حول الفقر في العراق

                                                        

                             د.سعد عبد الرزاق حسين

كانت أحدى المهام المعلنة للأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم في العراق منذ خمسينيات القرن الماضي تحقيق التنمية الأجتماعية والاقتصادية، التي كان من المؤمل لو تمت بشكلها الصحيح، ان ترفع مستويات المواطن العراقي المعيشية والصحية والتعليمية والثقافية، إلا ان كل هذه الأمال باءت بالفشل نتيجة لمسلسلات الصراعات السياسية المتكررة.

حصلت بعض المنجزات لرفع شأن المواطن العراقي بعد ثورة تموز ١٩٥٨، وكذلك في فترة نهاية السبعينات نتيجة لإرتفاع موارد العراق النفطية.  وتتحمل كل النخب السياسية التي تعاقبت على حكم العراق منذ خمسينيات القرن الماضي نتائج هذا الفشل الذريع، الذي تحمل المواطن العادي أعبائه القاسية.  ورغم توفر العديد من الفرص الحقيقية خلال هذه الفترة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، إلا انها تبددت بهذا الشكل أو ذاك من قبل الأخطاء المميتة للفئات الحاكمة.  وإذا اعطى التاريخ مثل هذه الفرص في الماضي، فليس من المؤكد بأنه سيعطيها في المستقبل، ويقال بأن التاريخ لا يعيد نفسه، ولا يكرر الفرص التي يمنحها.  ولولا ان بلادنا غنية من جوانب عديدة لما شهدنا تعاقب الفرص التي جرى تبديدها من دون رادع او محاسبة للفئات المتربعة على حكم البلاد.  فهذا يبددها لأنه مشدوه بحبه للسلطة والحروب، وذاك لإغراءات الفساد والسرقة.

ليس هناك شك من أن التنمية الحقيقة لا تتحقق إلا من خلال تخطيط علمي ودؤوب، يراكم نجاحاته المختلفة ولا يستهان بها مهما كانت نتائجها صغيرة ومحدودة.  ورغم ان خطط التنمية هي من إختصاص الأقتصاديين أولاً، إلا ان تجارب العديد من البلدان التي حققت تنمية ناجحة، ومنها بلدان العالم الثالث، تم تحقيقها من خلال الأستعانة بمشورات المكاتب الدولية المختصة وغيرها، التي سهلت الكثير من مراحل التنمية الصحيحة، وجعلتها في متناول الجميع، حتى انها حولت بعض فروضها الى مايقارب لغة الرياضيات والمنطق، من حيث انه إذا ماتم معرفة المقدمات بشكل علمي فأن النتائج ستكون معلومة وأكيدة ايضاً.

يشير الجدول (1) الى النسبة المئوية للفقر في جميع المحافظات العراقية، ويعتبر الفقير حسب وزارة التخطيط العراقية لسنة ٢٠١٠ ، “أي فرد عراقي يعيش في اسرة يبلغ إنفاق الفرد الشهري لديها أقل من 76891 دينار يقع في صنف الفقراء، وأي فرد عراقي يعيش في أسرة يبلغ انفاق الفرد الشهري لديها أكثر من 76891 دينار يعتبر من غير الفقراء” ، وقد ارتفع هذا المبلغ لتحديد حد الفقر في عام 2012 ليصبح 105500 دينار للفرد الواحد في الشهر  .  وإذا اعتبرنا بأن المبلغ الذي يحدد خط الفقر في عام ٢٠١٠ يعادل نسبة ١٠٠٪، فقد اصبح في عام ٢٠١٢ مايعادل ١٣٧٪.

2010    ١٠٠٪
2012    ١٣٧٪



ويوضح الجدول (١) الفوارق الكبيرة بين المحافظات، بالرغم من إنخفاض نسبة الفقر بالنسبة للبلاد من 22.9٪ عام 2007 الى 18.9٪ في عام 2012. فإزداد الفقر في محافظة المثنى من 48.8٪ في 2007 ليصبح 52.5٪ في عام 2012، على العكس من ذلك، حيث شهدت السليمانية إنخفاظاً للفقر من 3.3٪ في عام 2007 الى 2٪ في عام 2012. وإذا نظرنا الى الجدول (2) فأن أكثر المحافظات معاناة من الفقر تعود الى المحافظات الجنوبية التسعة، حيث ان أكثر من ربع  سكانها يعانون من الفقر.  ويتبين لنا من الجدولين (1) و(2) بأن هناك فوارق كبيرة بين أوضاع  السكان في العراق من حيث الفقر.  ويصبح من الضروري الأهتمام بالمناطق الفقيرة ورفع مستوياتها المعيشية لتتماشى مع بقية مناطق العراق.
جدول (1) نسبة الفقر حسب المحافظات

     

ولقد اشار تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في تقريرها الأخير الذي قدمته في 2 أيار 2015 في القاهرة بخصوص العراق مايلي: “أما في العراق، فقد أرتفع معدل إنتشار نقص التغذية من 8 في المائة في الفترة الممتدة ما بين 1990 و1992 الى 23 في المائة في الفترة الممتدة ما بين 2014 و2016.”  وهذا بحد ذاته يعتبر عيباً كبيراً لكل المسؤولين عن الحكم في العراق.

ويبدو من الجدول (٢) بأن أكثر المناطق المعنية بالفقر هي المحافظات التسعة الجنوبية تليها المحافظات  الخمسة : ديالى وصلاح الدين وألأنبار وكركوك ونينوى، ثم تليها محافظة بغداد، وأخيراً أقليم كردستان.

جدول (2) نسبة الفقر حسب المناطق الرئيسية
المنطقة    2007    2012    التغير
أقليم كردستان    4.7    3.5    1.2
المحافظات الجنوبية    34.5    28.7    5.8
بغداد    12.8    12.0    0.8
بقية المحافظات    25.3    19.2    6.1


ويوضح الجدول (3) بأن الفقر يتزايد لدى الأسر الكبيرة العدد، وهذا المؤشر يمكن له ان يوجه الأهتمام الى العناية بهذه الأسر ورفع مستواها.  كما يظهر بأن الأسر التي عدد افرادها لا يتجاوز الثلاثة أفراد هي الأفضل من حيث لا يمسها الفقر بشكل شديد، مقارنة بالأسر الأكبر حجماً.
جدول (3) نسبة الفقر حسب حجم الأسرة
حجم الأسرة    2007    2012    التغير
1    2.6    0.1    2.5
2    1.0    0.7    0.3
3    1.9    0.7    1.2
4    3.9    3.7    0.2
5    7.7    4.9    2.8
6    11.8    10.5    1.4
7 فأكثر    30.8    26.4    4.4
العراق    22.9    18.9    4.0


وبالمناسبة يعتبر العراق من أكبر البلدان من حيث كثافة الأفراد في البيت الواحد، وذلك بمعدل 7.7 فرداً في المنزل الواحد، تاتي بعدها غوينا الأكواتورية 7.5 فرداً، باكستان 6.8 فرداً، اليمن 6.7 فرداً، جزر السلومون 6.3 فرداً، الأردن 6.2 فرداً، البحرين 5.9 فرداً، فيجي 5.8 فرداً، السودان 5.8 فرداً، والهند 5.4 فرداً.   وينبغي الوقوف لدى هذا المؤشر لدراسة اسباب هذا ألأكتظاظ لمعدل افراد الأسرة العراقية الذي يكون غالباً من صفات البلدان الفقيرة، كما ان له تبعيات اجتماعية عديدة.

و يشير الجدول (4) الى معدلات البطالة والأمية في المحافظات العراقية. فيما يخص معدلات البطالة الذي وصل الى 11.9٪ بالنسبة للعراق، لكنه وصل الى 18٪ في ذي قار، يليها ميسان 15.3٪، فبغداد 15٪، والبصرة 14.7٪، ونينوى 14.6٪، أما أقل معدل للبطالة فوصل في كركوك 4.9٪.  أما معدلات الأمية فكانت 20.5٪ للعراق، ووصلت الى 31.6٪ في المثنى، يتبعها ميسان 31.1٪، وأقل معدل جاء في بغداد 14.1٪.
جدول (4) نسبة مؤشرات الفقر والبطالة والأمية حسب المحافظات  2012

المحافظة    الفقر    البطالة    نسبة الأمية
دهوك    5.8    9.0    27.2
نينوى    34.5    14.6    26.2
السليمانية    2.0    6.6    22.3
كركوك    9.1    4.9    19.0
أربيل    3.6    7.6    24.3
ديالى    20.5    12.9    15.3
الأنبار    15.4    10.7    17.5
بغداد    12.0    15.0    14.1
بابل    14.5    8.4    16.8
كربلاء    12.4    7.4    18.0
واسط    26.1    13.0    25.1
صلاح الدين    16.6    8.7    20.6
النجف    10.8    11.1    20.2
القادسية    44.1    13.3    25.6
المثنى    52.5    9.3    31.6
ذي قار    40.9    18.0    23.3
ميسان    42.3    15.3    31.1
البصرة    14.9    14.7    20.9
العراق    18.9    11.9    20.5


وتدل معامل الأرتباط بين الفقر والبطالة التي بلغت 0.565 ومع الأمية 0.597، بأن هناك ارتباط واضح بينهما (حيث ان الأرتباط الإحصائي يقع بين صفر وواحد، وكلما كان الرقم قريباً الى الواحد كلما كان الأرتباط أقوى، والعكس صحيح ايضاً).  

ويبدو من الجداول (1-4) بأن أكثر المحافظات تضرراً فيما يخص الفقر والبطالة والأمية هي المحافظات الجنوبية التسعة، تليها بقية المحافظات، وتبقى أفضل النتائج في أقليم كردستان.  وربما سيساعد النهوض في الزراعة في حوض دجلة والفرات في الجنوب من تحسين أوضاع السكان في هذه المناطق، خاصة إذا اعتمدت الزراعة على استخدام التقنيات الحديثة، وتصدير منتجاتها الى الأسواق العراقية بأسعار معقولة ومنافسة المنتجات المستوردة. وبالتأكيد يتم ذلك من خلال إهتمام الدولة بالزراعة والري، إذ ليس من المعقول أن يتحول اغلبية الشعب الى موظفين في الدولة. ويشير وزير النفط الأستاذ عادل عبد المهدي بهذا الخصوص: “ان انعاش الريف ودعم المزارعين وانقاذ الارض والانسان لا يكون بالكلام وباساليب ترقيعية.. بل يكون بسياسة ثلاثية الاركان.. الاول تنظم علاقات الملكية والاجارة والاستثمار في الارض.. والثاني وسائل التمويل السهلة.. والثالث سياسات الشراء التي تضمن للمزارعين ارباحاً تغريهم على البقاء في ارضهم والتوسع في نشاطاتهم. وان تترافق مع هذه السياسة كافة النشاطات الخدمية والاجتماعية والتنموية، البشرية والاقتصادية، الداعمة للقرية والريف لتعود نقطة منتجة وجاذبة على حد سواء.. وفي هذا حل جذري للبطالة، وتخفيف العبء عن الدولة وتخليصها من ترهلها القاتل، حيث باتت الوظيفة مصدر الرزق الاساس.”

ويفاقم تكاثر السكان العالي مشاكل العراق الأقتصادية والاجتماعية، من حيث ان مايمكن تقديمه الى المواطن  في سنوات الخمسينات والستينيات للمواطنين ، ينبغي الآن مضاعفاته خمس او ست مرات.


شكل (1) سكان العراق (بالالف) للسنوات 1957-2050

  

ويبدو من الشكل (1) بأنه منذ عام 2020 سيزداد عدد السكان بحوالي 10 ملايين كل عشرة سنوات بحيث يقدر بأنه في عام 2050 سيصبح سكان العراق بحدود 71 مليون.   وستشكل هذه الزيادة في عدد السكان عبء إضافي على الأقتصاد وعلى المجتمع، مالم  تقوم الحكومة بسياسات اقتصادية متوازنة منذ الآن لمواجه هذه المسألة.

ومن الغريب انه لم يجري في العراق أحصاء سكاني منذ اثنتا عشرة عاماً على سقوط نظام صدام، خاصة وانه منذ إحصاء عام 1977 لم يجري إحصاء متكامل بسبب الحروب، وبسبب الأوضاع في كردستان انذاك.  وليس من المفهوم كيفية القيام بتخطيط اقتصادي واجتماعي لمستقبل البلاد من دون إجراء إحصاء سكاني متكامل.وليس من المبرر عدم إجراء الأحصاء السكاني لأسباب تتعلق بالخلافات السياسية والطائفية السائدة بين النخب الحاكمة. أن الأعتماد على التقديرات والمسوح الأحصائية على أهميتها لا تعوض مطلقاً الأحصاء السكاني الكامل، خاصة وقد مضى أكثر من ثلاثة عقود على أخر أحصاء سكاني.  

لقد اصبحت مسألة تحسين معيشة المواطن العراقي والأهتمام به من المشاكل المركبة التي تتطلب حلولاً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وأن اي إخلال بواحد من هذه سوف يعقد الأمر ولن يفي بالغرض المطلوب. أن من الضروري الأهتمام بالقضايا التالية:

1.أن أولى مهام الدول تتعلق بتوفير الأمن لمواطنيها، والمواطن العراقي عانى الكثير ولا يزال يعاني من عدم توفر الأمن في دياره، مما اضطره الى الهجرة والأنتقال من مكان الى أخر، تتوفر فيه ظروف أمنية أفضل.  ولا يمكن تحقيق هذا إلا اذا احتكرت الدولة وسائل العنف، وحاربت ممارسات الأختطاف والقتل والتعدي على حريات مواطنيها.
2.تحقيق دولة المواطنة، التي لا يتم فيها تمييز المواطن بحسب خلفيته السياسية والاجتماعية والمحلية والعشائرية والدينية والطائفية والأتنية، وأن يكون جميع المواطنين متساوين امام القانون وفي تحصيل الوظائف العامة بحسب كفائاتهم واختصاصاتهم.  كما ينبغي دمج كل فئات الشعب العراقي في بودقة واحدة، وأن تصبح المواطنة هي الأنتماء الاساسي لجميع المواطنيين.
3.الأهتمام بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنيين: الصحة والتعليم والماء الصالح للشرب والكهرباء وغيرها.  ورفع مستوى الأحياء الفقيرة المكتظة بالسكان، وتوفير العيش المناسب لهم.
4.الأهتمام بقضايا المرأة التي تمثل نصف المجتمع، والعناية بتعليمها ومساواتها مع الرجل، وعدم فروض قيود وتدابير تمنعها من الرفاهية والعيش السليم.
5.لا يمكن التقرب من أي قضية من القضايا الخاصة بأوضاع المواطن والعناية به من دون ان يتم مكافحة الفساد بكل اشكاله، ذلك انه خطف ويخطف كل الفرص المتعلقة بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية سليمة.

وأخيراً لا يمكن بناء دولة سوية من دون إيجاد الحلول الناجعة لكل مشكلة من مشاكل البلاد العديدة، والوصول الى نتائج إيجابية ومؤكدة، وإلا فأن الكوارث قادمة لا محالة. ومن المؤكد بأن نخبتنا الحاكمة على دراية أكيدة بما ينبغي عمله من أمور لرفع شأن المواطن وقضاياه، لكنها لا تقوم بها لإعتبارات شخصية وسياسية وحفاظاً على الأمتيازات المتوفرة لها.

((أنتهى))

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع