ابتداء، لا أملك إلا أن أرفع يدي تحية وأطلق لساني ثناء وتقديرا للاتحاد البرلماني الدولي، ولرئيسه السيد أندرس جونسون (سويدي الجنسية) امتنانا للقرار الذي اتخذه الاتحاد المذكور في اجتماعه الأخير في كندا، حيث برأ ساحة السيد محمد الدايني النائب عن محافظة ديالى - شرق بغداد من جميع التهم الزائفة، التي كانت حكومة نوري المالكي وقضاؤه المسيس قد ألصقاها به ظلما وعدوانا، منذ ما يزيد عن 3 سنوات، كوسيلة للتسقيط السياسي.
لقد جاء هذا القرار بمثابة صفعة على وجه القضاء، بعد أن سقط من قمة صرح شامخ بنته الأجيال العراقية المتعاقبة، وكان مشهودا له بالحرفية والحيادية والاستقلال.
القرار كان في محله وحيث يستحقه النائب الدايني المعروف بالوطنية والإخلاص، لمثابرته ونشاطه الذي لم يعرف الكلل ولا الهزيمة، مدفوعا بالإيمان بأنه صاحب حق.. وما ضاع حق وراءه مطالب. وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي أن تقرأ قضية الدايني إلا في إطار سياقها الصحيح، باعتبارها ما كانت يوما قضية شخصية أو منعزلة، إنما تأتي كحلقة في سلسلة محاولات للتسقيط السياسي استهدفت العديد من الرموز والناشطين السياسيين، وربما ستستهدف آخرين في المستقبل. والمالكي لا يخفي نزعته العدوانية، وهو يضمّن خطابه السياسي المأزوم كثيرا من التهديدات المكشوفة والمبطنة بأنه يجهز ملفات اتهام جديدة، بعد أن أصبحت وسيلته المفضلة في تسقيط خصومه من السياسيين، التي كان آخرها شخصي، وكان سبقني الشيخ الدكتور حارث الضاري، على الرغم من اعتراضه على العملية السياسية. وقبله كان النواب الدايني وعدنان الدليمي وعبد الناصر الجنابي والوزير أسعد الهاشمي. اللافت للنظر أن جميعهم من العرب السنة! وجميعهم اتهموا بالمادة 4 إرهاب! فهل كان ما حصل مصادفة؟ لا أظن ذلك.
إصدار القرار لا يكفي بحد ذاته، على الرغم من أهميته، إذ المطلوب معالجة الآثار التبعية واللاحقة بكل ما تنطوي عليه من أضرار مادية وأدبية ألحقتها التهم الباطلة والحكم الجائر الذي أصدره القضاء العراقي بحق النائب الدايني. وفي المقدمة، بل وعلى جناح الأسبقية، استعادة النائب الدايني عضويته المفقودة في مجلس النواب العراقي عن محافظة ديالى. هذا من جانب، ومن جانب آخر لن يكون لحكم الاتحاد البرلماني الدولي من مغزى دون محاسبة الحكومة والقضاء العراقي وملاحقة من تورط من قضاة فاسدين أو رجال أمن مرتشين؛ سواء في مرحلة التحقيق الابتدائي أو عند التقاضي أمام المحاكم. وأصدروا أو سهلوا إصدار الأحكام الجائرة، وتقديمهم للعدالة وفق القوانين المحلية أو الدولية، إن اقتضى الأمر ذلك؛ وهذا يشمل دون ريب المحققين من رجال الأمن وقضاة التحقيق الذين تعودوا انتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب الجسدي المفضي إلى الموت في أحيان كثيرة. سيكون مثل هذا الإجراء درس الحياة البليغ لهم ولغيرهم، من دونه لن يتوقف أذى هذه الأطراف عن السياسيين الوطنيين المخالفين لنهج حكومة فاشلة. وفي هذا المجال لا بد أن ينشط مجلس النواب العراقي ويرد اعتباره ويفرض هيبته على السلطة التنفيذية التي تجاوزت صلاحياتها بالتعدي المنهجي على الحصانة الدستورية للنواب، لا بد لهذه السلطة من رادع حتى لا تتمدد خارج الحدود التي رسمها لها الدستور.
مضامين القرار تذهب لما هو أبعد من ذلك بكثير، إنه يقدم دليلا جديدا على غياب العدالة في العراق، مما يدفعنا للمطالبة بفتح ملفات عشرات الألوف من الأبرياء المحتجزين أو المسجونين في السجون السرية والعلنية من العرب والعراقيين، وكثير منهم ينتظر الحكم، أو التنفيذ، بالإعدام، وهي مهمة لا بد أن تضطلع بها اللجان المتخصصة في مجلس النواب، التي لا مفر من استعانتها بالمنظمات الدولية، لأن حجم العمل كبير والمهمة شاقة ومعقدة.
لا بد أن يتذكر العراقيون زيارتي التاريخية لسجن الرصافة عام 2008، عندما كشفت المستور، وتعمدت أن أعرض للرأي العام الداخلي والخارجي بالصوت والصورة مشاهد حية لمحتجزين مظلومين أخذوا بالشبهة والوشايات الكيدية ذات البعد الطائفي التي ينشط فيها مخبر سري مجهول وظفت مواد القانون لمنحه ما يتمناه من قبول وحماية وعدم مساءلة، بمعنى آخر حصانة كافية، مما شجعه وأطلق يديه دون قيود، لإلحاق الأذى بمن يريد ويختار.
لا شك أن عرض المشاهد المحزنة التي ستبقى بالذاكرة العراقية لسنين طويلة مقبلة شكّل ما يشبه الصدمة للجمهور، وسهّل مهمتي في إصدار قانون العفو في وقت لاحق، الذي كان حقق أغراضه بتحرير الآلاف من الأبرياء المحتجزين. لكن مهمتنا مع ذلك لم تكن سهلة في أي حال؛ إذ مع إطلاق سراح عدد من الأبرياء، فإن أفواجا مضاعفة كانت تودع مراكز الحجز يوميا، لذلك بقيت أرقام الاحتجاز دائما مرتفعة، واعتبر البعض ذلك نقطة ضعف في القانون أو متابعة تنفيذه من قبلنا، والأمر ليس كذلك.
السجون ومراكز الاحتجاز، على الأقل المعروفة والعلنية منها، مكتظة، وتجاوزت أضعاف طاقتها الاستيعابية. هذا ما وثقته جميع التقارير للفرق الوطنية والأجنبية المعنية بحقوق الإنسان، التي زارت السجون ومراكز الاحتجاز. بل هذا ما أكدته وزارة العدل، وهي تخطط لبناء العديد من السجون ومراكز الاحتجاز الجديدة. وليت المعاناة تقتصر على الاحتجاز والحرمان من الحق المشروع في الحرية، الذي يجري عادة في غياب أذونات القبض الرسمية، بل تتعداه إلى ظروف الاحتجاز المأساوية والتعذيب المفضي للموت أو العوق وابتزاز عوائل المفرج عنهم، حيث لا ينفذ أمر الإفراج إلا بعد أن تضطر هذه العوائل إلى بيع ما لديها لتسديد ما يأمر به ضابط الأمن المسؤول، وتصبح في النهاية على قارعة الطريق.. مأساة لم يشهد العراق لها مثيلا.
أعلم أني في مقالتي هذه لا أضيف جديدا، وربما كان للمنظمات المعنية بحقوق الإنسان كثير من الحقائق والأرقام التي تبين حجم وطبيعة المأساة التي يعيش في ظلها الشعب العراقي. إذن المشكلة ليست في المعلومة؛ فهي متوفرة، لكن طريقة التعاطي أو التعامل معها. هنا تسكب العبرات.. إذ لا أجد حتى اللحظة التحرك أو التعامل المناسب، المعاناة مستمرة، بل تتفاقم، والمجتمع الدولي يكتفي بالمراقبة والرصد وجمع المعلومات وإصدار التقارير لا غير، وهذا بمنتهى الصراحة لا يكفي إطلاقا. المجتمع الدولي مقصر في إلزام الأنظمة القمعية، ومنها حكومة نوري المالكي، باحترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعمل بموجبه، علما بأن العراق دولة موقعة على جميع الاتفاقيات المعنية بحقوق الإنسان، بما فيها الإعلان نفسه، وهذا يجعل الحكومة وهي تتصرف خلاف ذلك تحت طائلة المسؤولية، باعتبارها حكومة مارقة.
بل حتى القضاء الدولي مقصر، لاحظوا كيف تعامل القضاء في إسبانيا في تعاطيه مع جريمة قتل 39 عضوا وجرح ما يزيد عن 250 من أفراد «مجاهدين خلق» في معسكر أشرف بمحافظة ديالى في يوليو (تموز) من عام 2009، والمتهم فيها نوري المالكي وبضعة ضباط مقربين منه. لقد طالبه بالمثول أمام المحكمة الإسبانية المختصة، وعندما رفض، سكت القضاء الإسباني بذريعة أن المالكي لا يزال في منصبه، وأن القانون العراقي يمنحه الحصانة! لكن المحكمة لم تسأل إذا كان المنصب السيادي في الدولة العراقية يمنح الحصانة لمن يشغله.. إذن لماذا حرم الهاشمي منها وهو يتقلد أيضا منصبا سياديا؟ على الرغم من التفاوت بين القضيتين بالطبع.
الحاصل، إصدار القرار ببراءة الدايني من جانب الاتحاد البرلماني الدولي بشارة خير لعموم الشعب العراقي والمظلومين فيه على وجه الخصوص، بل للنواب المعارضين الشجعان في مجلس النواب. إنها مؤشر على اهتمام المجتمع الدولي بملف حقوق الإنسان، حيث يعبر عن قلقه من العدالة المجروحة في العراق، واستعداده لتحمل مسؤوليته، وهذا ما كنا ننتظره، ونتمنى أن يتعاظم دوره ويتواصل، ومعه بالطبع جميع المنظمات العربية والإقليمية والدولية المعنية بحقوق الإنسان، حتى ينجح العراقيون في بناء دولة المؤسسات والعدل، الحلم الذي لا يزال يراودهم منذ عشرات السنين. فهل يسعفهم المجتمع الدولي في تحقيق ذلك؟ نأمل ذلك.
* نائب رئيس الجمهورية العراقية
827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع