مدارس غارقة في الطين, ومدارس يطوقها الطين, ومدارس جدرانها من طين, وسقوفها من طين, ومدارس مطينة بستين طينة, والتعليم فيها بالرطين والترطين. .
أنا شخصيا من الذين تعلموا ألف باء القراءة والكتابة في ستينيات القرن الماضي في مدرسة كانت إدارتها مبنية بالطين (مدرسة الخورنق الابتدائية), وصفوفها مبنية بالقصب والبردي, على شكل (صرائف), مفردها صريفة: وتعني بيت القصب باللغة السومرية, التي تركت رواسبها في لهجتنا الجنوبية منذ اليوم الذي تعلم فيه جلجامس مبادئ الكتابة المسمارية على ألواح الطين وحتى اليوم الذي غرقنا فيه بالطين والأوحال. .
ربما انحسرت ظاهرة مدارس الطين قليلا من أريافنا في الوقت الراهن, لكن مقاعدها وقاعاتها وممراتها وساحاتها والطرق المؤدية إليها ظلت تعاني من تراكمات كولسترول الأطيان, ولم تتخلص من ارتباطاتها الوثيقة بتراثنا الطيني, حتى ظن التلاميذ الصغار إن الطين هو الصفة المتأصلة في كروموسومات التعليم الابتدائي والثانوي في المناطق الريفية النائية, باستثناء بعض القرى التي شملتها الرعاية (الثورية) المشبعة بروح التحيز القبلي, فظهرت فيها مدارس تضاهي مدارس (ويلز) من حيث التصميم الهندسي المتكامل, ومن حيث الملاعب والمختبرات التخصصية, حيث تجد مختبر للفيزياء, وآخر للكيمياء, ومختبر للأحياء, والحاسبات, وقاعات مغلقة لكرة الطائرة وكرة السلة, بأرضيات مكسوة بالتارتان. .
http://www.youtube.com/watch?v=lyDAU9u5UzU
من المؤسف له ان الحشرات والديدان والزواحف والقوارض الريفية ظلت عندنا على طبيعتها المتخلفة, ولم يتحسن سلوكها في الألفية الثالثة, فاتخذت من مدارسنا الطينية ملاذا استراتيجيا لها, فتكاثرت وتناسلت وترعرعت في أركان مدارسنا وزواياها وثقوبها, ولن تنفع معها أقوى المبيدات. .
لم نكن فيما مضى نحس بتطفلها على محرمات مدرستنا, فهي في نظرنا تعيش في بيئتها الطبيعية التي ننتمي نحن إليها, بل كنا بشقاوتنا نلهو معها في فترات الاستراحة, فنطارد (أبو بريص) ونحاصره في شقوق الجدران الطينية, ثم نأتي بكميات من الطين من أقرب بركة من برك المدرسة لنسد عليه الثغور, ونفرض عليه السبات القسري. .
أحيانا تمزح معنا البراغيث السود, فتتسلل تحت جواربنا القطنية, وتسرق منا متعة دروس النشيد, وأحيانا نتنافس مع الأرانب البرية في سباق الضاحية, فنطاردها عبر بساتين النخيل والحناء, وأحيانا تسرح قطعان الأغنام والأبقار وتمرح في ساحة مدرستنا في ظاهرة لم تحدث حتى في شبه القارة الهندية. .
لم يكن معلم الأحياء بحاجة إلى الكثير من الجهد والعناء حتى يوضح لنا دورة حياة الكائنات البرمائية, فالضفادع متواجدة دائما معنا في مستنقع المدرسة, أما حيوان (الهيدرا) فكان منتشرا في السواقي الضحلة القريبة من سياج المدرسة, وهو من الحيوانات البدائية (الجوفمعوية), كنا نوخز لوامسه الشعرية البيضاء بأقلام الرصاص فتنكمش وتتكور في قعر الساقية. .
كانت مدارسنا من طين ولم تكن آذاننا من عجين, أما اليوم فقد صارت الفضائيات العربية والأجنبية هي النوافذ التي يطل منها التلاميذ على العالم الخارجي, فينظرون إلى المدارس التركية الحديثة والأمريكية المتطورة والخليجية بجنائنها الجميلة وألعابها المسلية, فيقارنون أوضاعهم البائسة مع مدارس العالم, فتنفطر قلوبهم الصغيرة من القهر, فيحسون بالدونية لافتقارهم إلى ابسط المستلزمات, التي ينبغي توفرها في مدارسهم السومرية الطينية. .
http://www.youtube.com/watch?v=MjbOG7b5fig
جربنا الدوام المدرسي الثنائي, ثم جربنا الثلاثي, حتى جاء اليوم الذي سمعنا فيه بالدوام الرباعي, أربع مدارس في بناية متهالكة واحدة, فاكتظت قاعات الدروس بالطلاب, وكادت تنفجر بأعدادهم المتزايدة. .
يفترشون الأرض كما الهنود الحمر, ويبتهلون إلى الله لإنزال الأمطار على مدرستهم حتى تمتلئ مستنقعاتها بالمياه وتغرق في المحيط الطيني مثلما غرقت التيتانيك في المحيط الأطلسي, فيحصلون على عطلة مجانية طارئة تضاف إلى جدولهم المثقل بالعطل الرسمية والدينية والكيفية والمزاجية. .
والله يستر من الجايات
911 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع