شوكولاتة داكنة

                                                                                             

                             عفاف حافظ*

اعتاد احمد وهو عائد من المدرسة ان يمر بدكان ابو عدنان ليشري لأخته الكبرى بما تبقى له من مصروفه اليومي قطعة شوكولاتة داكنة .

كانت تفرح بها ايما فرح مدركة انه يحاول ان يقلد اباها وهو يعود محملا بالأطايب من المدينة التي تبعد عنهم خمس كيلو مترات . كانت تحتضن احمد وتقبله وتهمس بأذنه "اتمنى ان ارى اليوم الذي تجلب به حلوى لخطيبتك!!" فتتورد وجنتاه وينهرها متبرماً بكلماتها التي لا يدرك لم كانت تستثير فيه مزيجاً من الخجل والانكماش،وتهميقطرات العرق من جبينه الاغر وهو ابن الثمان سنين.

كان يشبهها فكلاهما ابيض ازهر بأنف مستدق وشفه حمراء الا ان شعرها بلون الكستناء وعينيها بلون النرجس وهو لم يكبر بعد ليعلم هل سيباريها بقامتها السامقة ام سيكون كأخواله ربعةً بين الرجال؟!كثيرا ما كان ينام الى جنبها فتنهره والدته قائلةً "لقد كبرت يا ولد" فتشده بثينه اليها وتقول "لم يكبر علي يا امي." بدأت بثينة بتجهيز العشاء قبيل غروب الشمس عندما اقتربت امها منها : "البارحة زارتنا عمتك" ."واذاً؟!" اجابت بثينة. "يا شقيه!؟ الا تعلمين انها تريدك لابنها صالح. صالح يعمل مدرساً في ثانويه القرية ويواصل دراسته لنيل الماجستير في اللغة العربية عندها ستكونين زوجة الاستاذ صالح. ماذا تريدين اكثر من ذلك؟!" اشاحت البنت بوجهها الذي اصفر كانه ليمونه وهربت الدموع من عينيها سخية...

"هيا هيا يا حبيبتي ليس عليك حرج لقد مر على استشهاده ثلاث سنوات ثم انها كانت خطبة قصيرة دامت شهرين فقط ثم اخذ الله امانته والحي اولى من الميت. انت فتاة يتسابق الخطاب اليها لما حباك الله به من جمال ونعومة. هيا قومي واغسلي واجهك واعلمي ان الامر مفروغ منه فلقد اعطاهم ابوك كلمته وانت لا تعصين اباك ".

رجع الحاج بدر مع اولاده الثلاثة من صلاة العشاء وما ان مرت دقائق معدودة حتى انتظمت الاسرة حول المائدة المعدة كأفضل ما يكون. كانوا يأكلون ويتابعون نشرة اخبار التاسعة من قناة الجزيرة الاخبارية . انتبه احمد ان بثينة لا تأكل وان وجهها قد امتقع وهي تتابع مشاهد المداهمات اليومية للقوات الامريكية المحتلة . تذكر ان القاعدة الامريكية لا تبعد عنهم سوى 20 كيلو مترا وان مشات البحرية يمشطون المناطق بحثاً عن افراد المقاومة. لم ينس معاناة اخته عندمافقدت خطيبها الذي استشهد في معركة صغيرة مع قوات الاحتلال.تذكر الليالي التي كانت تقضيها الام وهي تحاول التخفيف عن ابنتهاو التي كانت ترفض كل من كان يتقدم لها خاطباً.

انتبه الجميع الى صوت الباب الخارجي وهو يقرع قرعا قويا فنضروا الى بعضهم كمن يعلم هويه القادم يقيناً. فتح باسم الباب ودخل الكابتن جيمس كارلايل ومعه عشرة جنود ورجل ملثم لا يبدي لثامه سوى عينين بنيتين واسعتين . بدى جليا انه مترجم الفرقة 33 المجوقله وانه عراقي ومن المنطقة قد لجأ للبس اللثام حتى لا تعرف هويته.

"من معكم في البيت؟" قال المترجم. "انا وابنائي الأربعة وابنتي وامها فقط" اجاب الحاج بدر. لم يصعد الجنود الى سطح المنزل ليؤمنواوجودهم ولم يفتشوا الغرف . رطنوا بينهم بجمل قصيرة تخللتها نظرات ثاقبه وجهها احدهم الى بثينة التي شعرت بثقل غريب يلف روحها بادرت الى احتضان احمد واغمضت عينيها وتمتمت ببعض الكلمات.مضى القادمون "الى غير رجعه" قالت الام "هيا يا اولادي اتمواعشاءكم." بعد مضي ثلاث ساعات كان الكل يغطون في نوم عميق.افاق باسم على دقات متفاوتة وخفيفة على باب الدار. "من هناك؟"صاح باسم.

"انا صديق افتح الباب بسرعة". همس القادم ببضع كلمات وولى مدبرا لا يلوي على شيء وهو يعالج لثامه. لم تمض ربع ساعه الا والنور يشق ظلمة البيت الذي اجمع اهله على امر لا رجعة فيه ودلفوا جميعا الى حضيرة الاغنام الا احمد الذي لم يوقظه احد. اخذوا يناول بعضهم البعض اكياس التبن الاصفر الذي تخلف من حصاد حقول الحنطة . كان الاب يتمتم ضارعاً بعبارة واحد يسمعها من يدنوا منه "الموت سابق كل بلاء"

وارت اكياس التبن بثينة وجسدها المرتجف وعينيها النرجسيتين وشعرها الكستنائي. نظر الاب بعينين ناريتين الى الام قائلاً "امامي الى حجرتنا وانتم ولا كلمة الى غرفكم اما انت يا باسم فابق هنا تحدث معها كل حين لا اريدها ان تخرج"

مع خيوط الشمس الاولى التي بدت حثيثة دامية ولاهبة كسر الجنود باب المنزل ودخلوا يبحثون عن شيء واحد. قلبوا البيت والفراش والمطبخ والحديقة والحضيرة والتنور الطيني وحتى بيوت الجيران وعندما لم يجدوا ضالتهم انسحبوا وهم غاضبون. ذهل احمد لما كان يجري كانت عيناه تفتش عنها ."اين بثينة يا امي لم اجدها بجانبي لقد كانت بجانبي اين هي؟؟" تساءل احمد. "لقد ابتعدوا" قال باسم.انطلق الاخوة الثلاثة يميطون الاكياس عنها ويصرخون باسمها . حانت منهم لحظات صمت عصيبة اخترقتها زغاريد الام وقطع الحلوى المنثورة على فستان بثينة المسجى فوق قبرها. غدت تلك الزغاريد طلاسم لم يسطع عقله فك شفرتها لسنين ولسنوات كان يحج الى قبريهما كل اسبوع ومعه قطعتين من الشوكولاتة لها وللملثم.


*عفاف حافظ، ماجستير أدب إنكليزي

أستاذة في كلية التربية، جامعة سامراء، العراق

              

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع