د. عمر الكبيسي
صفحات من دفتر النكبة العراقية/تركيا العثمانية (4) تركيا العثمانية
تركيا سليلة الأمبراطورية العثمانية كما صرح اوردغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم لثلاث دورات انتخابية ، لا تجد مبررا لأن تقحم نفسها وتندفع للمشاركة الفاعلة بأي مشروع امريكي او غربي او صهيوني توسعي في المنطقة العربية ، اعتقادا منها ان نكبة العرب جاءت بعيد سقوط الدولة العثمانية والتي اسفرت عن تقسيم العرب الى دويلات تحت هيمنة الحلفاء المنتصرين وفقا لمعاهدة سايكس بيكو والتي مهدت لوعد بلفور وقيام دولة اسرائيل الخاصرة القاتلة في قلب العالم الاسلامي فلسطين.
تهتم القيادة التركية في بناء نظام سياسي مؤطر بإسلام وسطي غير متطرف يهدف لإحداث تنمية اقتصادية كفيلة ببناء دولة قوية قادرة على التعايش بتوازن مع الدول المحيطة بها، وإيران على رأس هذه الدول التي تخشى تركيا قوتها وارثها وكيدها التاريخي ودورها في المنطقة على امتداد التاريخ حين كان العراق يشكل مركز الصراع بينها وبين الفرس واقوام أخرى . النهج التركي في بناء الدولة العصرية بمنظور قيمي يختلف عن النهج الايراني الذي يعتمد على التمدد والتوسع دون الاعتبار لإيجاد تنمية واقتصاد رصين يكون أساسا حتى لمشروع التوسع الذي تنشده ، ولهذا تحسب ايران الاسلامية دولة ضعيفة ومفككة ومهددة داخليا بالانقسام فيما تحسب تركيا الحديثة دولة اسلامية قوية صاعدة . تركيا تدرك جيدا ان الرفاه الاجتماعي الذي تحققه لشعبها يغنيها ويخفض من طموح شعبها للإنضمام للإتحاد الاوربي وسوقه الاقتصادية المشتركة والتي اصبحت عضويتها فيه موضع ابتزاز يمس بسيادتها ناهيك عن انها بدأت تنخر بنفسها .
تجد تركيا ان دورها وعلاقاتها ومسئولياتها في المنطقة لها خصوصية لكونها عضواً في حلف شمال الأطلسي وتعمل على ايجاد صيغة توازن في هذه المعادلة ، بهذا التفكير لا تنحنى تركيا اليوم ولا تنحي بسهولة وتحذر من بوادر اي مشروع توسعي في المنطقة يؤثر او ينعكس على العلاقة مع جيرانها ومحيطها العربي والاسلامي وتدرك اهمية بناء استثماراً اقتصادياً متيناً تتنافس في تحقيقه مع دول منافسة عديدة.
الكثير من ساسة العراق الجدد بعد الاحتلال تحدثوا عن أطماع تركية في العراق دون ان يستطيعوا تقديم اي دليل واقعي يثبت ذلك على الأخص فيما يتعلق بوحدة العراق ، إذ لا يوجد دليل ان تركيا تتبنى قيام إقليم سني تقسيمي في العراق ، مع انها تتحفظ على سياسة التهميش للمكون السني في العراق بل تتعاطف مع تطلعات المكون لتحقيق مطالبه وحقوقه المشروعة وتحتضن مؤتمرات وفعاليات لا تخرج عن نطاقها التنظيري والتوافقي لمساندة حق المكون السني بنيل حقوقه وهي لغاية اليوم لازالت ترى في العملية السياسية القائمة في العراق امل في التقويم والتغيير على عكس ما يعتقده غالبية المعارضين للسلطة الحاكمة فيه . التهديد بحرب المياه بين العراق وتركيا اسطوانة قديمة مطروقة لم تتطور يوما ولا يمكن ان تسفر الى مواجهة عسكرية او توسعية ، تعزى لقصور خدمي للأنظمة الحاكمة سواء في التنافس على الاستغلال الامثل او التقصير بتحقيق خطط اروائية ناجعة لتوزيع الثروة المائية . لم نسمع عن وجود أي تهديد بدخول قوات عسكرية تركية الى العراق حتى من خلال كونها عضوا في الاطلسي في مشروع يحمل تهديدا مباشرا للعراق أرضا وشعبا . لم تهدد تركيا العراق عسكريا الا عندما اقتربت القوات الإيرانية من البصرة عام 1986 وافصحت عن إقامة الدولة الاسلامية فيها إبان الحرب العراقية الايرانية بحقها في ولاية الموصل ان حدث ذلك بتوافق دولي كما ان هناك تلميحات و ردود فعل مشابهة بسبب هيمنة تنظيم الدولة على الموصل . وجود تركيا الحديثة بقيادتها الجديدة يشكل عامل توازن في المنطقة بالرغم من اشتداد وتعقد النكبة العراقية . الاسلام الوسطي الذي يأخذ بتجارب الدولة المدنية الحديثة في إطار المواطنة والتساوي بالحقوق والواجبات هو اساس نهج حزب العدالة والتنمية في تركيا وقد نجح في ترسيخ نهجه في تركيا بالرغم من حالة التطبيع المجتمعي الذي اوجدته حقبة الحكم العلماني التي اعقبت سقوط الدولة العثمانية .
التنظيمات الاسلامية المتطرفة شيعية وسنية التي تقوم على نهج القوة والسيف من أجل اعادة نمط الخلافة الاسلامية الأولى وفق عقيدة فكرية مستوحاة من حالة الضعف والتهميش والرداءة التي تمارسها الأنظمة الحاكمة ومستندة الى نصوص شرعية ذات خصوصية في التنزيل وتجارب حركات متطرفة برزت في حقب تاريخية مظلمة وزاهرة بتاثير الغلو الفكري الموروث والمتجدد بتاثير حضاري يختلف كثيرا بل يحسب خصما وندا للفكر والنهج التركي الحالي في فلسفة المفهوم والتطبيق كونه نهج علماني لكنه لا يقبل ان تقف الدولة بالضد من الدين ، وإذا كانت تركيا بفترات حملات الغزو على افغانستان واجنداته الدولية قد تعاطفت مع حركات الاسلام السياسية التي حملت السلاح بوجه الغزاة ،مثل هذا التعاطف لم يكن محصورا بارادة الدولة بقدر ما كان يشكل موقفا شعبيا جماعيا لكل الشعوب الاسلامية التي وجدت في قتال المجاهدين الافغان بوجه الاحتلالات الأجنبية واسنادهم يشكل شرعية دينية ووطنية لم تكن الانظمة القومية الحاكمة قادرة على كبح جماح ذلك التعاطف .
الحكومة التركية التي تنصب العداء لحزب العمال الكردستاني الذي كان يشن عملياته العسكرية الإرهابية من شمال العراق ، لم تزج بقواتها العسكرية لصد هجمات هذا الحزب الا من خلال اتفاقيات عقدتها مع النظام السابق ومع سلطة الاحتلال و حكومة الاقليم الكردي بعد الاحتلال .
(كوباني ) وتعقيداتها وردود الفعل الإقليمية والدولية حول الصراع فيها بين تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني تشكل سرا غامضا عندما تحتل وتتصدر طبيعة الصراع وتحتل اهتمامات الإعلام . احتلال عواصم عربية كطرابلس وبنغازي وصنعاء والحديدة ونينوى وصلاح الدين والانبار من قبل تنظيم الدوله والتنظيمات المتطرفة الاخرى، وقصف دمشق بالبراميل المتفجرة من قبل النظام السوري لم يحتل مكانة اعلامية ودولية كتلك التي احتلتها كوباني لتصبح موضع اهتمام الادارة الامريكية والتحالف الدولي بالاسراع لنجدتها . قد يكون السر متعلق بكون ان سكان الناحية هم أكراد سنة سوريون وانها قد تشكل بهذه المكانة نواة الاقليم الكردي الذي سيعلن عن تشكيله ضمن مشروع التقسيم الامريكي المعد للإشهار في وقته ، وأن احتلال تنظيم الدولة له باعتباره ارض تابعة لخلافة اسلامية سيقف عثرة تحول دون هذا الاعداد المسبق وهو نفس التفسير الذي ينطبق على سرعة الرد الامريكي على تقدم تنظيم الدولة الى اربيل عاصمة الاقليم الكردي وتهديده لها والذي اعتبرته الإدارة الأمريكية خطا احمر يهدد قواعدها وتحضيراتها لمستقبل اقليم يحسب انه قاعدة امريكية بديلة او رديفة لدولة اسرائيل في المنطقة ، اما التفسير الثاني فيعود للأهمية الجغرافية للناحية وهي ناحية حدودية مع تركيا وتريد امريكا من خلال موقعها الحدودي ان تصنع منها ذريعة بكل الوسائل لسحب تركيا الى حاضنة التحالف الدولي وهي عضو في حلف شمال الاطلسي ، وهذا ما تحاول القيادة التركية تفاديه بشتى الوسائل من خلال فرض شروطها التي تجد بها ضمانات قوية لتجنب ازدواجية التحالف الدولي في التعامل مع واجهات الارهاب في سورية والعراق .تتعاطف تركيا وتساند التنظيمات المعتدلة في سوريا وتعلن جهارا وقوفها مع المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد معتقدة ان كافة الوسائل السلمية التي استخدمتها مع الأسد لتقويم النظام قد استنفذت وبالتأكيد ان ذلك كان على حساب استثمارها الاقتصادي الضخم مع سوريا ، الذي عوض عنه النظام السوري بفتح ابواب التبادل الاقتصادي مع إيران والعراق ومن خلاله، تعاطفت تركيا مع جبهة النصرة ادراكا منها ان تختلف عن بقية التنظيمات الاسلامية المتطرفة بالفكر والمنهج وتعمل على ايجاد حالة توافق مع اطراف المعارضة السورية الوطنية المعتدلة ، وربما لعبت دور المفاوض عن النصرة مع الادارة الامريكية ، خلافا عن موقفها من بقية التنظيمات المتطرفة كما ترفض تركيا ان تكون حدودها مع سوريا تحت قبضة الاحزاب الكردية السورية المعارضة لها . حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في كوباني يصطف كحزب معارض لحكومة تركيا ، وبالتالي فأن من حق تركيا ان تحرص الا يصل السلاح الى حزب معارض لها يحتمل ان يستخدم ذلك السلاح داخلها ، كان ممكن ان تقف الحكومة التركية بصلابة ضد حزب معارض لها انتقاما وتمنع دخول افراده لاستخدام الاراضي التركية كممر الى كوباني ولكن المؤشرات لا تدل على ذلك فهي وافقت على دخول هذه القوات بضمانة سيطرتها على الدخول كما وافقت على تدريب قوات البيشمركة العراقية في معسكرات تركية لمجابهة تنظيم الدولة . الحكومة التركية تحرص على علاقات جيدة مع الاقليم الكردي ومع السلطة في بغداد في آن واحد ، وهذا الموقف يعلل الموقف التركي من قضية تصدير النفط من الاقليم الكردي من خلال اراضيها دون الرجوع الى موافقة الحكومة المركزية . لو كان لتركيا موقف معارض وحاد لسلطة ما بعد الاحتلال في العراق ، لكان لإوردكان تصريحات صريحة ومواقف معلنة كتلك التي أطلقها ضد اسرائيل وعدوانها المتكرر في حرب غزه ومؤتمر دافوس وحادث مرمره والتي لا يطال لها أي موقف معلن لأي حاكم عربي . تركيا لغاية اليوم لم تكن طرفا محرضا او مندرجا باحداث العراق ونكبته الا بقدر الحفاظ على أمن شعبها وسيادتها مع عراق ما بعد الاحتلال .
تركيا في كل الاحوال تعمل لأن يستمر دورها المشروع في المنطقة وتحافظ على عضويتها في حلف الأطلسي وتبقى طامحة بالانظمام الى الاتحاد الاوربي مع انها تختلف مع الولايات المتحدة في سياساتها في العراق وتختلف بنفس الوقت مع سياسات روسيا وبوتن فيما يخص الموقف من النظام السوري وأزمة اوكرانيا والموقف من نظام السيسي في مصر ولكنها تحافظ على علاقات اقتصادية متينة معها ، يتمنى أحد كتابنا السياسيين البارزين ان يرزق الله امتنا العربية بحاكم واحد يحمل مواصفات اوردغان في مبدئية المواقف وإدامة المصالح لتركيا الناهضة .
1391 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع