أحيانا وبدون داعٍ ٍأو ضرورة يعتذر بعض زملائنا الكتاب العراقيين قبل أن يستخدم في مقالته عبارة (شيعة) أو (سنة)، زاعما أنه يستهجن هذه التقسيمات الطائفية، ولكنه يستخدمها اضطرارا.
والحقيقة أن هذا الزعم فيه كثيرٌ من التظاهر بـ (الأكابرية) والافتعال والمداهنة. لأن العراقيين، جميعهم، في السر وفي العلن، ومن زمن طويل، يشكون من أن الفصل الطائفي أمرٌ قائم وثابت وحقيقي في الحياة العراقية، ولا يمكن إنكاره أو التستر عليه. ويؤكدون أنهم ذاقوا مرارته طيلة عهود ماضية، وهم يتجرعونها اليوم، وسوف يظلون يتجرعونها ويدفعون ثمنها من أمنهم ولقمة عيشهم وكراماتهم زمنا طويلا قادما مع الأسف الشديد. ويُقرون ويعترفون بأنه هو وحده سببُ جميع الفوضى والفساد والتزوير والتستر على الراشي والمرتشي، وهو الذي وضع ويضع في أعلى مراكز السلطة أشخاصا غير كفوئين وغير نزيهين وغير محترمين.
وهذا الواقع المرير نفسُه هو الذي يدفع بالحكام الطائفيين، شيعة وسنة، عربا وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، إلى أن يستميتوا في التمسك به، وعدم التفريط به، والدفاع عنه بلا هوادة.
وليس خافيا أنهم يبذلون جهودا مضنية ومبرمجة وباهضة التكاليف من أجل تعميق جذور الانقسام الطائفي والعرقي والديني، وإيصال القطيعة والتباغض والتنافر بين مكونات الوطن الطائفية والقومية والدينية والعقائدية والمناطقية إلى حدود اللاعودة، لأن في ذلك ضمانا أكيدا لدوام ما هم فيه من عز وجاه وسلطان وثروة وجبروت. وبدونه، أي بسيطرة جماعة الفكر الوطني الديمقراطي العلماني النزيه على مفاصل الدولة، لن يكون لهم مكان إلا في أقفاص المحاكم الجنائية والجزائية وحدها.
لذلك فإنهم لا يكفون عن النفخ في نار الأحقاد الطائفية، بكل الطرق والوسائل والدسائس والألاعيب، لتعميق المخاوف والتوجس والترقب والترصد بين المواطنين البسطاء، وجعل كلٍ منهم يعتقد بأن أي مساس بأي سياسي ينتمي إلى الطائفة، حتى وإن كان يعرف أنه حنقباز ومخادع وكذاب وحرامي، إنما هو حربٌ على الطائفة ذاتها ينبغي خوضها بكل السبل والأساليب، وبجميع الأسلحة، بما فيها القتل والتهجيروالتهميش والتسقيط، إذا لزم الأمر. والمحزن أن هذا الواقع المريض لم يُصب طائفة أو قومية واحدة بعينها، بل أصاب الجميع.
ولكن الأكثر إيلاما وخيبة أن المثقفين العراقيين الديمقراطيين التقدميين الذين يُعول عليهم في قيادة الشعب العراقي في حملة اجتثاث هذا الخلل المريع في التكوين الروحي والجسدي والعقلي للمواطن العراقي غالبا ما نكتشف أن كثيرين منهم لم يغادروا عصر الظلمات، وأن كثيرين منهم أيضا، والعياذ بالله، منخرطون مع الحكام الطائفيين في بناء الجدران الخانقة التي تخنق الشعب وتمنعه من الانعتاق.
أعرف صديقا عراقيا تربي في أمريكا، ونهل من علمها وديمقراطيتها وعلمانيتها ثلاثين سنة، ومارس التدريس في أهم جامعاتها، وتزوج أمريكية من أصل عراقي قضت، مثله، جل حياتها في أمريكا، ولكنه، عند ما حانت الساعة، ودون وعي منه، عاد إلى طائفيته بقوة وحماس. فحين رأى إحدى مسيرات اللطم على شاشة التلفزيون بكى بصمت، وقال إن على كل مسلم ان ُيكفر عن ذنوبه باللطم مرة كل العام، على الأقل.
يعني أن علمانيته كانت قشرة خارجية فقط، أما أعماقه وسلوكه وثقافته وخطابه فلم يتبدل فيها شيء، وكأنه لم يغادر الوطن، ولم يقرأ ولم يتعلم أي شيء من ثقافة العصر التكنولوجي الذي يعيش ويعمل فيه. إنها حالة محزنة، حقيقة ً، ولكنها موجودة، ومن واجب الكتاب والمحللين والمفكرين التقدميين الصادقين الصامدين أن يعترفوا بها ويعملوا على اقتلاع ما يمكن اقتلاعُه منها، لا إنكارها والتهرب من مواجهتا ومن علاجها.
إن الطائفية تعشعش في شرايين العراقيين بقوة، إلا مَن رحم ربي وشفاه من هذه العلة المُعدية. تختفي أحيانا، أو تخفُ ظواهرها فتراتٍ من الزمن، بحكم الظروف الطارئة، لكنها تخرج مدوية وجارحة، وأحيانا قاتلة، تلقائيا وعند الضرورة.
كما أن روح البداوة والتعصب المرضي للطائفة أوالقومية أوالدين، أمر مُتوارث فينا، وهو من أساسيات مكونات الشخصية العربية والإسلامية، بشكل عام، والعراقية، بشكل خاص، من قديم الزمان. فالاحتماء بالقبيلة كان وما يزال حاجة أساسية لدى المواطن الضعيف الذي لا يثق بأن الدولة وأجهزتها يمكن أن توفر له الأمان، بقدر ما هو واثق ومتأكد من أن القبيلة أو الطائفة وحدها الضامن لأمنه وأمن أسرته من غوائل الزمن. والتعصب الجاري، هذه الأيام، للطائفة أو الحزب أو الزعيم لا يختلف كثيرا عن التعصب القديم للقبيلة، بدءا بأيامَ الجاهلية، ومرورا بالدولة الإسلامية، ووصولا إلى يومنا هذا. وها هي الحياة الحزبية عندنا، ليست أكثر من عصبية قبلية للحزب ورئيسه، تماما كما كان امرؤ القيس والفرزدق وجرير يتفانون في الذود عن القبيلة وشيخها في قديم الزمان.
وهذا ما أظهرته جليا حملات الانتخابات العراقية المتعاقبة. فالشيعة صوتوا للطائفة والمرجعية، وليس للوطن، ولا لكفاءة المرشح وأمانته وسيرته. والسني فعل الشيء نفسه، والكردي والمسيحي كذلك، إلا في حالات نادرة لا تشكل اختراقا حقيقيا للقاعدة الثابتة المتوارثة. وهذا ما أوصل إلى البرلمان وإلى الحكومة أشخاصا عجزة وجهلة وشريرين لا يصلح أحدهم لقيادة عنزتين. والمصيبة أن ناخبيهم يعرفون حق المعرفة أن أحدهم لا يؤتمن على تمرة، ولكن الضرورة لها أحكام.
كل هذه المقدمة المطولة فرضَها على هذه المقالة آخرُ خبر وردنا من مدينة بعقوبة، عاصمة محافظة ديإلى، حيث تم الإعلان عن أول تحالف لخوض الانتخابات المحلية لمجالس المحافظات العراقية التي ستجري في العشرين من نيسان (أبريل) المقبل. فقد أعلنت عشرُ قوىً سياسية ٍ شيعية عن اتفاقها على خوض الانتخابات المقبلة تحت اسم "تحالف ديإلى الوطني". وقد ضم التحالف الجديد "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي و"الائتلاف الوطني" الذي يضم المجلس الأعلى الإسلامي برئاسة عمار الحكيم، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، ومنظمة بدر برئاسة وزير النقل هادي العامري، وحزب الفضيلة بزعامة اية الله الشيخ محمد اليعقوبي، وتيار الاصلاح بزعامة ابراهيم الجعفري رئيس التحالف الوطني الحاكم، إضافة إلى المؤتمر الوطني العراقي برئاسة احمد الجلبي، ومنظمة السلام للكرد الفيلية. وطبعا هذا أول الغيث، وسيخوض التحالف نفسُه الانتخابات في المحافظات الأخرى ينفس الطبعة الطائفية الفاقعة.
بمعنى آخر. إن مقتدى الصدر لم يتغير، ولم تنقصْ طائفيته ولو شعرة واحدة. وكذلك عمار الحكيم والجعفري والجلبي، ناهيك عن رئيس دولة القانون.
بالمقابل يستعد الراكبون على ظهر الطائفة السنية في المحافظات الأخرى لتشكيل تجمعات سياسية طائفية وعنصرية مماثلة، ربما أكثر تعصبا وأشد طائفية من القوائم الشيعية المنافسة.
يبدو أن السمكة لا تغادر ماءها من تلقاء نفسها، بل عنوة ً فقط، وبحكم القاهر القوي، وهذه طبيعة الحياة. ومادام القاهر القوي غائبا، أو مُغيبا، وهو التيار الديمقراطي العلماني الفاعل، فالدار سوف تبقى لـ (مطيرة) وحدها تصول فيها وتجول.
يعني أن شعبنا لم يتقدم خطوة واحدة إلى أمام. بل ما زال يغرق في وحله، ويدور في ذات الحلقة المظلمة المُغلقة.
إن كثيرين منا، نحن الكتابَ السذجَ المتفائلين بلا سبب، خدعنا أنفسَنا حين اعتقدنا بأن عشر سنوات من الخراب والجوع وانعدام الخدمات والسرقات وتزوير الشهادات والفضائح والمصائب والمتفجرات والمفخخات والاغتيال بالكواتم كافية لإيقاظ جماهير العراقيين. وتوقعنا أن يثور الناخبون الشيعة على اللصوص الشيعة، والناخبون السنة على اللصوص السنة، والحبل على الجرار.
لكن شعبنا الذي كان يوصف بالثورية والشجاعة والعنفوان، وبأنه (مفتح باللبن)، كشف لنا الأيام والتجربة حقيقته المُحزنة، وهي أنه ليس ثوريا ولا شجاعا، ولا هم يحزنون. فهو لم يحشد ملايينه المحرومة، كما توقعنا، وكما فعلت شعوب عديدة قبلنا، ولم يلد لنا جبهة ً أو جبهاتٍ وطنية عراقية مُبرأة من الطائفية والعنصرية والمناطقية تخوض الانتخابات المقبلة بشعارات واضحة وجريئة وحضارية، وتقلب الطاولة على أصحابها، وتستعيد الوطن من غاصبيه، وتقيم دولة القانون الحقيقية، وليس دولة القانون الورقية الكاذبة، وتحاسب المسيء واللص ومزور الشهادة ومفجر المفخخات، دون رحمة.
هكذا كنا نظن، خصوصا بعد أن انطلت علينا هوسات الحماس (الصدري) و(الحكيمي) و(العراقي) و(الكردستاني) المطالبة بسحب الثقة من نوري المالكي ورهطه وبطانته، وبتصحيح المسيرة على أسس وطنية عراقية غير طائفية، والكف عن محاولات تهميش الآخرين، وعدم التستر على المختلسين والمخربين والقتلة والمزورين.
لكن الجرادة لا تحمل حمل جمل، والحمار لا يعزف على البيانو. وها هو التيار الصدري يعود إلى قواعده سالما، إن كان قد خرج منها فعلا، ثم عاد مجلس عمار الحكيم والجعفري والفضيلة والجلبي، دون إبطاء. وقد تكون عصا الولي الفقيه أقوى من كل عصيِّ العراقيين.
السؤال الكبير هو أين أبناء الطائفة الشيعية الآخرون؟ أين اليساريون، أين الشيوعيون السابقون واللاحقون، والديمقراطيون، والتقدميون المستقلون؟ خصوصا وأن الذي لا شك فيه هو أن الشارع الشيعي أغنى من غيره بالمثقفين والمبدعين والمناضلين التقدميين، وحتى برجال الدين المتفتحين المتنورين المعتدلين؟
والسؤال نفسه عن العراقيين السنة. أين أؤلئك المبدأيون الوطنيون الشرفاء الشجعان الذي كانوا، في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، يهزون المدن والقرى، ويملأون الساحات والشوارع بالهتاف الوطني المقاوم لكل تخلف وفساد وتزوير وخيانة ووصاية واستعمار؟ وأين ذهبت تلك الأيام الخوالد التي كان فيها الثائر السني يهتف في الأعظمية فيرد عله ثائر شيعي في الكاظمية، لبيك ثم لبيك؟ وأين راحت تلك المسيرات العارمة التي كانت تهدر من شمال الوطن إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، ويزدحم فيها ثائرون من كل طائفة وكل عرق وكل دين، وبكل زي وكل لون وكل لغة ولهجة؟ ترى أين ذهبت تلك الروح، بل أين ذهب أهلها؟
1673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع