فارس حامد عبد الكريم
استاذ جامعي ــ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة
مرت الشعوب عبر تاريخها الطويل بتجارب مرة مع مختلف اشكال الإحتلال والعدوان السافر ومحاولة إذلالها وسرقة خيراتها، وهكذا سقطت دول وحكومات وقامت دول وحكومات على انقاضها عبر ذلك السفر الطويل للشعوب، في كل مكان وزمان، وحدث عبر ذلك التاريخ، فراغ في النظام القانوني وغياب للسلطة العامة وللمؤسسات الحكومية، جزئياً أو كلياً، وهي المنوط بها الدفاع عن شعبها حسب الأصل، فماذا تجد الشعوب في ظل هكذا اوضاع غير طبيعية غير المقاومة والدفاع عن كرامتها وشرفها بنفسها وإدارة مؤسسات الخدمة العامة لحين استتباب الامن وانبثاق سلطة عامة تتولى ادارة الدولة بعد ان ترتفع رايات النصر على الاثم والعدوان، وبغض النظر عن الشكليات القانونية، وهكذا اعترفت التشريعات والفقه والقضاء، وتاريخ النظم القانونية يؤكد ذلك، بنظرية الضرورة ونظرية الموظف الفعلي، كنظام قانوني مستمد من منطق الواقع والضرورة الملحة، معترف به في ظل الازمات التي تمر بها الدولة وتعصف بكيانها، وكان للشريعة الاسلامية دورها الحاسم في تأكيد وتنظيم هذا النظام.
الاصل: سمو الدستور
يعد الدستور القانون الاسمى في الدولة، وهو بمثابة وثيقة عهد بين القائمين على السلطة العامة وبين الشعب ، لضمان ان السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لن تنحرف عن المبادئ والقيم والقواعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يرى الشعب انها تجسيد للشرعية التي يعتقد ويؤمن بها في زمان ومكان معينين، وهكذا قيل ان الدستور يتمتع بسمو على ارادة الحكام وعلى جميع قوانين الدولة ، الاستثناء: سلامة الشعب فوق القانون
الا ان هناك استثناء يرد على مبدأ سمو الدستور. يعطل تطبيقه جزئياً لحماية الدولة والمجتمع في الاوقات العصيبة التي تمر بها ويعرف هذا الاستثناء في فقه القانون بنظرية الضرورة وتكتسب هذه النظرية اهمية خاصة في الأوقات العصيبة التي تمر بها الدولة ، واصل النظرية مقولة رومانية قديمة مفادها ( سلامة الدولة فوق القانون ) او ( سلامة الشعب فوق القانون ).
الفقرة اولا ـ ماهية نظرية الضرورة:
مفاد هذه النظرية ،ان المبادئ الدستورية إنما شرعت للظروف الاعتيادية الطبيعية فإذا تعرضت الدولة لخطر جسيم او ظروف استثنائية كحرب خارجية او داخلية مثل العصيان المسلح او لعمليات ارهابية منظمة او عصفت باقليم الدولة مظاهرات عنيفة غير سلمية او مرت بأزمة اقتصادية او كوارث طبيعية او وباء عام، بحيث تهدد كيان الدولة والمجتمع، وفي مثل هذه الاحوال من الأخطار قد لا تعد القواعد الدستورية والقانونية كافية او ملائمة لمواجهة الخطر بما تتضمنه من قيود على إرادة السلطات العامة وما تتيحه من حريات واسعة للمواطنين. مما تضطر معه السلطات العامة ووفق شروط وقيود قانونية اتخاذ تدابير استثنائية ولو ادى ذلك الى الخروج على مقتضى القواعد الدستورية بما في ذلك تقييد الحريات العامة بالقدر اللازم لمواجهة الخطر ودفع ضرره العام. وفي ضوء ذلك ظهرت في الفقه والقضاء المعاصر نظرية الضرورة التي استندت الى مبدأ روماني قديم مفاده ( ان سلامة الدولة فوق القانون ) والذي يجوز وفقا له وبناء على شروط وضوابط للسلطات العامة ورجالها الخروج على مقتضى القواعد الدستورية والقانونية في حالة الضرورة لاعطائها قدر من الحرية في التصرف دون خشية العقاب او الوقوع في اللامشروعية لانقاذ الدولة من خطر او ازمة اقتصادية او ازمة سياسية او غيرها.
الفقرة ثانياً: مبررات نظرية الضرورة:
يمكن بصورة عامة تبرير خروج السلطات العامة على مقتضى الشرعية الدستورية في اوقات الازمات بما يلي :
1ـ ان سلامة الدولة فوق كل اعتبار ويقوم جوهر نظرية الضرورة على افتراض قيام خطر جسيم وحال، يهدد كيان الدولة ومؤسساتها الدستورية، بحيث لا تجدي القواعد القانونية التي وضعت للظروف العادية في مواجهته، فتجد الدولة نفسها مضطرة لمخالفة الدستور والقوانين العادية من أجل مواجهة هذا الخطر الداهم الذي يهدد كيان الدولة ووفق شروط وضوابط تكاد تتفق عليها اغلب الدساتير.
2ـ لو اجبرت السلطات على تطبيق الدستور والقانون في ظل الاخطار التي تهدد كيان الدولة لادى ذلك الى زوال الدولة ذاتها. ذلك ان من مقتضى مبدأ المشروعية ذاته الابقاء على الدولة، لأنه يفترض ان هناك قاعدة اساسية تنتظم القوانين جميعا مقتضاها وجوب الابقاء على الدولة، ولذلك عندما يكون مصير الدولة او وجودها معرضا للخطر الداهم يصبح إجبار السلطات العامة والادارة على الالتزام بحرفية النصوص القانونية القائمة لا قيمة ولا جدوى منه لانه سيؤدي الى التضحية بالكل من اجل البعض .
الفقرة ثالثاُ: طبيعة نظرية الضرورة:
توجد عدة نظريات لتحديد طبيعة الضرورة، اهمهما نظرية الفقه الألماني ونظرية الفقه الفرنسي التي تبنتها اغلب الدساتير، فضلا عن نظرية الفقه الإسلامي:
أولا : الفقه الألماني ( نظرية الضرورة نظرية قانونية ) :
يعتبر الفقه الألماني نظرية الضرورة نظرية قانونية، ورتب على ذلك عدة اثار منها :
1ـ اذا ما واجه المجتمع والدولة خطراً او ازمة تهدد سلامتهما فان للسلطات العامة مطلق الحرية في اتخاذ ما تراه مناسبا لمواجهتها ولو ادى ذلك الى خروجها على مجمل الضوابط والقيود والقواعد الدستورية والقانونية وقواعد القانون الدولي .
2ـ كل ماتقوم به السلطات في ظل الأزمة والخطر يعتبر سليما وقانونيا ومشروعا ولو خالف الدستور ودون حاجة لاخذ موافقة من احد .
3ـ بما ان نظرية الضرورة نظرية قانونية، فلا يتولد لأية جهة او أي مواطن حق في التعويض عن الاضرار التي تلحقه جراء اعمال الضرورة كالأجرة عن أعمال السخرة او الأضرار التي تلحق ممتلكاته.
وأساس هذه النظرية الفلسفي ان الفقه الالماني، وطبقا لما يعرف بنظرية التحديد الذاتي للارادة التي قال بها هيكل واهرنك، يرى ان الدولة انما تلتزم بالقانون بمحض إرادتها وانه يوجد الى جانب القانون المكتوب قانون عرفي يعطي للدولة الحق في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للمحافظة على سلامتها بما في ذلك مخالفة القواعد القانونية القائمة . وانها حين تخالفها انما تكون ارادتها قد اتجهت إلى إحلال قواعد أخرى تلائم الظروف الاستثنائية لتحل محل القواعد السابقة ،وعلى هذا التفسير لنظرية التحديد الذاتي تعتبر حالة الضرورة مصدراً للقواعد القانونية ، ولهذا السبب سميت بالنظرية القانونية للضرورة .( 8)
ثانيا : الفقه الفرنسي: ( نظرية الضرورة نظرية سياسية):
أختلف الفقه الفرنسي حول طبيعة نظرية الضرورة، وبهذا الصدد ظهر في الفقه الفرنسي اتجاهين، أحدهما يضفي عليها مفهوماً قانونياً .بينما يرى آخرون انها ذات طابع سياسي وواقعي.
ومن انصار الطبيعة القانونية للنظرية كل من ديكي وهوريو الا انهما وبخلاف الفقه الألماني وضعا ضوابط وشروط قاسية لتطبيقها.
ويرى العلامة هوريو أن الحكومة ليس فقط لها لحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية كالحرب ، وإنما عليها واجب اتخاذ هذه الإجراءات لحماية الدولة استناداّ إلى حق الدفاع الشرعي ، فاذا كانت الدولة في مواجهتها لهذه المخاطر تخرج عن إطار المشروعية ، فإنها لا تخرج عن إطار القانون طالما كانت هي في حالة دفاع شرعي.
ويذهب أصحاب النظرة السياسية للمبدأ، وهو الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء الفرنسي، الى أن الضرورة لا تخلق قواعد قانونية ولا تحل محل القوانين القائم، وإن الحكومة إذا اتخذت تحت ضغط الضرورة إجراءات تخالف الأنظمة القانونية القائمة ،فإن هذه الإجراءات تعتبر بحسب الأصل إجراءات غير مشروعة ، فالإدارة ينبغي أن تلتزم بمبدأ المشروعية ليس فقط في الظروف العادية وإنما كذلك في الظروف غير العادية ، حيث غاية ما في الأمر إنه يمكن للإدارة أن تتحاشى المسؤولية الناجمة عن مخالفتها للقانون بأن تعرض على البرلمان الإجراءات التي اتخذتها وتطلب منه أن يعفيها من المسئولية بواسطة قانون بواسطة قانون يعرف في فرنسا باسم قانون التضمينات ، والقضاء هو الجهة الوحيدة المختصة بالفصل في مدى ضرورة اتخاذ الاجراءات الاستثنائية ومدى التزام الادارة بضوابط وقيود هذه النظرية ، وبذلك تكون الضرورة نظرية واقعية لا قانونية.
ومن الجدير بالذكر ان الجنرال ديكول ، الرئيس الفرنسي الاسبق ، قد اشار في الجزء الاول من مذكراته الى حادثين معلقا على احتلال فرنسا سنة 1945 ومشيرا الى نظرية الضرورة، الحادث الاول وقع معه شخصيا، وهو من ساهم بوضع دستور فرنسا لسنة 1958الذي تبنى نظرية الضرورة في المادة (16) منه ، بانه يجب القول بأن النظام في ذلك الوقت لم يكن يسمح لرئيس الحكومة الاخيرة في الجمهورية الثالثة بأن يتخذ أي اجراء ، وان اضمحلال الدولة كان في الواقع ماسأة قومية ، وقد ادى هذا الحادث الى التنبه الى منح رئيس الجمهورية الاختصاصات التي تمكنه من مواجهة الازمات الوطنية ، اما الحادث الثاني فيرحع الى سنة 1851 حيث قاد رئيس الجمهورية الثالثة لويس نابليون انقلابا اقام بعده نظاما دكتاتوريا للحكم ، وكان لذلك الحادث الثاني اثره في في ضبط ممارسة رئيس الجمهورية لسلطاته في حالة الازمة الوطنية بشروط شكلية وموضوعية معينة .(9)
ويترتب على المفهوم السياسي للنظرية عدة اثار :
اولاـ إخضاع نظرية الضرورة لعدد من الشروط والضوابط ، وكما يلي:
الشرط الاول ـ أن يكون هناك ظرف استثنائي حقيقي يتولد عنه خطر جسيم وحال يهدد سلامة وأمن الدولة أو النظام العام كالحرب أو العصيان المسلح أو الإضراب العام ،بحيث لا تجد الإدارة أية فرصة للجوء إلى وسيلة أخرى لمواجهته.
الشرط الثاني ـ أن تكون الإجراءات التي تتخذها الإدارة ضرورية لمواجهة هذا الخطر، أي إستحالة مواجهة هذا الخطر بالطرق العادية وعن طريق المؤسسات الدستورية المختصة. وفحوى هذا الضابط أنه إذا وجدت وسيلة قانونية أو دستورية تستطيع أن تواجه المخاطر التي تهدد سلامة الدولة ، فإنه يجب الرجوع في تلك الحالة إلى هذه الوسيلة ، أما إذا كانت المخاطر لا تجدي معها نفعاً هذه الوسائل بحيث تصبح عاجزة عن مجابهتها ، فإن الرجوع إلى نظرية الضرورة وتطبيقاتها يكون أمراً لا مناص منه .
الشرط الثالث ـ أن تكون الإجراءات التي تتخذها الإدارة متناسبة مع حالة الضرورة فلا تتجاوزها لإن الضرورة تقدر بقدرها.
.ثانياً ـ تخضع إجراءات وأعمال الإدارة الاستثنائية لرقابة القضاء ولكل ذي مصلحة ان يطعن بإجراءات السلطات الاستثنائية امام القضاء. ويضفي مجلس الدولة الفرنسي صفة المشروعية على الإجراءات التي تقوم بها الإدارة من أجل التغلب على الظروف الاستثنائية شريطة التقيد بالضوابط والشروط اللازمة.
ثالثا ـ ان تتوقف السلطات عن هذه الإجراءات بمجرد انتهاء الظروف الاستثنائية.
رابعاَـ استنادا لمبدأ مساواة المواطنين امام التكاليف العامة فان لكل متضرر من جراء اعمال الضرورة الحق في الحصول على تعويض . وترتيب مسؤلية الدولة في هذا المقام يأتي خلاف الاصل المستقر في قواعد المسؤولية المدنية التي تقوم على ثلاث اركان هي ، الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما ، الا ان استعمال السلطات لسلطاتها الا ستثنائية وفقا للشروط والضوابط الدستورية لا يمكن ان يعتبر عملاً خاطئاً لان اساس الضرورة هو مخالفة الدستور والقانون ، وهكذا اوجد القضاء نظام المسؤولية دون خطأ لتعويض المواطنين المتضررين كمقابل للسلطات الاستثنائية الخطيرة التي تتمتع بها هذه السلطات في الظروف الاستثنائية تطبيقاً لمبدأ مساواة المواطنين امام التكاليف العامة .(10)
ثالثا ـ نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي:
اقرت الشريعة الاسلامية نظرية الضرورة في وقت مبكر سبقت فيه الشرائع الحديثة بعدة قرون حيث اشارت اليها بوضوح النصوص القرآنية الكريمة والسنة السنة النبوية الشريفة ، وتولى فقهاء الشريـعة دراسة هذه النصوص واستنبطوا منها قواعد كلية وفرعية في العبادات والمعاملات ، وبنوا احكامها الشرعية على مستلزمات الضروريات الخمس وهي ( حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل) وذهبوا الى أن المحافظة على هذه الضروريات الخمس تبيح مخالفة التكاليف الشرعية بعد ان اشتقوا لها احكاما وشروطا وقيودا من مصادر الحكم الشرعي وقسموا الحكم الشرعي بأعتبار عمومه الى عزيمة ورخصة.
وعرف بعضهم الضرورة بانها ( خوف من الهلاك على النفس أو المال سواء أكان هذه الخوف علماً أي أمراً متيقناً أو ظنناً يراد به الظن الراجح وهو المبني على أسباب معقولة) .
وتقوم نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي على قاعدتين هما ، قاعدة المشقة تجلب التيسير وقاعدة لا ضرر ولا ضرار .
اولا : المشقة تجلب التيسير:
ويقصد بها أن المشقة التي تخرج عن المعتاد تجلب التيسير، وتتحقق هذه المشقة إذا كان من شأن التكليف ايقاع الضرر بالمكلف في نفسه اوماله او في ما يعد من ضروريات حياته ومعاشه.
.وتدخل هذه القاعدة في باب الرخص، ومن ادلة القاعدة قوله تعالى ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ) ، وقوله تعالى ( فَمَنِ اضطُرَ غَيرَ بَاغٍ ولاَ عَادٍ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ إِنَ اللَهَ غَفُورُُ رَحِيمُُ ) ،وقوله تعالى ( ما يُرِيدُ الله لِيَجعَل عَلَيكُم مِن حَرَجٍ ) (11) .
وحديث الرسول الامين صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).
ويتفرع عن هذه القاعدة الأصولية عدد من القواعد منها :
1ـ قاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات )، ومن تطبيقات هذه القاعدة ( إباحة شرب الخمر لدفع العطش لمن أشرف على الهلاك ولم يجد سوى الخمر ، جواز النطق بكلمة الكفر للمضطر ، إباحة أكل الميتة عند الضرورة )
2ـ قاعدة ( الضرورة تقدر بقدرها ) ، ومفادها أن المضطر لا يأكل ولا يشرب من الاشياء المحرمة إلا ما يسد به رمقه .
ثانياً : لا ضرر ولا ضرار : وسندها حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال (لا ضرر ولا ضرار ) ويتفرع عن هذه القاعدة عدد من القواعد منها ) الضرر يزال بقدر الإمكان) وقاعدة ( يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام) وقاعدة ( الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وقاعدة( الضرر لا يزال بالضرر) وقاعدة ( درء المفاسد اولى من جلب المصالح ) .
ومن ذات المصادر الشرعية استنبط فقهاء الشريعة احكاما وشروطا وقيوداً لتطبيق حالة الضرورة منها ان الضرورة تقدر بقدرها ، وان يكون الخطر الذي يبرر الاضطرار جسيما وحالا ، وان لا يوجد طريق غيره لدفع الخطر ، والعودة للحكم الشرعي الاصلي عند زوال اسباب الاضطرار .
ومن تطبيقات ذلك أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد عطل انزال حد السرقة في عام المجاعة والذي يعرف في التاريخ الاسلامي بعام الرمادة. (12)
الفقرة رابعا: تطبيقات نظرية الضرورة في التشريع والقضاء:
نظرية الضرورة في العصر الحديث بناء قانوني شيد صرحه قضاء مجلس الدولة الفرنسي، حقاً ان هناك قوانين خاصة لمعالجة الظروف الاستثنائية توسع من صلاحيات السلطات العامة واختصاصاتها في احوال الضرورة الا ان السلطات الاستثنائية المستمدة من النظرية القضائية اوسع مدى من من السلطات المستمدة من هذه القوانين الخاصة لانها تضيف لها سلطات جديدة ، فضلا عن ان مشرع القوانين الخاصة لا يمكن ان يتوقع كل الظروف الاستثنائية وملابساتها ، لذلك كانت النظرية القضائية هي المصدر الاساسي لسلطات الادارة الاستثنائية تحت مختلف الظروف .
تغطي نظرية الضرورة النظام القانوني برمته.وقد نصت عليها دساتير معظم الدول وذلك استثناءا من مبدأ الفصل بين السلطات بينما تبناها القضاء في بعض الدول دونما نص خاص وانما على أساس التوسع في تفسير النصوص. حيث نصت عليها المادة (16) من دستور فرنسا لسنة 1958 والمواد(74،108،147 ، 148) من الدستور المصري لسنة 1971 والمادة (71) من الدستور الكويتي والمادة(36) من دستور مملكة البحرين ، والمادة(61)من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 . وفي الولايات المتحدة الامريكية واثناء حرب الانفصال وضع الرئيس الامريكي لنكولن النظرية محل التطبيق لمواجهة خطر الانفصال دون وجود نص دستوري يجيز وقف تطبيق الاحكام الدستورية المتعلقة بحقوق الافراد ، الا ان الكونكرس صادق بعد ذلك على اجراءات الرئيس بناءاً على قناعته بان مصلحة الامة الامريكية اقتضت ذلك.
ونصت المادة 147 من دستور جمهورية مصر العربية على انه ( اذا حدثت في غيبة مجلس الشعب ما يوجب الاسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير ، جاز لرئيس الجمهورية ان يصدر في شأنها قرارات يكون لها قوة القوانين ...)
وجاء في المذكرة التوضيحية للمادة (36) من دستور مملكة البحرين( لما كانت القاعدة الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات ، وكانت سلامة الدولة فوق القانون ، ونظرا لما يمكن أن تتعرض له المملكة من ظروف طارئة تهدد سلامة البلاد ، سواء أكانت هذه الظروف خارجية كالحرب أم داخلية كاضطراب الأمن العام أو حدوث فيضان أو وباء أو ما شابه ذلك ، كان من الضروري منح سلطات الدولة الوسائل الاستثنائية التي تكفل حماية الدولة وسلامتها في تلك الظروف ...)
وقد قضى مجلس الدولة الفرنسي بصحة مرسوم أصدره رئيس الجمهورية في 10 سبتمبر 1914م يقضي بإيقاف المادة 65 من قانون 22 إبريل 1905م الخاص ببعض ضمانات الوظيفية ، خلال فترة الحرب ، وقد رأى مجلس الدولة الفرنسي أن هذا الإيقاف يعد مشروعاً ، وفي ذلك اعتراف بحق الحكومة في وقف كل الضمانات الفردية ودون إذن تشريعي وهو ما يعني إمكانية الحكومة الاعتداء على مبدأ المشروعية متمثلاً في القاعدة الدستورية الأساسية التي تقضي بخضوع اللائحة أو المرسوم للقانون وعدم تعارضه معها . ولتبرير ذلك الموقف استند مجلس الدولة إلى نص المادة الثالثة من دستور 1875م (النافذ في حينها) والتي تحمل رئيس الدولة مهمة الإشراف على تنفيذ القوانين على أساس أن هذا الإشراف على القوانين سيما المنظمة للمرافق العامة يقتضي منه السهر على سير المرافق دون توقف أو تعطل وخاصة زمن الحرب حتى لو أدى ذلك إلى خرق القوانين الأخرى التي ينتج عن تطبيقها إعاقة سير المرافق العامة بانتظام ، وهكذا فإن بعض القوانين يجب ضمان تطبيقها في زمن الحرب لأنها تسمح بسيرالمرافق العامة ، ولكن البعض الآخر يعوق هذا السير الذي ينبغي عليه أن يتوقف ، كما قضى بصحة قرارات اتخذتها الادارة في ظل الظروف الاستثنائية رغم كونها معيبة بعيب عدم الاختصاص لتجاوز الادارة على اختصاص السلطة التشريعية عندما تناولت تنظيم مواضيع معينة بمنشورات خلافاً للاصل في ان هذه المواضيع يجب ان ينظمها المشرع بقوانين ، وقراره بصحة قرارات معيبة بعيب مخالفة القانون اتخذتها الادارة في ظل الظروف الاستثنائية مثل قرارات القاء القبض وحجز الاشخاص والاستيلاء على الاملاك مؤقتاً دون اذن قضائي .(13)
ولنظرية الضرورة تطبيقاتها في القانون الجزائي ففي حالة الدفاع الشرعي لا يسأل جزائياً من ارتكب فعلاً دفعته لارتكابه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس أو المال (14).
وكذلك في القانون الخاص الذي تبنى نظرية الظروف الطارئة ، ويأخذ القضاء الادراي بنظرية الضرورة أيضاً في مجال القانون الإداري ، حيث لم يعتبر مجلس الدولة الفرنسي الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي خطأ من جانب الإدارة ، إذا كان سوف يترتب على تنفيذه إخلال جسيم بالأمن العام ، وتقرر هذه النظرية للإدارة الحق في القيام بالإجراءات المستعجلة اللازمة لدفع كل خطر يهدد الأمن أو الصحة العامة دون تقيد بالقوانين واللوائح . بل وتسمح هذه النظرية للإدارة بتعديل إلتزاماتها التعاقدية ، كما تقرر هذه النظرية للمتعاقد مع الإدارة حقوقاً تسمح بإعادة التوازن المالي للعقد إذا طرأت ظروف استثنائية أثرت على هذا التوازن .(15)
الفقرة خامساً: الصفة الدولية لنظرية الضرورة:
أضفت قواعد القانون الدولي العام الصفة الشرعية على نظرية الضرورة وأجازت عدم الالتزام بالقواعد الدولية الضامنة للحقوق والحريات العامة في حالة الطوارئ وفقا لشروط وضوابط معينة. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 على انه ( 1. في حالة الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة ، والمعلن قيامها رسمياً ،يجوز للدول الأطراف في هذا العهد ان تتخذ ، في اضيق الحدود التي يتطلبها الوضع ، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد ، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليه بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الأصل الاجتماعي ) (16)
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
1ـ انظر د. احسان حميد المفرجي و د. كطران زغير نعمة ، د. رعد ناجي ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، كلية القانون ـ جامعة بغداد ، 1990 ص 164 وما بعدها ، وانظر كذلك د. يحى الجمل ، القضاء الدستوري في مصر ،تنضيد الكتروني ، الفصل الاول ، المبحث الاول ، وانظر كذلك د. محمد كامل عبيد – نظم الحكم ودستور الامارات دراسة تحليلية مقارنة لدستور الامارات –2002- أكاديمية شرطة دبي ص 144.
2ـ انظر د. احسان حميد المفرجي و د. كطران زغير نعمة ، د. رعد ناجي ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، مصدر سابق، ض 164 وما بعدها
3ـاحكام المحكمة الدستورية العليا عن المستشار سناء سيد خليل، النظام القانوني المصري ومباديء حقوق الانسان ،كتاب تنضيد الكتروني نشر البوابة القانونية ـ شركة الخدمات التشريعية ومعلومات التنمية .
4ـ الحكم الصادر فى القضية رقم 16 لسنة 15 قضائية دستورية جلسة 14/1/1995 والمنشور بالجريدة الرسمية(المصرية) رقم (6) لسنة 1995 بتاريخ 9/2/1995.
5ـ الحكم الصادر فى القضيـة رقم 3 لسـنة 16 قضائيـة دسـتورية جلسـة 4/2/1995، نشر بالجريدة الرسـمية(المصرية) رقم (9) لسـنة 1995 بتاريخ 6/3/1995 (.
6ـ الحكم الصـادر فى القضيـة رقم 52 لسـنة 18 قضائية دستورية، جلسة 7/6/1997، والمنشور بالجريدة الرسـمية (المصرية) رقـم (25) لسـنة 1997 بتاريخ 19/6/1997 .
7ـ انظر بصدد فقه المدرسة الالمانية ، ص193 ما بعدها، د. ثروت انيس الاسيوطي ، المنهج القانوني بين الرأسمالية والاشتراكية ـ دراسة في سوسيولوجيا الفكر القانوني، مجلة مصر المعاصرة ، السنة التاسعة والخمسون ، العدد 333، يوليو 1968،مصر. وكذلك انظر د. احمد فتحي سرور،القانون الجنائي الدستوري ،مصدر سابق هامش ص 558
8ـ د. احمد فتحي سرور،القانون الجنائي الدستوري ،ط2 ، 2002 ، ص 558.
9ـ انظر بصدد هذه النظرية، د. احسان المفرجي و د. كطران زغير نعمة ، د. رعد ناجي ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، مصدر سابق ، ص 167 ومابعدها ويشير في هامش ص 167 الى ان ( وتستمد هذه النظرية مدلولها من القاعدة الرومانية القديمة التي تقول ( ان سلامة الشعب فوق القانون ) ) وانظر كذلك د. محمود حافظ ، القضاء الاداري في القانون المصري والمقارن ، ، دار النهضة العربية ، 1993 ص52 وما بعدها . د.ابراهيم عبد العزيز شيحا ، القضاء الاداري ـ دعوى الالغاء ، الناشر منشأة المعارف بالاسكندرية ،2006 ، ص 14 وما بعدها. وانظر كذلك سامي جمال الدين ،لوائح الضرورة وحالات الرقابة عليها ، منشأة المعارف، ص23 وما بعدها.و د. احمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري ، مصدر سابق ص 551 وما بعدها.
10ـ استاذنا الدكتور عصام البرزنجي ، محاظرات في القضاء الاداري للمرحلة الثالثة ، كلية القانون ـ جامعة بغداد ، للعام الدراسي 1996ـ1997.
11ـ (البقرة 185)، (البقرة: 173(، (المائدة 6).
12ـ د.يوسف قاسم ، نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الاسلامي والقانون الجنائي الوضعي ، دار النهضة العربية ، 1993م ، ص 80 ، وكذلك يسري العصار ، نظرية الضرورة في القانون الدستوري والتشريع الحكومي في فترات ايقاف الحياة النيابية ـ دراسة مقارنة ، مجلة المحامي ،السنة العشرون ، 1996، ص17 .وكذلك محمد مدكور ، مدخل للفقه الإسلامي ، دار النهضة العربية ، ص275 ، 279 .
13ـ د. عصام البرزنجي ، محاظرات في القضاء الاداري ، مصدر سابق ، وكذلك د. سامي جمال الدين ، ،لوائح الضرورة وضمانة الرقابة القضائية عليها ، منشأة المعارف الاسكندرية ، 1982 ، ص 29.
14ـ انظر المواد 42، 34، 45، 46 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل.
15ـ يسري محمد العصار ـ نظرية الضرورة في القانون الدستوري مصدر سابق ، ص21 وما بعدها، ،كذلك انظر د. محمود حافظ ،القضاء الاداري في القانون المصري والمقارن ، ، دار النهضة العربية ، طبعة سنة 1993، ص 58 وما بعدها .
16ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة 2200 ألف (د ـ 21) المؤرخ في 16 كانون/ديسمبر 1966 ، تاريخ بدء النفاذ 23 مارس 1976 ، وفقاً لأحكام المادة 49 منها .
1008 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع