الخوف .

كان سليم قد أقتنع أن الإنسان كالآلة يمكن تفكيكه وبرمجته وتوجيهه، وإلا كيف نفسر أن جموع غفيرة تتصرف بطريقة واحدة، وفي بعض الأحيان يرتدون ثياب متشابهة جداً، ويمكن تعبئتها بطريقة مذهلة تتضاءل فيها اللمسة الشخصية للفرد إلى أقصى درجة ومقدار، هي مسألة محيرة للغاية، ولكن المعضلة الوحيدة هي في قدرة الإنسان على التفكير والإبداع واستجلاء أفاق جديدة دوماً بل ويا للدهشة اختراع حتى ألوان جديدة بمزج ألوان معينة وبنسب معلومة، لذلك فقد أعتقد جازماً أن لا بد من جعل الآفاق أكثر سعة، والقدرة على أن نتنازل عن جزء من مصالحنا، وربما هذا الجزء غير بسيط، ولكنه الممكن الوحيد كي لا نقع في حفرة لا نستمع فيها إلا أصوات تجشئنا، ولا نرى أبعد من أرنبة أنوفنا، ولا نكلم إلا أنفسنا، أو أشباهنا لدرجة التماثل.

حزيناً كان يراقب حفلات المصارعة، بسأم شديد كان يستمع إلى التهريج، وإلى خطابات قادة الفكر التكنولوجي: إننا في الوقت الذي نحي تطلعات المتقدمين عمودياً وأفقياً صوب آفاق جديدة، إن المعارك سوف تقدم لنا التجارب على أن التقدم دائماً ليس هو الحل الأمثل، وأن التميز بين المتميزين الذين يطرحون التميز منهجاً وسبيلاً ... وووو ... إلخ  من هذا الهراءلوجيا ...!

وسط الغيوم السوداء، وفي خضم حفلات تهريج تصيب بالصمم حتى الفئران، قرر أن يقطع التدخين، أبتسم أصدقاؤه، واعتبروا أن هذا في حكم المستحيل، ولكن سليم لم يعد بعدها للتدخين أبداً .. سليم عبر حياته الماضية حاول دائماً التغلب على حاجات الجسد .. والسيطرة على الرغبة عبر الإرادة ..

......... كان يحاول أن يمنع نفسه عن الارتجاف بصوت واضح، تصطك فيها أسنانه، لكن عبثاً فالبرد كان يحفر بقوة داخل عظامه، كان منهكاً لأقصى حد، وبحاجة للنوم، فأمامه نهار شاق مقبل، سيعمل على إحكام تمركز الوحدة التي يقودها، فهما عقدة مواصلات مهمة، وقد أختير تحديداً للدفاع عنها .. هذا ما لم تحدث اشتباكات عارضة، وربما قوية .. نهض ومضى يفتش على عناصره الذين كان يبلغ عددهم المائة تقريباً، فوجدهم ويا للعجب نيام، كان هناك حراس، ناشدوه أن يخلد للراحة، فلم يشأ أن يخبرهم أن البرد يمنعه من ذلك، لا يريد أن يستولي على غطاء أحد من عناصره، ففي قتال العصابات لا يوجد قائد بالمعنى بالمعنى العسكري التقليدي .. هنا ثوار بالمعنى الأحترافي .. كاد أن يغفى، لولا أن شدة برد الفجر كانت تحبطت هذه المحاولة، ومع أول خيوط الفجر، ابتدأت طلقات المدفعية تنشط الجو ولتبعد آخر ما تسلل من نعاس ..

و كتب مرة من خطوط القتال رسالة إلى فتاة أحبها... إلى " أ " كتبها على ضوء المصباح الزيتي في القاعدة، ولكنه لم يتمكن من إرسالها، في سويعات الأجازة بمقهى الهافانا الشهيرة بدمشق، قرأ صديقه الشاعر أديب الرسالة، وقرر أنها صالحة أن تكون رسالة الشباب اليوم وبعد تعديلات طفيفة صدرت الرسالة منشورة في أحدى صحف المقدمة في بيروت، كان عنوانها .. المقاتلين لهم قلوب ..
"في هذه اللحظة التي أكتب لك فيها هذه الرسالة على ضوء مصباح زيتي، يتناهى للأسماع صوت رمايات مدفعية وإطلاق نار من رشاشات ثقيلة، أنا الآن في حمأة اللهب والنار، ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني.
في هذه اللحظة تنطلق قطارات من أرصفتها في محطات المدن الأوربية ينشد الشباب أغاني الحب والحرية والسلام، بينما في هذه اللحظة ينام أطفال بلادنا على أمل يوم غد أفضل، وفي هذه اللحظة، يسقط منا شهيد يسقي بدمه مصباح زيت مصباح الأمة ...
أنا لم أمت بعد .. سأقاتل دفاعاً عما أحب، هو حقي، هي إرادتي، من أجل غد أريده، من أجل أن ينام الناس في بلادي بأمل وبأمان .. أن أتلاشى من أجل أن يشيد صرح الحرية ..".

ثم حملته أرض ووضعته أرض، يتسلل عبر بوابات الحدود خلسة، يضطر كل مرة للهرب فاقداً كتبه وأسطواناته وحبيباته، وتقاليد جميلة ألفها، ألف السير في الشوارع الفسيحة حتى ساعات الفجر، والنقاشات الحامية حول موضوعات الثورة والحب والتنمية في البلدان النامية .. يتجول دائماً بجوازات سفر مزورة وأحلاماً كثيرة مؤجلة ... يا إلهي كم بلغ رصيد العذاب المميت بلا موت معلن ... لعيونكم أطفال بلادي ستضل النوارس تحرس شطأن الأمة، ويهون من أجلها كل عذاب وتضحية ....

قاحلة تلك الصحاري التي عليها أن يقطعها، تحفل بالجن والعفاريت والضباع .. قاس أن تبلغ حافة النهر وتبلل كفيك، ولكنك تعود ظمآن .. أن تعد ألاف الليالي .. ثم تفوتك ليلة القدر .. أن تكتب أناشيد الحرية وأنت مكبل اليدين مكمم الآهات .. أعزل تواجه كل تلك السيوف التي تعتورك من كل صوب، وأنت ليس لديك ما تواجهه سوى لحم صدرك وصرخة الحق .. تناولت حراب اللؤم بعض منك، وأنت صامت، قتلوك وأنت صامت، حرقوا جثتك وذروا بقاياك في الهواء، وأنت صامت... ليس لك سوى إرادة سيزيفية .. ليس هناك خيار آخر .. واصل السباحة في بحر المستحيل .. ليس لك سوى الصبر ترسم رسوماً خرافية على الجدران، فساعة تحتال على نفسك، وساعة تحتال على الزمان ..

أبقى متحداً مع ذاتك ..!

قوم سيارة في البرية سمعوا صرخة، تباسم الصغار، تهامس الكبار، ولكن كبيرهم قال: وقوفاً .. أنها صرخة لرجل يبذل في هذه اللحظة كل روحه.

ليس من صرخة تذهب هباء، نحن قوم نحفظ ما قيل قبل مئات من السنوات، أما آن لهذا الفارس أن يترجل ...!

كان سيفك وسيوف غيرك من قبلك قد غرست مكسورة  في أرض البرية، فأنبت الحديد سيوفاً كثيرة، ومناجل حصاد، هيا للموسم القادم .. هيا أيها الفتية، لا ينبغي أن يتوقف عرس الدم .. الأرض سخية، الأرض معطاء ...

أبتسم سليم إذ يشاهد تلك الرؤى ... مهوناً على نفسه.. ألم أقل لك طب نفساً .. ولا تهن ولا تحزن ..

كتب لها يقول:
خذي العشاء بمفردك، لا تنتظريني، فلن أعود غداً، أرقبي طرق الضياء على نافذتك، وعندما يشتد الظلام في ناظريك، قولي .. قولي .. لا خوف عليه، أنه قادر على فك قيوده قيداً قيداً .. مهما طال الليل أو طال الانتظار.

قال له أحد الآليين أنه يأسف على ما آل إليه مصيره بين الجدران .. فأجابه سليم، أنه يشعر حقاً بالعطش لا مراء، ولكن العطش سينتهي بشرب قدح من الماء البارد الزلال .. وينتهي الأمر وما كان .. وسأشرب يوماً من ذلك القدح، فغر الرجل الآلي فاه، لم يحر جواباً ..

كان بعض الآليين ما تزال بحوزتهم ذرة صغيرة من الطبع البشري، هم أخفوها، أو لم يجدها خبراء التكنولوجيا، الذين كانوا يديرون ورش تحويل البشر العاديين إلى آليين، لذلك كنت تراهم منشغلين على الدوام، ولا يكاد للواحد منهم بقية وقت ليقرأ شعر المتنبي، أو قصيدة سانت جون بيرس، أو ليستلهم الحكمة من قصائد طاغور .. كانوا يرتدون ملابس العمل ذو القطعة الواحدة الزرقاء اللون، ويرتدون قفازات عمل، ويعتمرون خوذة من الفايبر غلاس لها نظارة من مادة صلبة، لها قابلية الحركة إلى الأعلى، ينزلها حين يشرع بالعمل ويلحم أجزاء الآليين، بجهاز لحام متطور جداً، يبث شعاع قوي يوصل بها أجزاء معينة لم يستطع أحد أن يكتشف سرها بالكامل، إذ أن الإنسان الآلي يموت أيضاً ولكن يمنع تشريح جثته، وتتولى دوائر تكنولوجية معينة بدفنه وفق مراسيم معقدة.

الخبير التكنولوجي ينهي عمله بإنتاج آلي جديد، بأن يرفسه على مؤخرته، فينط الآلي الجديد بخفة القط إلى الأمام، هاتفاً: نعم سيدي ... وتلك علامة أن الآلي الجديد تام الصنع ..

أما كبير الخبراء فكان يبتسم، حين يؤدي أحد الآليين عمله بامتياز فيربت على كتفيه تعبيراً عن الرضا، والآلي يتمتم بحبور خفي، وله أن يبتسم، وعلامة الابتسام هي أن لا يظهر بياض أسنانه: شكراً سيدي، ولكن ليس له أن يتبسط في الحديث .. وتلك من آداب الآليين في حضور الخبراء وهم الطبقة العليا في مجتمع تاهاري السعيد.

ولراقصي الديسكو شأن آخر، فهم من نال الحضوة لدى طبقة الخبراء بوصفهم أدركوا الأمر وحواشيه وقبلوا بسرور بالغ دور أبراز الوجه الفني لمجتمع سعيد، وخياطة الثوب السلطان، وبحسب خبرات وقدرات كل راقص، سينال بموجبها الدرجة التي تناسبه، ولقادة الخبراء حسن تقدير في الغالب الأعم، نقول ذلك لأنه قد تحدث أخطاء كما حدث عندما أرتكب أحد الخبراء بدرجة متوسطة، خطيئة فظيعة، عندما قام بتعين ماسح أحذية بدرجة مدير عام في أحدى دوائر الديسكو.

وكان للديسكو دوائر ... طبعاً .. لا اخالك تتصور أن الديسكو لا يحتاج لإدارات، فهي بنوع ما معقدة، ولا بد من الاعتراف أن هناك خبرات إدارية كفوءة في هذا المجال، ولكن يحدث أن يبالغ أحد راقصي الديسكو إذ يستبد به الحماس، وهذه مفهومة وتغفر له، ولكن هناك من يحاول تمثيل دور المتحمس، فيهان إهانة بالغة، وقد يبصقون بوجهه علناً، وقد يعيدوه إلى أسفل الدرك، فيعاد تعينه خشبياً أو قد يصنعون له وجهاً حجرياً وتلك الطامة الكبرى.

ولكن الراقص يبقى راقصاً، وهو يعتبر الأمر نعمة أسبغت عليه، فيحاول جهده أن يستعيد وزنه الضائع لدى كبار راقص الديسكو، الذين يرفعون أمره إلى الدرجة الدنيا من الخبراء ... أيدهشك هذا النظام الدقيق ... ماذا قلت ..؟  

نظام دقيق ...؟ .... طبعاً نظام دقيق ..... هذا رقص وليس لعبة ..!

وراقصي الديسكو هم أعلى درجة من الآليين، وذوو الوجوه الخشبية، والحجرية. وذوو الوجوه الخشبية والحجرية لا رأي لهم، بل لا يسأل رأيهم، وإذا حدث أن أخطأ أحدهم فعبر عن رأيه ولو بتمتمة الشفاه، فيعاقب مدربوه، أما مرتكب الخطأ نفسه، فسيمر بدورة تعليمية جديدة ينسى فيها اسم والدته المحترمة، التي أنجبت هذا الشبل المفخرة.

ولكن سبحان من لا يخطأ، فالمدربون مهما ارتفعت منزلتهم، فإنهم قد يقعون في هفوات ويغفلون ذرة إنسانية تسيئ إلى سمعة الحجري كحجري محنك، أو إلى الآلي أو الخشبي، وقد تجد هذه البذرة محيطاً ملائماً وتتحول إلى حجيرة، وعندما يكتشفها الحجري في نفسه، أو الآلي يحرص على إخفائها بدقة وكأنها عار، إلا أن هذه الحجيرة تمارس تأثيرها عليه، ولكن بحذر شديد.

وقد عايش سليم بنفسه أصناف من هؤلاء جميعاً، وبعضهم أدهشه (فساد) نوعهم في عثوره على بقايا الإنسانية فيهم. فقد سمح له أحد الآليين بعد أن أقفل باب الغرفة، باستخدام الهاتف، وآخر عرض عليه مرة تقارير كتبها بحقه مخبرون من بين السجناء وهي طفيليات موجودة في كل سجون العالم ومعتقلات الأسرى.

أيقن سليم أن التجربة فريدة، وإن لا يمكن الحديث عن قاعدة عامة، وهذا الأمر ليس بغريب، فهناك دائماً شواذ، وذات يوم ناداه أحد الخشبيين وسأله فيما إذا كان يحتاج شيئاً، فلما أجاب بالنفي، ألح عليه، أراد سليم أن يدفع الأمر بلا مضاعفات، فقال له حسناً، إن كان بوسعك أن تجلب لي شيئاً من السكائر وها هو ثمنها، فما كان من الرجل إلا وأن أمتطى دراجة هوائية وجلب السكائر بعد نصف ساعة، ولما أراد سليم أن يمنحه بقية المبلغ، أمتنع بإصرار وتأثر، وصار يتردد على سليم يسأله عما يريد، بل أن سليماً كلفه ذات يوم بإنقاذ أثنين من الفتية من الضرب المبرح، ففعل ذلك بإجادة الدور..! ولكن هذه الأمثال رغم أنها متوفرة إلا أنها لم تكن شائعة، ولكن بوسعك أن تروض النمر .. وتلك مواهب ...

كان عليك أن تراقب كيف يفقد الناس رشدهم، إما بالتحول إلى الخرافات فهي العاصم الوحيد من ماكنة الضغط التي يعني الاستسلام لها ضرباً من الجنون أيضاً، وكثيراً ما كان هناك شبان يحدثون أنفسهم، أو يضحكون بلا سبب، وعدد الذين يتعاطون العلاجات النفسية والعصبية آخذ بالتزايد، وهناك من يمثل إصابته بالأمراض، أو العوق لكي ينجو أو ليخفف من الضغط النفسي، وهناك من يعيش في الخيال محلقاً فوق الغيوم، يخلق لنفسه عالماً خاصاً غير قادر على بلوغه بالوسائل الطبيعية أو الواقعية، فيعمد إلى صناعة أجنحة من ريش يلصقها بعناية ويثبتها على أكتافه ليحلق كلما وضع رأسه على الوسادة، وبعضهم يتمادي في التحليق الخيالي فيمارس ذلك صاحياً، والقدر وحده يعرف متى تذيب أشعة الشمس الريش الملصق ببعضه فيهوى إلى اليم كما هوى إيكاروس في محاولته الخلاص من الواقع.

أدرك سليم أن هذا أمر لا يشبه الكذب بلونيه: الأبيض والأسود، هذا تحليق مجاني في عالم لم يبلغه إنسان، فيبلغه بطيران خرافي، يلجأ فيه  إلى اختراع القصص، الأفلام والروايات، وأخبار يسمعها من هنا وهناك، فستحيل في ذاكرته ألماً مبرحاً، يفرج عن نفسه بالحديث الخيالي ... أنه ضرب من الرسم فنتازيا

واصل السباحة سيد سليم .... ليس لك سوى أن تواصل .. ليس لك سوى أن تحاول أبقاء رأسك فوق سطح الماء .. عيب عليك أن تنهار أو تغرق، قد يلحقون بك بعض الأضرار، ولكنهم لن يهزموك .. كانت جملة همنغواي لا تفارق ذاكرة سليم، قد يهزم الإنسان لكنه لا يتحطم ... ولكن سليم كان قد عزم أن لا يهزم ...

وقصيدة البحر لرامبو ....إليك أيها القارئ العزيز قصيدة البحر لرامبو

قصيدة البحر / رامبو

عندما هبطت مع الأنهار العصبية
أحسست أن ملاحي قد تخلوا عني
كان ذو الجلود الحمراء قد سددوا حرابهم إليهم
وسمروهم وهم يصرخون عرايا إلى الأوتاد الملونة

لم يعنيني أمر البحارة أجمعين
ولا أن كنت أحمل الفلمنك أو قطن الإنكليز
فلما أنتهي الضجيج وقضي على الملاحين
تركت الأمواج تسوقني إلى حيث تشاء

كنت في هدير المد والجزر المخيف طوال الشتاء
أشد تصميماً من أدمغة الأطفال... أجري وأطير
أشباه الجزر المقفلة في صخب الأعاصير
لم تعرف في حياتها أروع من هذا الفناء ...

العاصفة باركت صحوي في البحار
أخف من سدادة رحت أرقص فوق الأمواج
التي تدحرج كما يقال ضحاياها إلى الأبد
عشر ليال غير آسف على وهج المصابيح السخيف
أعذب من لحم التفاح النيئ في أفواه الأطفال
غمرني الماء الأخضر وغسيل النبيذ الأزرق
وبقايا البصاق من هيكل قاربي الصنوبري
وأنتزع من يدي الدفة والمرساة
رحت منذ ذلك الحين أستحم في قصيدة البحر
التي تومض بالنجوم وتفور كاللبن
وأبلغ السماوات الخضر التي يحدث في بعض الأحيان
أن يحصل فيها غريق، ووجهه شارد
وشاحب وخذلان
وحيث يحدث فجأة تحت وهج النهار
أن تصبغ الفضاء الأزرق بنشوة وأهازيج
أقوى من الخمر وأعمق من أي قيثار

ورحت اسبح بينما كان ينساب من حبالي الهشة
بعض غريق يغوص في النوم ورأسه إلى الوراء

وها أنا ذا سفينة ضائعة تحت ضفائر الخلجان
طوح بي الإعصار في أثير خال من الطيور
أنا الذي كانت المدمرات ولا سفن الهانزا
لتنتشل أشلائي السكرى بالماء

وأدخن وأخرج من خلال الضباب البنفسجي
أنا الذي رحت أشق السماء المحمرة كالجدار
أنا الذي رحت أجري وقد تناثرت على الأسماك الكريهة
كلوح مجنون تحف به أفراس البحر السوداء
رأيت الأرخبيل المتلألئ بالنجوم
وشاهدت الجزر التي يتلألأ فيها وهج
السماء الرحبة للملاح

أتنام منفياً في مثل هذه الليالي التي لا يسبر لها غور
يا ملايين الطيور الذهبية ... يا قوة المستقبل
لكني بكيت كثيراً ...
أنوار الفجر جارحة
كل الأقمار قاسية ... وكل شمس عذاب

نفحنى الحب المرير حتى أصابتني النشوة بالجنون
آه فلتنكسر يا قاع سفينتي
آه فليغمرني البحر
إن كنت لا أزال أشتهي من أوربا ما
فهو المستنقع المظلم البارد الذي يلقى فيه
طفل محنى عند الغسق يفيض قلبه بالحزن والشقاء
قارباً رقيقاً مثل فراشة الربيع

أيتها الأمواج بعد أن استحممت بأشواقك الفاترة
ما عدت أستطيع أن أمنع ناقلي القطن من الرحيل
ولا أجوس في غور الأعلام والمشاعل
ولا أن اسبح تحت العيون المفزعة.

سليم ... أسمع .. لا ينبغي لك أن تموت على الفراش ... لك أيام وليال مقبلة في الحرية ... لا تمت

سليم سوف لن يموت، سيواصل الحياة .. سيواصل السباحة حتى يبلغ الشاطئ، ويعانق الرمل الندي، ويتلذذ بملوحة مياه البحر .. سيجعل من جسده زورقاً ويداه مجذافان .. يسير الهوينا دون خوف أو وجل .. صافح الموت مراراً، موقناً أنها ساعة الاحتضار، ولكنه كان يرى عيوناً ترقبه من بعيد، أياد تمتد إليه عبر السحب، أصواتاً تناديه في أذنه .... عبر الغيبوبة .....

ـ سليم .. سليم .. دكتور سليم ..... هيا أجبني .. أبقى معي .. أجبني  .. سليم

فتح عينيه، كان متعباً، لا يستطيع التفوه بكلمة واحدة، فهم ببقايا وعيه، أنه كان في إغماءة استغرقت وقتاً صعباً .. أحدهم مرر قطعة قماش مبللة بماء بارد على شفتيه وعلى جبينه .. أستطاع أن يتبينه، كان وسام .....

ـ سوف لن يموت ... سيعيش ..

هكذا سمع الطبيب يتحدث همساً لمساعده ..................

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

816 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع