أ.د. محمد الدعمي
لا يبدو عبء تراث تركيا العثمانية لينته عند حد، مع إشارة خاصة إلى دوافعه الكامنة التي تضرب بجذورها في عمق التنافس الإيراني/التركي/ القديم على العراق.
بينما قدم الترك أنفسهم حماة للعراقيين السنة ولمراقدهم المقدسة، قابل الإيرانيون ذلك باداعاءت مماثلة، بل وأكثر إصراراً على ذات الأفكار، مع إشارة خاصة إلى الغالبية السكانية الشيعية في العراق.”
على الرغم من إغلاق فصل الصراع العراقي التركي على عائدية الموصل من تاريخ العراق، حافظت ولاية الموصل على أهميتها بالنسبة للجمهورية التركية التي تفتقر للنفط، خاصة على سنوات الاستكشاف والإنتاج من حقول «بابا كركر» وكركوك التي بقيت تجهز العراق بأهم وارداته النقدية.
وللمرء أن يلاحظ، في هذا السياق، أن أهمية إقليم الموصل قفزت الى أعلى الأولويات بسرعة متناهية مع تصاعد وتيرة الثورة الكردية في الدولتين، خاصة بعدما راحت «كردستان العراق» تتيح ملجأً آمناً لمقاتلي حزب العمال الكردي PKKالثائرين ضد الحكومة التركية؛ والعكس صحيح، حيث راح مقاتلو «البيشمركة» من كرد العراق، خاصة على سنوات نظام البعث في العراق، يستثمرون حماية الحدود الدولية التركية التي لم تكن تسمح للقوات العراقية باجتيازها كي تطارد «البيشمركة». وإذا ما استنفدت حرب العصابات الحكومتين التركية والعراقية لعقود من السنين، فإنهما سرعان ما اتفقتا، خفية، على صيغة تعاونية تسمح للجيشين، العراقي والتركي، بعبور الحدود بشكل مؤقت ومحدود من آن لآخر، مبررين هذه الخروقات، المتفق على إجازتها، بعمليات مطاردة المتمردين الكرد الذين كانوا يستثمرون قدرتهم على الحركة السريعة لتنفيذ ضربات مسلحة موجعة، نوع «اضرب واهرب» بذكاء ملحوظ، الأمر الذي ابقى على جذوة التمرد الكردي متقدة لعقود.
وبعد أن تأكد المقاتلون الكرد الأشداء من عدم إمكانية أي جيش تقليدي ضبط المثلث الجبلي الوعر التركي/العراقي/الإيراني، الكائن بين حدود هذه الدول الثلاث، عمدوا إلى استغلاله تكتيكيًّا إلى أقصى حد ممكن في سبيل إدامة وتقوية هجمات حرب العصابات على المواقع العسكرية الحكومية المكلفة بضبط المنطقة الجبلية وبلجم الحركات الكردية المسلحة.
ولكن زيادة على اعتباري النفط والمشكلة الكردية الرئيسين في تشكيل سياسة تركيا تجاه العراق، يمكن إضافة اعتبارات أخرى على مسببات تفضيل تركيا لعراق لا مركزي معزول الأقاليم، ومن أهم هذه الاعتبارات تنبغي الإشارة إلى الأقلية الإثنية التركمانية التي تقطن غالبيتها إقليم كركوك الغني بالنفط، علماً بأن هذه الأقلية يمكن أن تطالب بالحماية التركية في أي وقت تشعر فيه بخطر وجودي يهددها، خاصة في سياق تنافسها مع الكرد على إقليم كركوك الغني بالنفط.
لا يبدو عبء تراث تركيا العثمانية لينته عند حد، مع إشارة خاصة إلى دوافعه الكامنة التي تضرب بجذورها في عمق التنافس الإيراني/التركي/ القديم على العراق.
بينما قدم الترك أنفسهم حماة للعراقيين السنة ولمراقدهم المقدسة، قابل الإيرانيون ذلك باداعاءت مماثلة، بل وأكثر إصراراً على ذات الأفكار، مع إشارة خاصة إلى الغالبية السكانية الشيعية في العراق.
وتأسيساً على ما سبق التطرق إليه من اعتبارات، يتأكد المرء أنه ليس من صالح الحكومات التركية المتعاقبة عامة الاعتراض على عزل أقاليم العراق عن بعضها البعض مبدئيًّا، خاصة وأن خطوة من هذا القبيل يمكن أن تجهز أنقرة بمدخل مباشر ومؤثر إلى الإقليم الغني بالنفط أعلاه، مستذكرة التمرد الكردي المتواصل ووجود الأقلية التركمانية هناك، أي في «قلب الظلام»، عبر شمال العراق.
أما الآن، فتضطلع الحكومة التركية بالضغط على العراق عبر عدة وسائل، ومنها تحديد و»حصحصة» كميات المياه الجارية إلى العراق من نهري دجلة والفرات وروافدهما، بضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى ترنو، في نهاية المطاف، إلى تحقيق حلم مقايضة الماء بالنفط، وحسب صيغة «برميل ماء مقابل برميل نفط».
أما دخول القوات التركية الموصل قبل بضعة ايام، فإنه ينذر ببث الحياة في واحد من أخطر صراعات الشرق الأوسط الكامنة.
936 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع