عصام شرتح
ما من شك في أن دراسة البنى الدالة في أية قصيدة يعني دراسة الوحدات اللغوية الفاعلة في تحريض الشعرية، ومما لايدع مجالاً للشك القول: إن البؤرالدالة هي المرتكزات الإبداعية التي تستند عليها حركة القصائد، في توجيه رؤاها ومدلولاتها النصية كافة،وبمقدار التفاعل الإبداعي الخلاق بين هذه البنى تتحدد مثيرات الشعرية وتتحدد قواها الرؤيوية الفاعلة، ولما كانت البنيات الفاعلة هي التي توجه حركة الدلالات، وتخلق المنتوج الرؤيوي للقصيدة،فإن مايفعلها ليس فقط حركة الدلالات، وإنما الكثافة الرؤيوية التي تبثها حركة الأنساق على المستوى النصي العام، وهدا يعني أن شعرية هذه البنى تنتقل من الجزء إلى الكل، ومن الكل إلى الجزء، بمفاعلة متداخلة بين الجانبين،ولما كانت البنى اللغوية هي الموجهة للحركة النصية على مستوى الجزء فإن إشعاعها الإبداعي المنعكس من هذه البنى ينعكس على هذه القوى ، ومن ثم ينعكس على المستوى النصي الكلي الذي تشكله القصيدة.
وإن دراسة البنى الدالة أو البنيات الدالة في أية قصيدة يعني دراسة الموجهات المحفزة لهذه البنى ومستوى فاعليتها في توجيه القوى الفاعلة في القصيدة بما يحقق لها الإثارة النصية، ولما كانت مستويات الإثارة متفاوتة من قصيدة لقصيدة ، ومن نسق شعري لآخر، فإن الموجهات الرؤيوية لهذه البنى متفاوتة كذلك ،وبمقدار فاعلية البنى ونشاط القوى الموجهة لهذه البنى بمقدار ما تزداد الفاعلية النصية ،ومن ثم مستويات الإثارة الشعرية وتعدد طبقات المعنى في القصيدة.
أهم البنى الدالة في قصيدة (أحوال الموريسكي):
تشكل قصيدة(أحوال الموريسكي) منعطفاً مهماً في مجموعة(من أوراق الموريسكي) لحميد سعيد،على صعيد البنى الدالة أوالفاعلة في تأسيس المنظورات الرؤيوية،والكشف عنها،لأنها تضع القارئ في صلب الرؤية الاغترابية والوجودية التي تحكم سيرورة الرؤى والدلالات في قصائد هذه المجموعة.
بمعنى أدق:إن قصيدة (أحوال الموريسكي) تضع القارئ في ذورة التلاحم بين( أحوال الموريسكي)،وأحوال الشاعر، فالشاعر يبحث عن زمنه المثالي ومدينته المثالية كما قلنا، والموريسكي يبحث عن مجده القديم ،ومدينته الفاضلة، فكلا الشاعرين يبحثان عن عالم آخر، ووجود جديد يعيد زهوَ ماكان،أو مجداً قديماً مستعاداً، وقد سبق أن أشرنا أن قصائد (الموريسكي) هي في صميمها وبناها الدالة تدخل ضمن نطاق (رثاء المدن)و( رثاء الزمن الضائع)، وتضيف هذه القصيدة إلى هذين البعدين بعداً آخر هو رثاء وجود الشاعر بكليته:( رثاءالذات، والوطن، والتاريخ، والحضارة، والإنسان المثالي، والعالم الحر)،إنها ترثي وجوده الحر في زمن يعيد له بريق الأحلام،لا وجوده المستباح والمستبى و وزمنه المنفي، أو الضائع أو المزوَّر،باختصار، إن هذه القصيدة تضع القارئ على المحطات الرؤيوية كلها التي تثيرها قصائد المجموعة، لتدلل على واقع اغترابي جريح يتماهى مع كل مرتكسات الوجود وتداعياته المؤلمة.
والقصيدة على ما يبدو من إشارتها النصية الأولى،أي العتبة العنوانية(أحوال الموريسكي)، تضع القارئ في مواجهة رؤى عميقة، ودلالات متنوعة، وتساؤلات مفتوحة على كل الاحتمالات، ماهي هذه الأحوال؟ وهل هي أحوال فرد أم جماعة؟ وهل هي رهينة شخصيته المرمزة أم شخصيته المقنعة؟ وماوجه الغرابة أو الاختلاف في هذه الأحوال؟ و هل هذه الأحوال منطلقها ذاتي أم موضوعي؟ وهل مضمونها فردي ذاتي أم كوني شمولي؟ هل تتجاوز الذات إلى الآخر؟ ومن الآخر إلى مساءلة الكون والوجود؟... إن كل هذه الأسئلة تدخل القارئ في صلب مضمون القصيدة وتضعه في جوهرها الرؤيوي، ولعل أول ماتطرحه هذه الأحوال هو:
1- البحث عن الذات /والآخر
إن أ كثر ما يعانيه المغترب البحث عن هويته الوجودية، أو البحث عن الذات، وهذا البحث هو الذي يفتح بوابة الفكر الفلسفي الوجودي، أوالفكر التأملي أو النظرة الكونية الوجودية الشاملة، هذا ما نستدل عليه من فاتحتها الاستهلالية:
حيثُ لا اسم لي..
كنتُ أبحثُ عَنّي
وعمّن أكادُ أُضيِّعُها.. بعدَ أنْ ضَيَّعتني
وعن أَثرٍ .. لاحَ لي أو توهمتهُ..
وعَثرتُ بما كنتُ أَحسبهُ ظلّها..
فَجفتني
حيثُ لا اسم لي..
سأُقيمُ بلاداً كما في الأساطيرِ
أُخرجُها من فضاءاتِ ما كانَ..
أُطلِقُها..
فتكونُ بَيني وبَيني"(من أوراق الموريسكي ص88).
إن البحث عن الذات هو لإثبات وجوده، وذاته الممحوة بالفقد والغياب(حيث لا اسم لي/ كنت أبحثُ عني)،وكأن بحث الشاعر عن ذاته ،هو بحث عن بلاده، وهويته الوجودية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن قصيدة(أحوال الموريسكي) قصيدة بث و شكوى واضحة لأحواله ووجوده المأزوم،فهو يطرح الرؤى، ويوحي بهذه الأحوال،معبراً عن ذاته المغتربة،إن بحث(الموريسكي) ليس فقط عن وطن واسم وبلاد ووجود جديد،إنه بحث عن ذاته المغتربة ورؤاه العميقة، وهنا تكمن تكمن حرقة الاغتراب أن تتلاشى الذات، ويتلاشى وجودها الفاعل.
والملا حظ أن الشاعر يبث من خلال شخصية( الموريسكي)أحواله المؤلمة وواقعه المأزوم، ويعكس من خلال هذه الشخصية، كل أشكال الاغتراب، والأسى ،والمرارة والاحتراق.ولهذا جسد ذلك في تسأولاته الكثيرة، وحواره مع هذه الشخصية،واستحضارها والحديث،إليها، وهو في الحقيقة يتحدث عن ذاته المغتربة، وتساؤلاته المستفزة للنبض الشعوري الباطني،والمفضية إلى شكوى، وأنين، واغتراب،ممض يجرح الذات، ويشظي آلامها، كما في قوله:
حيثُ لا إسم لي..
رحلَ النَحلُ
واعتزَلَ النَخْلُ
واستوطَنَتْ في البلادِ الضِباعْ
كُلُّ شيءِ يُباعْ
. . . . . .
. . . . . .
كُلُّ شيءِ يُباعْ
أَقراطُ شبعاد.. حُقُ الذرور.. مِرآتُها..
وغُلالاتُها وعَباءاتُها..
عُرِضَتْ حيثُ تفتحُ أسواقَها .. قَينُقاعْ"(من أوراق الموريسكي ص 90).
هنا، يبث الشاعر أحوال الموريسكي ليحكي حاله، وواقعه،مشبهاً ذاته، ووطنه،
بالبحر حنواً واحتواءً، فوطنه غني بالثروات والحضارة والتاريخ،وهو موطن الحضارة والتاريخ والفكر، لقد كان يفيض على الآخرين بالعطايا والثروات، أما الآن فقد أصبح عاجزاً عن القيام بأعباء نفسه، وألقت به موجات الزمن إلى التصحر واليباس والعقم والخراب .
إن الشاعر يحكي واقعه، ويبكي ذاته من الداخل، ويبكي حضارة العراق الآفلة من الأعماق،وقد سبق أن أشرنا:إن ارتباط شخصية الشاعر بالموريسكي،هو ارتباط وجودي،وهذا دليل:"فالإنسان لا يحتاج إلى مساحة فيزيقية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره، وتتأصل فيها هويته، ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكلَ الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها " الأنا" صورتها، فاختيار المكان وتهيئته يمثلان جزءاً من بناء الشخصية "(شعرية المكان، جمال الدين ، حافظ محمد،ص62).
والشاعرلا يلتصق بالشخصية الموريسكية التصاق مؤانسة أومناوشة دعابية لحدث ساخر أو رؤية تعروية كاشفة ، وإنما ارتباط موقف وهوية وجود ،وواقع مأزوم، باختصار، يرتبط بالشخصية الموريسكية ارتباطاً وجودياً كونياً كما أشرنا، ليس فقط ارتباط طقوس وأجواء وحالات، ورؤى سطحية، أو رؤى اغترابية شعورية هشة، إنه ارتباط شخصية، وموقف، وتماهي عوالم ورؤى واصطراعات داخلية مأزومة، يبث من خلالها كل ما يجول في خاطره من رؤى ومؤثرات، ولحظات مؤلمة تجسدت في الحنين إلى الأمكنة، وتقديسها كما أشرنا؛ تقوده رغبة عارمة إلى الخلاص والتجاوز والانعتاق من زمنه المؤلم، ليستعيد زمنه الماضي
المشرق، بكل فاعيته ومظاهره المثالية، وهذا ما نستدل عليه من قوله:
"
قالَ لي..
بعدَ أنْ، سرقَتْ ريحُها.. كُلَّ ما خبّأته رياحي
لماذا سأشكو؟
ولِمنْ ؟
أَتُصَدّقني.. إنْ قصصتُ عليكَ رؤيايَ..
إذْ جاءني البحرُ يسألني عن مياهٍ.. ليغسلَ قمصانَهُ
وعن فندقٍ رخيصٍ..
وعن مطعمٍ يتغاضى أصحابُهُ .. حينَ لاأستطيعُ دفعَ حسابي
أَتُصَدّقني ؟!
فَتَخَيَّلتُ بحراً فقيراً..
تَجيءُ به موجةٌ متصابيةُ..وتَحُطُّ به في اليبابِ"(من أوراق الموريسكي ص90).
إن القارئ يلحظ عمق المفارقة بين ماضي العراق العريق، وواقعه الحالي الهش، وهذا دليل أن رغبة الشاعر عارمةإلى إحياء التراث العراقي ومصدر خصوبته وغناه. ومن أجل ذلك يتمسك بكل ماهو خصب وجميل في عالمه الوجودي مسترجعاً ذكراه وخصوبته الوجودية.
2-استعادة الأزمنة الموريسكية الخصبة:
إن من يدقق في قصيدته( أحوال الموريسكي) يلحظ أن العلامة الرؤيوية الفارقة في هذه القصيدة ، وقصائدالمجموعة كلها هي الرغبة الجارفة إلى استعادة الأزمنة الموريسكية الخصبة، دون أن تغيب مظاهر الشوق والحنين إلى الأمكنة،ومظهر خصوبتها وشجاها الروحي، خاصة باسترجاع الأماكن التي تربطه ببيته وحديقته وأحلامه الإبداعية السابقة ، وهذا ما نستدل عليه من قوله:
فاجَأَتني حديقةُ بيتي الذي كانَ..
إذْ تَبِعَتني إلى النومِ
ليس سوى حطبٍ في فراشي
أُجَمِّعُ ماكان من شجرٍ.. وثمارٍ..
كُلٌ يعودُ إلى حقلهِ
وأظلُّ وحيداً كما زهرة الصبار
إذ أكملَتْ نخلةُ الغريب أوراق هجرتِها..
وسترحَلُ..
حينَ تَمُرُّببستانِ أمِّ البنين.. وقد كانَ
لَنْ تجدَ البلَحَ الذَهَبيَّ المُتاحَ للعابرين..
لانخلةُ الغريبِ.. ولا.."(من أوراق الموريسكي ص 91).
إن كل جملة تتقطر أنساً ،وتوقاً،وحنيناً إلى الأمكنة؛فكل نخلة، وبستان، وزهرة،في أرض الوطن،تعيده إلى رحيق الذكرى والأمل في استعادة الزمن القديم، ولا نبالغ إذا قلنا:إن شعرية السرد الوصفي في هذه القصيدة تفوق شعرية الصورة ، وهذا يعني أن شعريتها تنبع من حساسية الرؤية، وقوة الحدث وموجهاته الرؤيوية والنفسية،ليس فقط من شعرية الملفوظ، مما يعني اكتنازها بالدلالات الرؤيوية ومصدر حراكها الشعوري،فالشاعر لا يحتفي فقط بإثارة المشاعر الاغترابية القلقة، وإنما يبرز مظاهر الشوق والحنين لالتقاط كل مظاهر الخصوبة والجمال في الفضاء المكاني العراقي.
وإن من يدقق في قصيدته(أحوال الموريسكي) يجد أن كل مقطع يشكل حالة، وكل حالة تشكل رؤية، وكل رؤية تشكل وجهاً اغترابياً جارحاً،تارة بالحنين إلى المكان، وتارة بالحنين إلى زمن الموريسكي الجميل، وتارة بالحنين إلى الآثار والأطلال الماضية، مؤكداً الخراب والدمار الذي آلت إليه، وتارة يعبر عن الطبيعة، ويرصد نضارتها في زمنها الجميل؛ وتارة يرثي ذاته ووجوده، وتارة يتطلع إلى أمل جديد ،
ووطن آخر،منتشياً بالخصوبة، والجمال والوداعة، وتارة يتطلع إلى الفضاء الوجودي مترقباً فجر الخلاص،إذاً؛ إن جملة أحوال ،ومؤثرات، وحالات، وطقوس شعورية، تعم مقاطع هذه القصيدة،وتشكل رؤيتها الجوهرية التي ستتضح شيئاً فشيئاً، لتقف على بؤرتها العميقة في مقطعها الأخير.
3-الرمز التجريدي:
إن شعرية أي رمز لا تتحقق إلا من البنى البؤرية التي تثيرالنشاط الرؤيوي في الأنساق الشعرية،وهذا يعني أن شعرية الرموز متفاوتة، ومستحدثاته الرؤيوية والفنية متفاوتة كذلك، وماينبغي التأكيد عليه أن البؤر الدالة بقدر ما تتفاعل على المستوى النصي تتفاعل الرموز ومستتبعاتها الشعورية.وتحقق منتوجها الفني، وهنا، تتحدد شعرية الرمز التجريدي من مستويات تفاعله في السياق، تزداد درجة شعريته بتلاحمه وتفاعله مع فضاء الرؤية ومؤثراتها المكثفة، كما في قوله:
"
في الصباح.. يُراقِبُني الهدهدُ الحذِرُ..
هلْ كانَ يَعْرِفُني؟!
وهل هو مَنْ كُنتُ حاولتُ.. إذْ كُنتُ طِفلاً..
أَنْ يُشاركني فطوريَ ؟!
أمْ من سُلالته ؟
وهل كنتُ طفلاً؟
تَمَنَّيتُ لو تعلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شيئاً..
لَحدَّثَني عن بساتينَ بِيضٍ .. عَلَقْتُ بها
ونساءٍ..
مازلتُ أَذكُرُ مَكْرَ انزياحِ العَباءاتِ..
عَمّأ يُخبِّئن من ثمرٍ ناضجٍ .. بانتظار القَطافْ"(من أوراق الموريسكي ص92).
ما ينبغي الإشارة إليه: أن الشاعر في هذه القصيدة،يعتمد الرمز التجريدي، في تبئير الدور الرؤيوي لشخصية الموريسكي ،ليوهم القارئ بانفصاله عنها وانفرادها برؤيتها الخاصة، ومنظوراتها الاختلافية ،فالشاعر في قصيدة(أحوال الموريسكي) يتحد في شخصية الموريسكي لدرجة الاندماج والالتصاق، أحياناً، وينفصل عنها في بعض الأحيان،ليدمج طقسه الروحي بطقسها ووجوده بوجودها، وأحياناً يفرد الموريسكي في طقسه الوجودي،لتكون هذه الشخصية ليست مجرد لصوق اسمي، وإنما حالة من التلاقح والتفاعل بين الشاعر والموريسكي، بتفاعل رؤى، وتلاقح أفكار، وتلاحم مشاعر وأحاسيس،فما يحسه(الموريسكي) في باطنه ويعيه، ويشعر به،يحسه الشاعركذلك ، ويعيه،وكأنه الموريسكي ذاته لاينفصل عنه إطلاقاً،ودليلنا أن الشاعر في هذا المقطع يعتمد الرمز التجريدي،ليفرد الموريسكي في طقسه وجوه النفسي، متذكراً الطبيعة التي عاشها بما في ذلك الطبيعتين[الحية/والصامتة]،ليجعلها منطلقه الوجودي في إثبات الذات؛ وتأكيد هويته الوجودية؛ وهو-بذلك-يحاول أن يدمج التراث العراقي، وجمال الأنوثة العراقية،في زيها التراثي، وحراكها الجمالي،بمنظور رؤيوي كاشف عن زمنه الجميل وأيامه المشرقة.
والملاحظ أن صرخته الوجودية تعلوفي(أحوال الموريسكي) لا لتجسد زمنه وتاريخه ووجوده فحسب، وإنما لتهيئ لزمنها القادم، ورؤيتها المستقبلية، فمسحة الكأبة واليأس،والاغتراب التي تبثها أحوال الموريسكي، لاتكرس زمناً مأساوياً مقيداً، وإنما تفتح آفاق الرؤى لتحثث ما هو قادم،صحيح أن أنة الشكوى والتباكي الصريحة تختفي في ثنايا هذه الأحوال، التي تشي بها القصيدة،لكنها ساكنة في الفضاءات البصرية والنفسية والروحيةالتي تبثها حركة هذه القصائد.
ولا نجافي الحقيقة إذ نقول:
لقد أثار الشاعر في(أحوال الموريسكي) تاريخاً حافلاً من المعاناة في ثنايا القصائد،تتمثل في بث رموز الجدب، والفقر، والهشاشة، والخراب، والدمار، ناهيك
عن آثار ذلك على فضاءات القصائد الموريسكية، من تراكم، الفواصل ،والفراغات، والنقط، دلالة على الحسرة، وفداحة المعاناة، وقسوتها على ذات الشاعر،ولهذايندمج الشاعر في الفضاءات البغدادية، محفزاً رؤاها ومداليل عميقة،كما في قوله:
"لأقُل.. إنّني تَعَلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شَيئاً..
ولأقُلْ.. إنَّ هذا الهدهدَ الذي يُراقِبُني..
هو مَنْ كُنتُ حاولتُ أنْ يُشاركني فطوري..
إذْ كُنتُ طفلاً..
أتساءَلُ.. هلْ كُنتُ طفلاً ؟!
وأسألهُ أَيُهذا المُتَّوَجُ بالسحرِ.. ماذا لديك؟
وعَمَّن تُحدثني؟
أَجئتَ تُشاركُني جَليدَ مُعتَزَلي..
أَمْ حرائقَ أسئلتي ؟
وأنا في هذه المدينةِ.. لستُ الذي عَرفتَ من قبلُ..
قُلْ لي.. لماذا تُراقبُني ؟!"(من أوراق الموريسكي ص93).
لابدَّ من الإشارة بداية، إلى أنه ثمة رغبة جامحة لدى الشاعر في تحريك الأحاسيس،والطبيعة بوصفها رموزاً أو شواخصَ تشهد معاناته أو معتزله الوجودي،وهنا لجأ الشاعرإلى الطيور بوصفها شواهدَ دالة على البراءة والصفاء والأنس الجمالي مقارنة بهمجية الإنسان وغطرسته وإجرامه، لهذا يريد من الطيور أن تؤنس وحشته،وتتوج وجوده المثالي، وشواخصه المثالية،خاصة في معتقله الاغترابي في مدينته المغتربة،وصخبهاالوجودي المنفر بالمتناقضات.
وإن من يمعن النظر في(أحوال الموريسكي) يجد أن طقسها الإبداعي،يحتفي بإثارة كل مشاعر الأسى المرير والاغتراب، والإقصاء الروحي، والخيبة المريرة،وأبرزالمشيرات إلى هذه الرؤى،الانقسام بين الماضي الحافل بالذكريات، والأحلام، والواقع المرير،المشتت،بالفوضى والضحالة والعقم والحرمان، وكل هذه
الرؤى والمشاعر تبثها هذه القصيدة.
4-الشغف بالطفولة واسترجاع لحظاتها:
إن من العلامات الرؤيوية الفارقة في قصيدة( أحوال الموريسكي) الشغف بالطفولة واسترجاع لحظاتها، وهو باسترجاعه لهذه اللحظات يسترجع تاريخه وذكرياته وأمجاده ووجوده، وما الطفولةإلا الجذر الوجودي الذي يلصقه بالمكان ، بعلاقة روحية لاتمحي أبد الدهر، والدليل الرؤيوي المرجعي على ذلك قوله:
"كانَ بي شَغَفٌ.. أَن أرى ما فوق وراءَ زُجاجِ الشبابيك..
لكنني كنتُ طفلاً..
ولمْ تَكُ في حيِّنا امرأةٌ.. تتلصَّصُ خلفَ زُجاج الشبابيك..
كنتُ أرى طفلةً أتخيّلها..
وأَشُمُّ عُطوراً سأعرفها بعد حين
وأغني لنفسي.. اَو أَتخيَّلُ أنّي أُغَنْي
ماذا أرى الآن؟
ما عادَ بي شغفٌ.. أن أرى ماوراءَ زجاج الشبابيك..
أَينَ الشبابيك.. قُلتُ سأبحثُ عنها..
فأوقفَني حجرٌ يتثاءبُ.. يتبعهُ حارسٌ صاخبٌ..
فَوقَفتْ"(من أوراق الموريسكي ص94).
إن رغبة الشاعر في استرجاع ذكرياته الطفولية يعيد نكهة قصائده
إلى الأجواء العراقية بما فيها من رموز مكانية،وشغف وحنين إلى كل موضع من مواضعها، وكل معلم من معالمها، سرعان ما يعيده إلى طفولته، وزمنه القديم .ومن يدقق في هذا المقطع، يلحظ انتقالاً واضحاً في الرؤى والدلالات،الملتصقة بزمن الطفولة،بالانتقال من صورة الطفولة الحالمة،إلى صورة الطفولة الذكرى، إلى صورة الطفولة الرمز، إلى صورةالمكان الحي،إلى صورة الشبابيك الخالية،والبيوت المنهارة،وهذه الرؤى البانورامية،تجسد حالة القلق والاغتراب والانهيار الداخلي والأسى الحارق،وهذه المشاعرترافقه مع كل لحظة ذكرى أو تأمل يسترجع فيها المكان، أو يذكر موضعاً من فضاءات الأجواء البغدادية المكانية واسترجاعها،لدرجة لم تفارق أي مقطع من قصائده، وهذا ما تكشف عنه مدونته التراثية في هذا المقطع:
"
< أسرعْ من الذيبْ
واخّف من الهوا العالي
أجيك حافي الجدمْ
يَمْعَذِّبْ أحوالي >
*أغنية عراقية قديمة*
كان ذلك في زمنٍ.. روّضت أغنياتُك فيه الذئاب..
وكُنتَ تُطيلُ السُرى
وتَعشَقُ ما لايُرى
تُغَنّي.. تُصَلّي .. وتبكي
وتجمَعُ بين الرياح الرضيةِ والعاصفهْ
قبلَ أَن تأزف الآزفهْ"(من أوراق الموريسكي ص95).
بادئ ذي بدء،نقول:إن استخدام التراث الشعبي العراقي من أغنية وأقوال وأمثال شعبية يفعِّل الرؤية الشعرية ، ويعزِّز وقعها الدلالي في نفس المتلقي،ذلك أن الأغنية ترتبط بالتراث العراقي، واللهجة العراقية، والشاعر أراد أن يعبر عن صدى عذابات الموريسكي بالعاصفة الهوجاء التي لاتبقي ولاتذر، وكأن ثورة داخلية تعتصره لاقتلاع كل جذور الفساد، والتفسخ، والانحلال في هذا الواقع، ليخلق واقعه الجديد.
والملاحظ –كما أشرنا- أن حميد سعيد يجد لذته في تمثل التراث، وامتصاصه بشفافية، ليربط بين الماضي والحاضر، والواقع والخيال، والحلم والحقيقة، منتشياً بشعرية البساطة، والعفوية، وهذه العفوية لاتعني ترك الكلام على سجيته، وإنما تعني اغتراف مافي الكلمة من رشاقة وحرارة ونبض شعوري دافق،باختصار، العفوية التي تنأى عن التسطيح والقول البسيط الساذج إلى القول المبئِّر للحدث أو المشهد الشعري.
وما ينبغي التأكيد عليه أن حميد سعيد في مقاطعه الأخيرة من قصيدته(أحوال الموريسكي) ينزع إلى التجريد، وتبئير الدلالة على غير عادته، فلا تكاد تتضح معالمها، نظراً إلى قوة تأثيرها ومدلولها العميق، وهذا مانلحظه،ابتداء من مقطعه(9) إلى مقطعها(12)، وهو المقطع الأخير:
"أَرَقُ أبيضٌ..يَتلاعَبُ بالعَتمَةِ التي كان فيها..
وبالضوءِ..
إذْ ظلَّ شبّاكُها المُضاءُ يَخطُفُ سحرَ المَساءْ
أنْ تكون بعيداً..
فَمن أَيِّ منفى..يَجيءُ القطارُ في آخر الليلِ
منْ أَيِّ منفى.. تُطِلُّ..
لمْ يرَها أَحَدٌ..
فَتَخَيَّلها شاعرٌ.. يموتُ إذا أطفأَتْ نورَ شُبّاكِها
أَرَقٌ أَبيضٌ.. يفتَحُ أَسوارَ عُزلتِهِ للبلادْ
ويمسحُ عن مفردات قصيدتهِ..
ما تَجَمَّعَ في وردة المُتداركِ.. بعدَ رَحيلِ أمطار فتنتِها..
منْ رَمادْ"(من أوراق الموريسكي ص96).
قبل الخوض غمار المقبوس الشعري لابد من تأكيد ملحوظة بغاية الأهمية، وهي:إن ثمة ملحوظة قد لا يدركها الكثيرون ممن خاضوا غمار قصائد هذا الديوان،ألا وهي :إن حميد سعيد في جدلياته الشعرية أو مفارقاته التشكيلية تخلق اقتضاءها الفني من بساطتها وعدم تكلفها، بمعنى أن السياق الشعري والمد الشعوري هو الذي يقتضيها ويتطلبها،ولذلك تجده يجمع في المقطع بين الأضداد،وهي:[العتمة/الضوء]،و [رماد/أمطار]،كرؤى وجودية تدخل ضمن محفزات القصيدة، وحركتها وتجريدها للرؤية في جو اغترابي ضبابي يشي بالتشظي الرؤيوي والاغتراب الوجودي،ولعل مايؤكد هذا النزوع لديه قوله:
"
ليسَ منْ شَبَهٍ.. بينَ ماهوَ فيهِ وماكان فيهْ
ليسَ مِنْ شَبَهٍ.. بينَ مَن كانَ أو مَنْ يكونْ
ليسَ مِنْ شَبَهٍ.. بين موتٍ هناك وموتٍ هنا..
ليسَ مِنْ شَبَهٍ..
بينَ ماتكتبُ الحقولُ.. وما يكتبُ الأفولُ..
كانَ يُشَبِّهُ ضحكَتَها بصباح حديقَتِها..
ليسَ ثَمَّةَ مما يكون شبيهاً بها..
فَبِماذا يُشَبهًهًا الآن؟
أَيُشَبِهُهُا بغياب العصافيرِ .. عن شَجَرٍ غائبٍ..
يتواطأُ..
ثُمَّ يُشبِهها بالغيابْ"(من أوراق الموريسكي ص97).
إن الاغتراب الوجودي يعكس تناقضات الرؤية،وتشظيها بين(الماضي/الحاضر)،وبين(ماهوكائن /وماسيكون)،بين(حضورالغياب/أم غياب الحضور)،وهذه الرؤى الاغترابية تعكس درجة من التأزم،والاغتراب،والنفي،فالشاعر يعكس بوعي فني مايصطرع في داخله عن طريق قلقلة اللغة، قلقلة المنظور الأحادي، وكسر الرؤية الأحادية،أوالرؤية الواقعية،إنه يحاول أن يتجاوز زجاج الذات،إلى أفق الروح، أن يكسر حاجز الغياب بالحضور، حضور المحبوبة بوصفها تمثل الوطن ، والتاريخ، ومحو غيابها. وهذا كله يحيلنا إلى رؤية واقعية تتمثل في رغبة الشاعر في كسر صخرة الاغتراب المرير ولو بالمحو والغياب.
وإن من يدقق في قصائده الموريسكية بعمق وأناة وروية،يدرك أن ثمة بحثاً فيها عن صورة الإنسان المعذب،المطارد الذي أرهقته رحى السنين، وألقت به في غياهب الأسى والوحشة والأنين.وصورة الإنسان المعذب في قصائده تتضح خيوطها بين الفينة والأخرى، من خلال الإحساس بالخراب الداخلي، وكأن شيئاً من الانكسار والتشظي يطال مرآة روحه ونبضه الشعوري، وما قصيدة(أحوال الموريسكي) في المحصلة إلا مدونة الإنسان المعذَّب الذي يبحث عن جذوره ووجوده فلا يجدها إلا مكسوة بالمحو والغياب، يبحث عن وطن وبلاد تأويه سرعان مايرتد رجاؤه خائباً منكسراً، يحلم بوطن حر لكنه يستيقظ على واقع أمر،يستحث الخطى للتغيير، فيقع في دائرة الركون والعقم والتحجرواليباب،إذاً في المحصلة إن أحوال الموريسكي هي أحوال الشاعر الذي عانى فرقة الوطن، وغربة الأهل، وغربة الروح،التي تجسدت في الحنين إلى الأمكنة،والحلم بالعودةإليها وتحثث أطلالها،والوقوف على كل ركن من أركانها واسترجاع ذكرياتها المشرقة، وخير مثال على ذلك قوله:
"لمْ أَكنْ خائفاً..
ولمْ أَكُ حين رحَلتُ.. نويتُ الرحيلَ..
قرأتُ في صحف الغُزاةِ .. فتاوى تُحَلِّلُ وأدَ الرياحْ
ورأيتُ أُناساً.. أًكانوا أُناساً؟! يبيعونَ ما لايُباع‘
وشَمَمتُ دماءً.. على صفحات كتاب الشذى .. خَلَّفتها الضِباع
لمْ أَكُنْ خائفاً..
غيرَ أنَّ عواءً بذيئاً.. تهدَّدَ صفو نشيدي
وخَشيتُ على حُلُمٍ في قصيدي
ولي وطنٌ باعهُ " الجلبيونَ " بالخرابِ..
فضِعْتُ وضُيِّعْتُ..
إذ ليسَ لي غيرهُ"(من أوراق الموريسكي ص98).
إن القارئ يلحظ النبرة الاغترابية المشبعة بالأسى والحرقة والضياع، ويدرك شدة المعاناة ، وحجم الضيق الوجودي الذي يعانيه الموريسكي،فالموريسكي هو ذات الشاعر المطاردة المعذبة، وصوته الجريح ، وإحساسه بالخراب والضياع على وطن قد بيع،وأناس رعاع،باعوا مالايباع،باعوا أوطانهم بأبخس الأثمان، وقبضوا
الأثمان خزياً وعاراً إلى يوم الدين، وهذا ما انعكس على صورة الموريسكي المعذبة التي لازمته، في هذه القصيدة،وكل قصائد المجموعة قاطبة؛بيد أن الشاعر أبى إلا أن يترك بصيص الأمل بالعودة وفجر الخلاص، ويستحث بريق الأمل وسط غمامات الأسى وزفرات الحنين المشتعلة إلى استرجاع زهوَ ماكان إلى الفضاءات العراقية،وخير مايمثل هذه الرؤى والأماني مجتمعة قول الشاعر:
"ذاتَ أندلسٍ..
سأُعيدُ إلى السهرةِ الغَجَريةِ ما ضاعَ من كهرمان المساءْ
وأُعيدُ إلى الطَلْعِ .. طَلْعَتَهُ
وإلى سفنِ الليلِ رَجْعَ الغِناءْ
وأَخُطُّ على الماءِ.. آخرَ ماكان عندي من القَولِ
ليسَ سوى الماء.. مَنْ سيعودُ إليَّ كما كانَ
يُشْرِكُني في ارتجال مواسمهِ
ويُشاركُني ما سأقرأ..
كُنّا معاً ذاتَ أندلسٍ..
فَهلاّ نكون معاً..
ذاتَ يوم ؟"(من أوراق الموريسكي ص99).
إن الشاعر هنا أراد أن يكسر حاجز الرؤى الاغترابية التي تكاد تكون جلية بخيوطها،وروافدها، وتشعباتها، ومنظوراتها،معلناً نظرته التفاؤلية،فكما يحن الموريسكي إلى استرجاع صورة الأندلس المشرقة الماضية ، فإن الشاعر يحاول استرجاع الأجواء البغدادية بأنسها وزهوها،ورجع مواويلها الشعبية القديمة،لعله يعيد إلى المياه ما كان فيها من مذاق عذب سلسبيل،ويعيد ذاك الزمن البهيج ونشوته التي كانت،في ذات يوم أندلسي أو عراقي بهيج، وهذا ما يأمله الموريسكي، ويتمناه الشاعر في صورته المعذبة وحلمه الجميل.
والملاحظ أن الشاعر في هذه القصيدة يضعنا في طقس إبداعي لا ينسى، طقس فيه من المغامرة والمجاذفة، والإحساس بالوجاعة، والحنين،الشيء الكثير، وفيه العودة إلى التراث والاحتفاء به،والحنين إليه كما حنينه لذكرياته وأيام طفولته وينابيعها الخصبة بالأنس والوداعة والجمال.وهذا يعني خصوبة المحتوى الرؤيوي والدلالي لهذه القصيدة.
نتائج بحثية
1-إن المفصل الرؤيوي الموجه لحركة القصيدة اعتمادها التنويع في الرؤى والدلالات المحرضة للشعرية، والكاشفة عن وقائع وجودية تثير المتلقي، منها: الحنين إلى الأماكن ، والحنين إلى الأزمنة الماضية، والاغتراب الوجودي، والنفي الذاتي، والاحتراق الشعوري.وهذه هي من أبرز المؤثرات التي تدفع النص الشعري إلى موجة التلقي النصي الفاعل.
2- إن المحرض الرؤيوي الفاعل في هذه القصيدة التفاعل الإبداعي الخلاق بين المعنى الشعري والمضمون الفكري للقصيدة، وهذا يعني تفاعل الروى والدلالات مع بعضها في بث الاغتراب الشعوري والحرقة الزمنية والمكانية؛ مما يحفز الشعرية في أوج محفزاتها ومدلولاتها النصية الكاشفة عن مدلولات عدة؛ ومداليل عديدة، وهذا ما يحسب لفضاء القصيدة الموريسكية.
988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع