د.محمد الكبيسي
لا أعلم مسألة أوقعت الخلاف داخل المؤسسات العلمية الشيعية مثل مسألة (ولاية الفقيه) حتى بين كبار المراجع الإيرانيين فضلا عن غيرهم، بينما يمرّ عامة الشيعة عليها مرورا عابرا كأنها لا تعنيهم، مع أنها تمس أصل المعتقد،
وأما المراقبون والمتابعون من الخارج فقد تعاملوا معها بسطحية ظنا منهم أنها أسلوب من أساليب الحكم وإدارة الدولة الدينية وفق المعتقد الشيعي لا أكثر.
إن جوهر العقيدة الشيعية يقوم على أساس رفض الولاية لغير الإمام المعصوم، والولاية هي الرئاسة العامة، وقد سُمّوا (الرافضة) لأنهم رفضوا وفق هذا المعتقد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ورفضوا أيضا خلافة الأمويين والعباسيين والعثمانيين، ووقعوا في خلاف حادّ مع الأمة الإسلامية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم.
يظن بعض الباحثين أن المشكلة تكمن باغتصاب حق الإمامة الثابت عندهم لعليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالوصيّة النبويّة، وأنّ الأمة قد غلّبت مفهوم (الشورى) على نص (الوصيّة)، لكن الحقيقة أعمق من هذا بكثير، فالمعتقد الشيعي يقوم على أساس أن الرئاسة الدنيوية لا تصحّ إطلاقا إلا للإمام المعصوم، وأن حجة الله على خلقه لا تقوم إلا بوجود هذا الإمام على مرّ العصور، حتى قالوا: إن النبوّة لطف خاص، والإمامة لطف عام، واللطف العام أحقّ وأوجب، ويرون أن إبراهيم عليه السلام قد رفعه الله من مقام النبوة إلى مقام الإمامة بقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما)، ومن ثمّ فالوصية عندهم لازم من لوازم هذا المعتقد وليست منشئة له.
في بداية تأسيس التشيّع كانوا بحاجة إلى إثبات الوصيّة لعليّ لإبطال مبدأ الشورى ونزع الشرعية عن الخلافة الراشدة وما تحقق فيها من فتوحات، بيد أن الوصيّة لعلي على فرض وجودها لا تستلزم الوصيّة لأولاده من بعده، ولذلك وقع الخلاف المبكر فيما بينهم، ثم اشتدّ الخلاف بين الموالين لإسماعيل بن جعفر (الإسماعيلية) والموالين لأخيه الأصغر موسى بن جعفر (الموسوية)، ثم اختار جلّ الإسماعيلية الوقوف عند الإمام السابع فسُمّوا (الشيعة السبعية)، واختار الموسوية الاستمرار حتى (الإمام الثاني عشر)، ثم توقّفوا عنده فسُمّوا (الاثني عشريّة).
لقد شكّل هذا التوقّف أزمة عقدية وفكرية خانقة، فكيف نجمع بين مقولة اللطف العام وأن الأرض لا يمكن أن تخلو من إمام معصوم وبين التوقّف عند عدد معيّن من الأئمة؟
ربما حقّق التوقّف مصلحة كبيرة للتشيّع لأنه أوقف الخلافات المتوقّعة في كل جيل من الأبناء الورثة، لكنّه أوقع التشيّع في مأزق كاد يطيح بالعقيدة الشيعية من أساسها، من هنا جاءت فكرة (الإمام الغائب) الذي لا حدّ لعمره! وهو الإمام الأخير الذي ينبغي أن يبقى موجودا حتى قيام الساعة! وراح الفكر الشيعي يدعم هذه النظرية ويستشهد لها بحياة السيد المسيح الذي رفعه الله إلى السماء، وبحياة الخضر عند الصوفية، متناسين ومتغافلين أنهم يتكلمون عن (إمام) تقوم به الحجة على عباد الله ويقوم بدور القيادة والرئاسة العامة، وهذا هو أصل انشقاقهم وخلافهم مع الأمة.
في القرن الأول للغيبة حاول الشيعة أن يسدّوا الفراغ بنظرية غريبة أسموها (النيابة عن المهدي)، وهي ليست نيابة في الرئاسة وإنما لإيصال الرسائل من الإمام الغائب إلى أتباعه، ولذلك أطلق عليهم اسم (سفراء المهدي)، وكان آخرهم السفير الرابع علي بن محمد السمري المتوفى في بغداد سنة 329هـ، وبه انقطعت أخبار الإمام ليدخل في مرحلة (الغيبة الكبرى) منذ ذلك الوقت حتى اليوم!
من الواضح أن الذين أسسوا لفكرة (السفراء) قد تركوا لمن خلفهم عبئا ثقيلا، فإذا كان الشيعة قد اختلفوا في تعيين الإمام بين زيد بن علي بن الحسين وإسماعيل بن جعفر وموسى بن جعفر وغيرهم، فما بالك بالسفراء؟ من هنا كان الحل المنطقي إيقاف سلسلة السفراء، كما تم إيقاف سلسلة الأئمة، وأثر الصنعة البشرية في كل هذا لا يخفى على أحد.
عمليا، لقد خلت الأرض من الإمام المعصوم لما يزيد على أحد عشر قرنا منذ أن بدأت الغيبة، وهذا لوحده كاف لهدم مقولة الإمامة، فلم تقم حجة الله على عباد الله، ولم يتحقق اللطف الإلهي العام، وقد ظل الشيعة خلال هذا التاريخ كله يعيشون عذاباتهم وبكائياتهم حتى ابتدعوا أساليب جديدة وقاسية للتعبير عن أحزانهم لم تكن في أسلافهم. في المقابل راح أهل السنّة يفتحون البلاد والعباد وينشرون الإسلام ويؤسسون الحضارات التي دان لها العالم، مثبتين بذلك أن الوحي (كتابا وسنّة) هو اللطف الإلهي العام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وأن الأمة بعد ختم النبوة وإكمال الرسالة لا تحتاج إلى الوصي، وإنما تحتاج إلى الوعي بمسؤولياتها وتعزيز الثقة بإمكاناتها وقدراتها، وهذا هو شأن كل الأمم الواعية مهما اختلفت أعراقهم وثقافاتهم.
لقد أدرك الشيعة أنهم قد خسروا التاريخ والجغرافيا، وأن حركة الحياة لا تنتظر إماما غائبا ولا سفيرا مغيّبا، وإذا كانت الأزمات السابقة قد مرّت بمظلة الغيبة والسفارة، فإن أحد عشر قرنا من الانتظار قد ولّدت أزمة داخلية متراكمة وبأبعاد مختلفة دينية وثقافية وسياسية، وأصبح الشيعة أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما؛ البقاء في دائرة الانتظار السلبي والعيش بعيدا عن هذا العالم، أو البحث عن مخرج ديني و (حيلة شرعية) تمكّنهم من الظهور والمساهمة أو المنافسة في إدارة هذه الحياة، وإن كان بالتجاوز على أصل أصولهم وجوهر عقيدتهم، ومن هنا جاءت فكرة (الوليّ الفقيه)!
651 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع