د. ضرغام الدباغ
من قلب الأيام الألمانية الحزينة برؤية الأخوة والأشقاء من سورية والعراق من جميع الاتجاهات تفرقوا في الوطن وجمعهم المهجر في حالة لجوء لا تسر القلب والنظر، يهربون من الموت في البر إلى الموت في البحر، ومن الموت البحري إلى غيلان الفاشية في الدول التي يمرون بها، ويعاملون معاملة غير كريمة في الغالب، من دول أوربية متحضرة، ولكن هناك الكثير ممن لا يستطيع أن يتفهم لماذا يهجر إنسان بيته وعمله ومحيطة الذي يألفه، ولغة يتحدث بها يعبر عن أفراحه وأوجاعه، ويكتب الشعر بها، يغازل حبيبته، ووطن قاتل هو وأجداده دفاعاً عنها، لماذا يهجر كل ذلك ويقذف بنفسه في المجهول، ليعاني البؤس سنوات طويلة، ومهما حاول وفعل، فسوف لن يستطيع أن يفر من نفسه ... من جلده وظله.
في خضم هذه المشاعر أضاف عليها البرد وطأة بدرجات تقارب الصفر، تلقينا (10 / كانون الأول / 2015) دعوة لحضور حفل موسيقي (كونسرت) أقيم في صالة العرض في المجمع الطبي البرليني الشهير، مركز مكافحة السرطان: مستشفى الصليب الأحمر (DRK Kliniken Berlin). الحضور كان مع مجتمع النخبة في العاصمة الألمانية برلين من أساتذة وعلماء، وفنانين كبار، في قاعة لا يتجاوز عدد الكراسي فيها على المائة، ولم يكن عدد الحاضرين من العرب بزيد على السبعة وهم من المقيمين إقامة دائمية.
قدم مدير المجمع الطبي الكبير الدكتور فولفغانغ هارتمان الفرقة التي ستقدم مقطوعات موسيقية من ستة آلات هي : الفيولين (الكمان)، الكلارنيت، الأورغ، الكونتر باس، والباتري (Batterie) والعازفين قائد الفرقة على الكمان : الدكتور زاهر الحلواني (مدير قسم ورئيس الأطباء في جراحة السرطان)، والدكتور كنان العظمة (دكتور مهندس يقيم في الولايات المتحدة) وشاب سوري يعزف على الكونتر باس (والده سوري وأمه ألمانية) وإثنان من العازفين الألمان على الباتري والأورغ، ودهش الحضور بحجم الحضور العربي الفني الراقي، وعندما أبتدأ العزف ... تحولت الدهشة إلى انبهار، من جمهور ليس من السهولة إبهاره، موسيقى تحمل لنا الحزن السوري بدرجة يمكن تذوقها وأستنكاه عمقها الفني ثم ليتصاعد عزف الكلارنيت على إيقاع الباتري ليصيغ ملحمة عربية بكل أبعادها الفنية والحسية، بطعم أوربي حضاري راقي جداً يقطع الأنفاس انبهارا، وتعاطفاً، لتتلاحم وتتسامى إنسانية الإنسان مع أخيه الإنسان، في فهم عميق بالغ الوضوح على وجوه الشخصيات الحضور المنبهرين من عزف مواطنيين شرقيين / عرب، عزف بدرجة أستاذية، يأخذ المستمع ليبلغ أعلى درجات التلاحم، والعازفين يعزفون بذكاء يقدمون عملاً موسيقياً بطريقة تكون مفهومة لأوربي ألماني أولاً، ولمجتمع نخبة ثانياً، يحاول الفنان العربي أن يوصل معاناته بطريقة مفهومة ومقبولة وراقية، لا شكوى فيها ولا أنين، ولا نواح، بل عبر الفيولين والكلارنيت وسائر الأدوات الموسيقية، كان جهد الفانين كبير جداً تلوح على سيماء وجوههم رحلة العذاب للمواطن في الشرق، رغم أنهم يعيشون شخصياً الرفاهية في أوربا وأميركا، ولكن ماذا عن قلوبهم المعذبة في الوطن المعشوق لدرجة الوله... وتلك عبروا عنها موسيقياً ...
أبدع الفنانون العرب السوريون، الدكتور زاهر الحلواني الذي ولد بدمشق عام 1978 وبدأ بتعلم العزف منذ أن كان في الخامسة من عمره، ودرس الطب و كذلك الموسيقى كلية الفنون في دمشق، وأكمل تخصصه الطبي في ألمانيا، وفيما بعد أخبرني الدكتور الحلواني أن دراسته للموسيقى كانت على يد عراقي رائع عاش وعمل في وطنه الثاني سورية إنه صلحي الوادي.
الدكتور كنان العظمة، الذي ولد في دمشق، ودرس الهندسة الكهربائية في جامعتها ثم درس الموسيقى، ثم واصل دراسته للموسيقى في نيويورك / الولايات المتحدة، وأبدع ونال شهادات من كبار الفنانين والنقاد، وفي مداخلات قصيرة بين الفواصل، أخبرنا الدكتور كنان العظمة بطريقة مرحة عن عذاباته اللذيذة بوصفه لا يزال يحمل جواز السفر السوري رغم مرور 17 لأقامته في نيويورك بأميركا. وفي مقطوعته الأخيرة كان يعزف ثم توقف فجأة وبدأ يلحن من حنجرته تحايا إلى الوطن الجريح ... وبطريقة غير مألوفة في مناسبات كهذه، شارك الجمهور الراقي العازف بالصوت دون الكلمات ... وكانت من أروع ما يمكن أن يشاهده أو يسمعه إنسان.
سيدة بروفسورة في الطب، قالت لي بعد أن سمعت عملاً موسيقياً راقياً، أتساءل كيف يقتتل هذا الشعب، آخرون عبروا عن حزنهم أن يفرغ بلد في القرن الواحد والعشرون من فطاحله، آخرون أبدوا الأسف أن يحدث هذا في بلدان تنجب هكذا نوابغ، قلت لأحدهم في هذا المآل .... الأرض لا تموت ... فكما تبتلع الأرض الناس ... تلدهم مرة أخرى ... هي أسطورة شرقية وربما عالمية، ولكن شعوبنا وأوطاننا تعودت على الكوارث، وهي تخرج من كل إعصار أقوى مما كانت.
العمل الفني العربي أدى في تلك الأمسية مهمة أخرى، أثبت أن الناس يتفاعلون إنسانياً ويتلاحمون ضمن الأعمال الراقية، في الفن والأدب والعلم فيهي تلامس الإنسانية في عمقها، أين منها جراثيم العنصرية والطائفية فهي أوبئة صنو الجهل والتوحش، والهمجية، فهي نتاج التخلف، وعندما يتسيد هؤلاء المتخلفون الموقف، ينجم عن ذلك ما نراه ونشهده، من براكين وزلازل وأعاصير هي في الواقع تعبير عن رفض الحياة للتخلف والهمجية. وفي ختام الحفل كنت على يقين تام، أن الحضور تعاطف مع قضايانا، وأبدى التفهم، وأدرك أننا شعوب بوسعها أن تنتج أعمال راقية في إطار إنساني جميل .
لم يدر حديث في السياسة، إلا بصفة سطحية وعابرة بكلمات معدودة، اللقاء كان فنياً، وإنسانياً، وقد انغمسنا جميعاً في نور رائع، تشبعت به نفوسنا، فحلقنا في ذرى شاهقة جداً .... عبر الأثير، في الحضارة الإنسانية التي ترفض ظلم الإنسان للإنسان وتستهجنه وتدينه، وعندما انتهى الحفل الذي دام ثلاث ساعات، خرجنا إلى ليل برلين الثلجي فأستقبلنا بدرجة حرارة نحو الصفر، وعندما عاد كل إلى واقعه، كنت أنزف في داخلي مشاعراً حادة الأطراف ... العراق في داخلي .... العراق ... نعم هو العراق الذي يأبى أن يفارقني دقيقة واحدة ... فأنت أينما حللت في دمي يا عراق .... فتذكرت قصيدة " مسافة اليدين " لصديقي شريف الربيعي الشاعر الرائع العذب، الذي غادرنا مبكراً جداً وهو شاب وهو كان يعلم أني أحب هذه القصيدة، ولنا فيها قصة وذكريات مشتركة (من أيام 1971) هنا أنشرها لذكرى صديقي ...... الشاعر شريف الربيعي وهي بخط يده وقد احتفظت بها ...
مسافة اليدين
القصيدة مكتوبة
في دمشق 1971
رأيت في مسافة اليدين
حقائباً للجسد المسافر
رأيت كان الجسد السائر رمح العين
يدور حول النفي
كان النفي كوكبين
رأيت جيشاً ظافراً يحتضن الهزيمة
أقنعني القائد أن الهرب أنتصار
رأيت كانت مدن النعاس تستقبل العائد بالشتيمة
أسقطت فوق الجسد الرافض دمعتين
وأنت لو جئت مع الخراب
جمعت هذا الفرح المسفوح
لأمتلأ النعاس بالحنين
فأنت أينما حللت في دمي
يا لعنة تحمل للعذاب صخرتين
شريف
1 / 3 / 1975 برلين
2157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع