د. علي محمد فخرو
لا يوجد في هذه اللحظة التاريخية العربية حقل يفوق في أهمية وضرورة مواجهة إشكالاته بحلول جماعية جريئة حاسمة، أكثر من حقل التراث الفقهي الإسلامي.
إن عدم حل تلك الإشكالات التي تراكمت عبر القرون لن يؤثُر فقط على مكانة الدين وسيرورته في المستقبل، وإنما ستكون له انعكاساته السلبية على كل محاولات إخراج الوطن العربي من تخلفه وعجزه وصراعاته العبثية، ليصبح وطنا قابلا لممارسة قيم ومنجزات الحداثة، ابتداء بمتطلبات الحرية الإنسانية المسؤولة كقاعدة لكل حقوق الإنسان الأخرى، مرورا بممـــارسة العقلانية العلمية الناضجة المتوازنة في حل مشاكله وتخطيط مستقبله، وانتهاء بالوصول إلى المجتمع الديمقراطي العادل في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
فإذا أضفنا إلى ذلك جنون الممارسات الهمجية الجهادية التكفيرية من قبل «داعش» و»النصرة» وأخواتهما في طول وعرض بلاد العرب باسم ذلك التراث الفقهي، أدركنا أهمية وحجم وعمق المجابهة المطلوبة، مواجهة جماعية مؤسساتية لا فردية، مواجهة شاملة لا جزئية، مواجهة جريئة لا مترددة، أي مواجهة وجودية.
إن اختلاف الفقهاء التاريخي فيما بينهم حول فهم نصوص القرآن وحول عدد وصحة الأحاديث النبوية وأساليب جمعها، وحول أصول الفقه وقواعد استنباطاته، منذ القرن الثاني الهجري إلى يومنا، هو دليل على وجود نواقص في بعض أسس الفقه، وعلى الحاجة لمراجعته الدورية الدائمة، وعلى محدودية فكر الفقهاء كبشر، وبالتالي على عدم قدسية وكمال ذلك التراث الفقهي.
من هنا جرت محاولات جادة فردية كثيرة عبر القرنين الماضيين، تحت شعارات مراجعة الفقه الإسلامي بكل مسمياته ومدارسه، وإصلاحه وتجديده ليكون قادراَ على المساهمة في الإجابة على التساؤلات التي تطرحها تغيرات العصور من جهة، وعلى الأسئلة التي تثيرها تلك التغيرات في عقل ووجدان المسلم القلق الضائع من جهة أخرى. ولم تكن تلك المحاولات مقتصرة على بعض علماء الفقه، بل امتدت لتشمل الكثير من الكتاب والمفكرين من ذوي الخلفية في شتى العلوم الاجتماعية والفلسفية وحتى التخصصات العلمية البحتة. ولما كان ذلك الفقه يقبع في قلب الثقافة المجتمعية العربية، بتأثيراته المباشرة وغير المباشرة، وبانعكاس بعض إشكالات قراءاته واستنتاجاته سلبا على السلوكيات والقيم الثقافية، وعلى محاولات بناء حياة مجتمعية عقلانية ديمقراطية متحررة من الطائفية وصراعات التاريخ العبثية، فإن موضوع إصلاحه وتجديده لا ينحصر في فضاء الدين فقط، وإنما يتعداه إلى كل الفضاءات الحياتية الأخرى.
الأمثلة كثيرة، فالمرأة العربية التي أصبحت تكون النسبة الأكبر من طلبة وخريجي الجامعات العربية، وبالتالي تدخل بسرعة مذهلة في عالم المهن والوظائف والمراكز القيادية، وتقترب من أن تكون مستقلة اقتصاديا وماليا ومكانة في العائلة والمجتمع، لا يجوز أن تحكمها قراءات فقهية ماضوية، وضعت في حينها لامرأة جاهلة قابعة في بيتها قليلة الخبرة الحياتية، ومعتمدة في معيشتها على ما تجود به اريحية زوجها. إن الجزء الأعظم من فقه المرأة إذن يحتاج إلى مراجعة وتجديد، بل وتثوير.
إن الحاجة لمثل تلك المراجعة والتجديد تنطبق على مواضيع لا حصر لها ولا عد، من مثل معاني الجهاد وحدوده وسوء فهمه، أو تقنين عصري لشروط إقامة الحدود، أو تجديد لمعاني الردة الملتبس وحرية الاعتقاد، أو تعريف عصري لوظائف المسجد، لتكون مرتبطة بحاجات الناس اليومية، أو إنهاء الجدل العقيم حول معاني الشورى والتعددية وحرية التعبير وولاية الفقيه، وعدم تعارضها مع المبادئ الديمقراطية، بل وسد النواقص الكثيرة في فقه السياسة، وعلى الأخص بالنسبة لحقوق الإنسان والدولة المدنية وعلاقة الدين ورجال الدين بالسياسة، والإجابة على مئات الأسئلة المتعلقة بالاقتصاد والمال والتأمين والفنون، والاكتشافات الهائلة في العلوم البيولوجية والصحية والفضائية.
ويرتبط بموضوع الفقه موضوع الجدال الذي لا ينتهي حول تاريخ الأحاديث النبوية وطرق جمعها وما دس فيها وما وضع منها لتبريرات سياسية، وما في كتب جامعيها من أحاديث لا تنسجم مع النصوص القرآنية ولا مع السيرة النبوية، ولا مع المنطق والعقل. وهي الأحاديث نفسها التي يستعملها التكفيريون لتبرير همجيتهم، وينشرها بعض الدعاة والوعاظ من الجهلة الانتهازيين والمرتشين، بينما هي لا تليق بعدالة وأخلاقية وثورية الرسالة السماوية ولا بنبيَها، وإنما تؤدي إلى تكوين عقلية خرافية تتسلَى بالقشور والبلادات والهوامش.
والسؤال: من الذي سيقوم بالمهمتين لإخراج الثقافة العربية من محنتها؟
إذ لا يمكن الاعتماد على جهود هذا الباحث أو ذاك الفقيه أو المفكر، فهي جهود فردية يظل تأثيرها في حلقة صغيرة من القراء والمثقفين، بينما تبقى الملايين من العرب تعيش في كنف تأثيرات تلك الإشكالات والنواقص على عقلها الجمعي وعلى سلوكياتها اليومية وعلى انعدام فاعليتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والجواب هو أنه آن الأوان لقيام مؤسسات مجتمعية، مستقلة عن تأثيرات السلطات السياسية والسلطات الفقهية الرسمية، أو ذات المصالح النفعية الضيقة، مدعومة وممولة من قبل قوى المجتمعات المدنية، تضمُ علماء الفقه المستنيرين، غير الملوثين بالسياسة والمال والسلطة، وعلماء العلوم الاجتماعية الإنسانية والتاريخية والفلسفية والعلوم الطبيعية والبيولوجية وباحثين متفرغين، من أجل القيام بتكوين تيار فقهي علمي مستنير يتخطى نواقص الماضي ويبني فقها لا يشوه ثقافة الأمة من جهة، ولا يقف حجر عثرة في وجه وحدتها ومشاريع نهوضها ومحاولات بناء حداثتها الذاتية القادرة على التفاعل الندي الإبداعي مع حداثات الآخرين من جهة اخرى.
جهود الماضي المقدرة في علوم الفقه والحديث تحتاج إلى جهود مراجعة وتنقيح وتثوير وتحديث من أجل الحاضر والإعداد للمستقبل. إنها مهمة تاريخية وجودية.
٭ كاتب بحريني
1030 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع