ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / الحلقة الثالثة

                                             

ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ ح3

                  

  

      

   

* وقوع كردستان الجنوبية تحت السيطرة العربية
لو أن بريطانيا تأكدت من أن هذه الحقوق المتبقية – التي تعهدت بها عصبة الأمم لمصلحة الحكومة العراقية الناشئة ولمصلحتها – سوف تتحقق فعليا لربما تخلت عن مسؤوليتها في جنوب كردستان دون أن يمس الكثير من شرفها. ولكنها، بدلا من ذلك، تركت الأكراد عمدا لحكومة عربية تنوي التملص من هذه العهود.
في أواخر العشرينيات من القرن الماضي بدا أن الأكراد راضون نسبيا عن نصيبهم. ضمنت بريطانيا باتفاقها الجديد مع الحكومة العراقية في كانون الثاني عام 1926م بناء على توصية من عصبة الأمم مسؤوليتها، بصفتها دولة منتدبة، لخمسة وعشرين عاما إلا إذا تم قبول العراق عضوا في عصبة الأمم. وقد وضعت أمام مجلس العصبة "الإجراءات الإدارية التي سوف تتخذ بعين الاعتبار صيانة الضمانات بخصوص الإدارة المحلية للسكان الأكراد وفق ما أوصت به لجنة التقصي ..." ( )

     

بعد عدة أيام، وفي 21 كانون الثاني /جانفي عام 1926 تحديدا، حذّر رئيس الوزراء العراقي، عبد المحسن السعدون، مجلس النواب:
"لا يمكن لهذه الأمة أن تعيش ما لم تمنح كل العناصر العراقية حقوقها... إن مصير تركيا يجب أن يكون عبرة لنا ويجب أن لا نعود إلى السياسة السابقة التي اتبعتها الحكومة العثمانية من قبل. يجب أن نعطي للأكراد حقوقهم. يجب أن يكون موظفوهم منهم أنفسهم، ويجب أن تكون لغتهم الكردية اللغة الرسمية، يجب أن يتعلم أطفالهم لغتهم الكردية في المدارس. إنه من الواجب علينا أن نعامل كافة العناصر، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين، بالعدل وإعطائهم كافة حقوقهم"( ).
كان هناك لغط غريب من السخط. ففي شباط عام 1926 مثلا جرت محاولة غير مثمرة لحشد النواب الأكراد في كركوك لتقديم طلبات بخصوص استعمال اللغة الكردية والإدارة الكردية المقترحة. على العموم بدا وكأن المنطقة قد ضمت بمحض إرادتها إلى الدولة العراقية، مع بقاء بريطانيا في دورها الإشرافي للطمأنة.
خلال عام 1930 تفاوضت بريطانيا وبغداد على مشروع معاهدة 1930م التي يمكن أن يصبح العراق بموجبها دولة مستقلة في عام 1930. لقد كانت بريطانيا واثقة من الاستئجار المجاني للقواعد الجوية وشبكة الطرق الإستراتيجية التي تريدها في العراق، وهي امتيازات أدرك الشعب العراقي أنها كافية للحصول على الاستقلال الذي تفكر به بريطانيا؛ ولم تذكر حتى كلمة واحدة بخصوص الوضع الخاص للأكراد، كما نص على ذلك بيان عصبة الأمم في 1926.
لو أن العراق نفذ شروط عصبة الأمم لعام 1926، لربما وافق الأكراد على هذه اللامبالاة، اعتماداً على حسن نية بغداد، ولكن لم يكن الوضع هكذا. فمن المؤكد أنه لم يكن هناك معلمون أو موظفون أكراد مؤهلين بما فيه الكفاية، ولا شيء من الكتب المدرسية في طريقها إلى الاستعمال. إضافة إلى أن اللغة الكردية نفسها برزت كإشكالية أيضاً، فمن بين اللهجات الكردية الكثيرة كان لابد من استعمال شكل أو أشكال من الكردية تكون عملية وتلبي متطلبات عصبة الأمم.
ومع ذلك لم تتخذ أي خطوات لتصحيح الوضع منذ 1926. فقانون اللغة الكردية المحلية الهادف إلى ضمان استعمال اللغة الكردية لم توضع له مسوّدة، ناهيك عن وضعه موضع التطبيق. لم يمر تقريباً ثلاثة أسابيع على هذا التصريح الغريب أما مجلس النواب حتى تلقى رئيس الوزراء العراقي عبد المحسن السعدون توصية بريطانية بإنشاء الدائرة الكردية للترجمة لتقديم الترجمات الرسمية لكافة القوانين والنظم المطبقة على المناطق الكردية، وكذلك توفير الكتب باللغة الكردية، وهو إجراء سوف "يطمئن الأكراد إلى حد كبير بأن مصالحهم تلقى كل الاهتمام من لدن الحكومة"( ). ولكن لم يحصل شيء من هذا القبيل. وقد دأب المندوب السامي على إرسال رسائل تذكير في بعض المناسبات إلى الحكومة بدءاً من 1927 فصاعداً ولكنه أدرك، بحسب مستشار بريطاني، نفور الحكومة من القيام بأي عمل:
"لا أحد ينكر حقيقة أن التطبيق العملي لحل المشكلة الكردية محفوف بالمصاعب، ولكن كل الجهود منصبة على عدم التغلب عليها"( ). حيث كان هناك ميل لإلقاء اللوم على القصور الذاتي، ولكن من المعروف بأن بغداد تخاف من الانفصال الكردي، وتشك في احتمال استعمالهم من قبل بريطانيا كتسوية سياسية أو حتى تحريرهم بشكل تام.
ولكن القلق الكردي بدأ يتزايد فور إعلان بريطانيا عن دعمها لدخول العراق إلى عصبة الأمم في أيلول/سبتمبر 1929. فقد واجه المندوب السامي مطالب مربكة لشرح الإجراءات الوقائية التي سوف تقدمها بريطانيا للأكراد مع تزايد الاستياء والسخط في كركوك وأربيل. ولدى معرفة شروط اتفاقية الاستقلال المقترحة ثار الرأي الكردي. وبدأ الالتماس تلو الآخر يصل إلى عصبة الأمم في جنيف أو إلى مكتب المندوب السامي البريطاني في بغداد. وقد كانت هذه الالتماسات موقعة من أعيان قبليين والعشائر الكردية  ومدنيين بارزين في المنطقة الكردية، بما في ذلك ممثلون عن عشائر الجاف، وهاورامان وبشدر، وداوده وطالباني ودزه يي. وقد طالبوا بدون استثناء تقريباً بالحكم الذاتي المحلي أو حتى الاستقلال تحت الرعاية البريطانية. ولكنهم لفتوا الانتباه أيضاً إلى الإخفاق في تنفيذ ضمانات عصبة الأمم وخاصة تلك المتعلقة بالثقافة واستعمال اللغة الكردية.
لقد كان من المربك أن تلفت هذه الالتماسات النظر إلى سابقاتها والتي وجهت إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد في ربيع 1929، والتي بدا أنه تم إهمالها .  
لقد أحيلت هذه الالتماسات إلى الحكومة العراقية من أجل التفاعل معها، ومضى الملتمسون دون أن تتم الإجابة المفترضة؛ أما الشيء الذي لم يصبح علنياً فهو موقف بريطانيا في نيسان/إبريل 1929. فقد إتفق كل من الملك فيصل الأول ومستشاره البريطاني، كينهان كورنواليس Kinahan Cornwalis على أن أي إشارة إلى الانفصال يجب أن يقضى عليها في الحال. وهكذا، وفي الوقت الذي ذكّر فيه المندوب السامي رئيس الوزراء العراقي بضرورة تنفيذ التعهدات تجاه عصبة الأمم، فإنه ذهب إلى القول: "ليس لدي أي سبب للاعتقاد بأن الحكومة قد فشلت في مراعاة مصالح الأكراد ... ولابد لي أن أستنكر تبني أي إجراء يقصد به الانفصال وليس الوحدة ... إن أمنية حكومة جلالة الملك البريطانية أن يتحقّق الإتحاد النهائي لكافة الأعراق التي تشكل سكان العراق لتصبح دولة متجانسة مستقرة"( ). كيف يمكن لبغداد أن تقيم دولة متجانسة اعتقدت بريطانيا بجاذبيتها كثيرا ً في الوقت الذي ترضي فيه الخصوصية الكردية؟
لقد وجدت بريطانيا نفسها في مأزق من صنع يديها. فعلى المستوى العلني، كما عرفت بغداد تماماً يصعب على بريطانيا الآن الاعتراف بأنها كانت تضلل عصبة الأمم طوال هذه السنين لجهة أنه لم يتم عمل أي شيء، وبأن الأكراد، بعكس كل ما أشارت إليه بريطانيا في السابق، لم يكونوا سعداء. ففي نهاية طريق مستقيم كهذا يقع الرفض الحتمي من قبل عصبة الأمم لفكرة استقلال العراق. في هذه الحالة تظهر بريطانيا كدولة غير مؤهلة وغير صادقة أيضاً. لذلك وجدت بريطانيا نفسها وهي تؤكد للعالم الخارجي علانية بأنه ليس ثمة خلاف بينها وبين الحكومة العراقية حول هذه القضية، وبأن ما تحتاجه بغداد هو فقط الوقت من أجل تصحيح أخطائها غير المقصودة.
من جهتها استنكرت بريطانيا سرا إخفاق بغداد في تنفيذ أي من تعهداتها لعصبة الأمم وبدأت تضغط على بغداد لترتيب بيتها من الداخل. وقد أعطت رأيها في تعيين مساعد كردي كمدير عام لوزارة الداخلية وكلفته بمسؤولية المناطق الكردية، وإتخاذ اللغة الكردية كلغة رسمية في تلك المناطق، وتشكيل لجنة ثقافية كردية واتخاذ خطوات لضمان أمن الموظفين والشرطة في المناطق الكردية يستطيعون التكلم بلغتهم الكردية؛ وإنشاء الدائرة الكردية للترجمة التي طال انتظارها. وفي تفسير بريطانيا أنه هو الحكم الذاتي الذي يستحقهُ الكرد، وأنها ولأسباب إقليمية (تركيا وإيران) لا تستطيع الذهاب أكثر من ذلك. حيث أن الموظفين البريطانيين في العراق لا يستطيعون الإدعاء بأن الحنق الكردي قد جاء مفاجئاً تماماً. فقد كان الالتماس المقدم في نيسان/أبريل 1929 تحذيراً بما فيه الكفاية. علاوة على ذلك كان هؤلاء الموظفون يعرفون منذ 1918 بأن الأكراد لا يرحبون بالحكم العربي. ويعرفون أيضا ً بأنه يجب ثني الأكراد عن فكّرة العودة بأنفسهم إلى تلك الأيام العنيفة بين أعوام 1918-1920. فعندما زار المندوب السامي السليمانية في أيار/مايو عام 1927، مثلا، أصر على تذكيرهم بأنهم في أفضل حال مقارنة مع أبناء عمومتهم في تركيا وإيران، وبأنه "يجب عليهم أن يضعوا جانباً الأفكار المتعلقة بالاستقلال الكردي"( ).
في تلك الفترة  ظهرت إشارات إلى أن القومية الكردية لم تعد تقتصر على الشيوخ أو الآغوات المحافظين أو من أتباعهما كما كان الأمر في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وقد بات من السهل تأليب أحد الأعيان ضد الآخر. ولكن في أواسط العشرينيات من القرن الماضي بدأت طبقة صغيرة، ولكنها محترفة، تبدي اهتمامها بالهوية القومية الكردية.
منذ أوائل العشرينيات كان هناك قوميون كرد ومثقفون لا يتجاوزون عدد أصابع اليد في السليمانية وفي المراكز الرئيسية الأخرى. فقد شكّل بعض من سكان المدن (كوملي سربخوي كردستان) أي (جمعية استقلال كردستان) في تموز/جويليه 1922، وكان هدفهم الرئيسي من ذلك هو ألا يحكم الأكراد من قبل العرب، ولكنهم كانوا على نفس القدر من العداء لأسلوب الشيخ محمود القبلي في الحكم.

           

حين أغلق الشيخ محمود الحفيد صحيفتهم الأسبوعية "بانگي كردستان" صوت كردستان وطرد محررها، الجنرال العثماني البارز والقومي المعتدل، محمود باشا كردي في الثالث عشر من آب عام 1922، واستبدلها بلسان حال أكثر قومية، "روزي كردستان" يوم كردستان أو شمس كردستان، الناطقة بلسان الشيخ محمود نفسه. وفي المقالة الافتتاحية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1922 بيّن عارف صائب محرر الصحيفة الوضع الذي يريده لكردستان ضمن العراق، وهولا يختلف كثيراً عن الأفكار المبكرة لرجال الإدارة البريطانيين:
"لم نتوقـع أبدا ً أن تدوس جارتنا العظيمة والصديقة [العراق] على جميع حقوقنا التي ترجـع إلى ألف سنة وعلى العلاقات الطيبة بين الحكومتين [العراق وكردستان] والشعبين ... إن إقامة حكومة في كردستان تقدم فوائد لا تحصى للعراق... إن التاريخ و الجغرافيا يحملان الكثير من الأمثلة التي تشير إلى أن الشعب الكردي كان على الدوام صاحب شخصية [متميزة] في العالم ...إن فنون ومبدأ حق تقرير المصير يؤثران بقوة على عقول وأرواح الأمة. إن لنا نحن أيضا حصة في الحقوق والحدود، التي تم توزيعها بشكل عادل من قبل عصبة الأمم. من أجل الاحتفاظ بهذه الحصة سوف نبذل كل التضحيات الضرورية وبكل ما لدينا من كيان مادي ومعنوي ..." ( )
وحينما عرضت مشكلة ولاية الموصل في مؤتمر لوزان كتب المحرر، محمد نوري، وبلغة قومية حاسمة:
"طالما أن سكان ولاية الموصل أكراد بشكل عام لماذا يطالب بها سكان من خارجها ويريدون الاحتفاظ بها أو استعادتها؟ إن الأتراك والعرب والآثوريين يستندون في مطالبهم إلى وجود أعداد صغيرة من شعوبهم... إن الطلب الذي تقدمنا به إلى مؤتمر لوزان ليس من أجل حماية أقلية بل من أجل إثبات حق العيش لشعب مستقل يعيش فوق أرضه"( ).
في حينه كان يصعب تحديد الأكراد الذين يشاركون الرأي نفسه. وكما لوحظ من قبل فإن الهويات المحلية هي السائدة وهي التي لعبت دوراً كبيراً في الشقاق والخلاف في المرحلة الأولى والحاسمة من السياسة البريطانية. ولكن أصبح لهذه الآراء إغراء أكبر عندما بدأت السلطة تجري بعيداً عن الأعيان والزعماء المحليين وتقترب من العرب في بغداد. وقد كان الخوف من انتشار مثل هذه الآراء السبب الرئيسي في وضع نهائية لوضع السليمانية الخاص في عام 1923.
وهكذا في عام 1926 لم يكن مستغرباً وجود سخط بين موظفي الأكراد بأن "الأكراد الحيادين فقط" يمكن أن يصبحوا أعضاء في البرلمان، وبأن الصحافة الكردية تخضع للرقابة. ربما لم تكن كركوك تحتاج إلى الكثير من أجل إقامة العلاقة مع السليمانية غير أنها كانت على استعداد للاتصال المباشر، أكثر من أي وقت مضى، منذ 1921. في هذه الأثناء كان الشعور القومي الكردي قد امتد إلى مدن مثل كفري بل وحتى إلى آلتون كوبري حيث شعر التركمان بأنهم في حال أفضل مع الأكراد أكثر منه مع العرب.
إن أحد الأمثلة على بداية انتشار الشعور القومي الكردي هو زانيستي كردان أو جمعية السليمانية الثقافية التي تأسست في عام 1926. ولم يمض الوقت طويلا ً حتى تم استعمالها كنقطة انطلاق لحركة كردية أوسع. وعندما تقدم الشيخ طه وإسماعيل بك الرواندوزي (القائممقام السابق) بطلب لتشكيل نادي ثقافي في راوندوز رفضت حكومة بغداد الطلب رغم تأكيدهما على أنه سوف يكون بعيداً تماماً عن السياسة. وفي السليمانية نفسها أصبحت زانيستي كردان ميدان الصراع للتنافس السياسي المحلي والتي تم فيها استغلال أوراق القومية الكردية.
والآن وقد سمح للمشاعر الكردية بالغليان، كان هناك حاجة إلى تهدئتها قبل أن تحطم استقلال العراق المقترح. حين أعلن مجلس الوزراء العراقي في نيسان/ إبريل عام 1930 مرسوماً تشريعياً ينص على أن تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية في المراكز الكردية ويعد بتنفيذ كافة المواثيق الأخرى. وقد انهمرت على المجلس برقيات الشكر والتي تشير إلى مدى سهولة تهدئة المخاوف الكردية إذا ما أراد. ولكنه - أي المجلس - لم يقم بأي شيء جدي في لاحق الأيام وعادت المخاوف الكردية مرة أخرى.
بدت الأمور للحظة أفضل ظاهرياً، ولكن التوترات بدأت تظهر في الحال. وفي لندن إشتكى نوري سعيد باشا ذو الأصول الكردية، من أن ضباط الخدمة الخاصة في سلاح الجو الملكي البريطاني (الذين حلّو محل الموظفين السياسيين) يشجّعون عمداً المطالب الكردية وعمليات العصيان المدني، التي أثارت المندوب السامي البريطاني في بغداد للقيام بإرسال رسائل مستعجلة بخصوص الخطوات العراقية غير الكافية لتطبيع الأوضاع في كردستان. وقد يكون في تفكير ساسة لندن شيئاً يراد إنجازه في الأفق. ففي السليمانية كانت هناك حركة من أجل مقاطعة الإنتخابات القادمة والتي من المفترض إجراؤها في أيلول/سبتمبر عام 1930م. لم يصدق الكرد أن العراق وبريطانيا على اختلاف جدي. وبناءً على ذلك رتب نائب المندوب السامي ونائب رئيس الوزراء لجولة مشتركة في (اربيل وكركوك والسليمانية)لإظهار الوحدة الانكلو – عراقية من جهة وطمأنة الأكراد بخصوص السياسة العراقية من جهة أخرى. وقد تمكن الممثل الحكومي في أربيل وكركوك من إقناع ممثلي الأكراد مؤقتا بنبذ أية طموحات انفصالية( ). إلا أن اللجوء إلى مفارز الشرطة والرشاشات التي نصبّت فوق السطوح لحماية أعضاء الجولة قد أعطت انطباعا مغايرا تماما لشعور الطمأنينة الذي قصدته. فلم تتأثر الجماهير المحتشدة بالكلمات المعسولة المتعلقة بتحقيق وعود فات أوانها، فتظاهروا لصالح الحماية البريطانية دون الحكم العربي. وقد قدّمت مجموعة من أعيان مدينة السليمانية بقيادة الشيخ (قادر وعزمي بيك بابان) مذكرة تدعوا إلى استقلال كردستان العراق تحت الحماية البريطانية. وربما كانت المذكرة بعد عشر سنوات من حكم الملك فيها حراجة، قبل إقناع  نائب رئيس الوزراء بالعدول عن اعتقالهم لأن ذلك قد يعرض الاستقلال للخطر إذا ما وافقت عصبة الأمم.

وبعد عدة أيام أزاحت الحكومة متصرف السليمانية الكردي ذي الشعبية، (توفيق وهبي)، المعروف بروحه القومية الكردية وبتعاطفه مع مطالب القوميين المعتدلين الكرد.
أن انتخابات السليمانية في 6 أيلول/سبتمبر عام 1930م قد تحولت إلى مظاهرات جماهيرية ورمي بالحجارة، وقد تم استدعاء القوات العسكرية من أجل إعادة فرض النظام، التي أدت إلى مقتل أربعة عشر مدنياً عند المساء. لقد عكس هذا الحدث اهتماما دوليا وحرجا لبريطانيا، كما أدى أيضا إلى إطلاق جولة جديدة من العرائض الكردية المطالبة دون مواربة بالاستقلال الإداري للمنطقة الكردية عن حكومة بغداد واستبدالها بمنطقة (كردستان) كردية متحدة مع بعضها البعض. وجمع الأعيان الكرد بما فيهم الشيخ قادر وعزمي بابان بالإضافة إلى البعض الآخر من مقدمي العرائض؛ ومن وراء الحدود في إيران أرسل الشيخ محمود الحفيد بعريضة يتهم فيها حكومة بغداد بارتكاب أعمال وحشية ويطالب بكردستان متحدة تمتد من زاخو إلى خانقين في ظل الانتداب البريطاني. وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1930م عبر الشيخ محمود الحفيد من منفاه في إيران حيث بدأ بحشد القبائل الكردية لمقاتلة قوات الحكومة العراقية.
أصبح الموقف الآن متوقفا على مسألة التوازن. ولولا الإجراءات السياسية العسكرية المباشرة لثارت كردستان بأكملها. لقد كان من الضروري لبريطانيا إبقاء الشيخ محمود الحفيد محايدا قبل أن تحقق ثورته أي تقدم، لذلك أعاقت القوات الأرضية وسلاح الجو الملكي البريطاني تحركاته وما لبثت أن احتوته، رغم أنها لم تلحق به الهزيمة بشكل نهائي إلا في بداية السنة الجديدة. فبعد رفض طلبه للجوء السياسي في إيران استسلم الشيخ محمود الحفيد في بنجوين في أيار/ماي من عام 1931 حيث قبل الإقامة الجبرية في جنوبي العراق. أما على المستوى السياسي فكان من الضروري الآن إعداد العراق لتنفيذ الوعود التي قطعتها حكومته في نيسان/إبريل وتهدئة المخاوف عندما استقبالها لجنة الانتداب الدائمة التابعة لعصبة الأمم في بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر. ظاهريا ً بدا أن الحكومة قد بدأت أخيراً بالعمل، حيث تمّ في (24) آب عام 1931م تعيين شخص كردي بمنصب مساعد المدير العام في وزارة الداخلية وبمسؤولية خاصة للشؤون الكردية. وبعد ذلك بشهر تم تعيين شخص كردي آخر كمفتش عام للمدارس الكردية. ولكن لم يعمل أي شيء بخصوص قانون اللغات المحلية وبات واضحا ً في الحال بأن مساعد المدير العام قد ترك يضيّع وقته سدى في حين يتم تعيين قائممقامين عرب في المناطق الكردية. لقد حاولت بريطانيا الآن صرف الانتباه عما يجري عندما تجنبت مذكرتها المقدمة إلى لجنة الانتداب الدائمة، ذكر عدم كفاية الأشخاص المحليين من قبلها وإهمالها بتأكيد أن العرائض الكردية متشبثة برأيها بأن عصبة الأمم قد وعدتهم بنوع من الانفصال.
لقد أهملت اللجنة عند تداولها العرائض الكردية الأخذ بها، ذلك من أجل التخفيف عن حكومة بغداد، ولكنها أوصت بأن تكون بريطانيا مطالبة بضمان تنفيذ كافة الإجراءات الإدارية والتشريعية الكفيلة بتحقيق التعهدات الكردية بسرعة وبشكل مناسب، وأوصت بأن تضمن بريطانيا مكانة للأكراد بعد استقلال العراق.
في هذه الأثناء رأت حكومة العراق، الممتعضّة من تصرّفات مربيّتها البريطانية النازعة إلى السيطرة - قوة في موقفها - إذ لم يكن لدى بريطانيا ما تخسره أكثر منها. لهذا، فقد هيأت في كانون الأول/ديسمبر عام 1930م مذكّرة استشهدت فيها عن عمد بالتقارير البريطانية السنوية للأعوام 1925 و1926 للتأكيد أن بريطانيا كانت راضية تماما ً بأن سياساتها لم تسبب الاستياء بين الأكراد، وبأنه "في كل مكان من المناطق الكردية فإن الموظفين الكرد هم من يديرون الوظائف مع وجدود استثناءات قليلة. وبأن السياسة التي أعلنها رئيس الوزراء في21 كانون الثاني عام 1926 تنفّذ بحذافيرها ..." ( ) لقد كان العراق في الواقع يحّذر بريطانيا من أنها تخاطر بكشف افتراءاتها. وبدلاً من القيام بهذه المخاطرة، اختار صناع السياسة في بريطانيا استمرار الخديعة.
إن وحدة الرأي، أو على الأقل مظهرها الخارجي، بات الشيء الأكثر أهمية لكل من العراق وبريطانيا وإلا رفض المجلس استقلال العراق. "أبذل قصارى جهدك" هو أمر وزير المستعمرات للمندوب السامي "دون التضحية بأي مبدأ، مع المحافظة على اتفاقهم أي [العراقيين] في الرأي"، للتوافق مع المذكرة البريطانية المرسلة إلى المجلس حول القضية الكردية( ). ولكن في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تريد موقفاً ًمتشدداً في محادثات جنيف، التزم المندوب السامي في بغداد الصمت بشأن القضية الكردية" حتى تقول حكومة جلالة الملك فيصل الأول وبكل صدق إن السياسة تنفذ "( ).
في نهاية شهر شباط/ فيبروري عام 1931، كان ثمة خوف من أن تخضع العراق للإغراءات التركية وتنكث علانية بتعهداتها لعصبة الأمم. وقد أعطيت تحذير شديد اللهجة حول العواقب الوخيمة للرفض العلني لمتطلبات عصبة الأمم. في هذه الأثناء ذكّر نوري سعيد باشا بضرورة قانون اللغات المحلية الذي تم التصديق عليه أخيراً في19 أيار/ ماي عام 1930 حيث خان النص تصميم العراق على حساب الجوهر: الناطقون بالكردية وليس الأكراد الحقيقيين مطلوبون للمناصب الإدارية والتعليمية، وحتى هذا المطلب تم التنازل عنه لصالح المناصب الفنية. وفي تموز/جولاي عام 1931 بادرت الحكومة العراقية، وكأنها تحتقر المستشارين البريطانيين، إلى اعتقال بعض من القوميين الأكراد البارزين من أمثال (توفيق وهبي) بتهمة الخيانة العظمى، وربما هو ما أرادتهُ لندن لتمرير معاهدة عام 1930.
وعلى الرغم من هذه الحادثة الاستفزازية ونفور العراق الواضح من منح الأكراد حتى أبسط الضمانات، فقد اعترفت عصبة الأمم رسمياً بالعراق كعضو عند استقلاله في بداية عام 1932.
وهكذا وجدت بريطانيا شريكاً توفيقياً في تصميم العراق على ضم كردستان إليها بدون أي أمل في أي وضع خاص حيث كانت تلك نهاية سيئة للوعود الطنانة التي دخل بها الموظفون السياسيون البريطانيون إلى كردستان عام 1918 وخيانة للعهود التي قطعها الوزراء العراقيون العرب خلال تكوين الدولة العراقية. وهنا نقول (لو) استطاعت كل من (زاخو ودهوك وأربيل والسليمانية وكفري وخانقين) تشكيل جبهة مشتركة قبل عام 1923 لوجدت بريطانيا والعراق صعوبة بالغة من حرمانهم من إقامة منطقة متمتعة بالحكم الذاتي. وقد منعهم من ذلك جزئيا الخوف من استعادة ولاية الموصل. غير أن السبب الأساسي يعزى إلى عدم نضجهم السياسي في ذلك الوقت الذي يمكنهم من معرفة المخاطر والإستراتيجيات الضرورية لمواجهة المخططات الإنكلو - عراقية خلال تلك الفترة القصيرة من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي كان بمقدورها تحديد سير الأحداث.

               

كان المشهد السياسي الوحيد القابل للتصديق في مؤتمر القاهرة هو ذلك التصفيق في فندق سميراميس (وسط القاهرة)، والذي جاء عقب ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق من قبل برسي كوكس، وونستن تشرشل. أما بقية المواضيع المتعلقة بالكرد أو أهل الفرات الأوسط لظهور دولة مستقلة في العراق فقد كانت مضيّعة لوقت المراقبين من الكرد ورموزهم.
ولعل ما أخذهُ الكرد بعد عودة الجنرال شريف باشا السليماني رئيس الوفد الكردي لمؤتمر فرساي عام 1919، وبعد انتهاء مؤتمر القاهرة عام 1921، أن هناك مملكة عراقية في طريقها إلى الظهور يتربع على كرسي العرش ملك هاشمي هو الملك فيصل الأول، وصل إلى بغداد قادماً من الحجاز.

            

وجيش عراقي يقودهُ الفريق جعفر العسكري الكردي الأصل ليس لأداء واجبات وطنية بقدر ما يخفض من عدد القوات البريطانية في العراق درءاً للنفقات المادية التي أثقلت كاهل الخزينة الإنجليزية. وقد يكون الكرد في كردستان الجنوبي قد فسّروا القرار إلى أن قوة الجيش وغاية تأسيسه في مؤتمر القاهرة إنما لمواجهة الثورات الكردية التي بدأها الشيخ محمود الحفيد في السليمانية عام 1919، وهي الثورة الأولى ضد المحتل البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى.
ولعل ما خذّل الكرد وطموحهم لبناء الدولة الكردية أن عودة الشيخ محمود الحفيد من منفاه الهند عام 1922، إنما كان وبتفسير كردي أنه الملك القادم لكردستان بعد أن كان حكمداراً للكرد في محافظة السليمانية. وقد شعر الشيخ الكبير الحفيد الذي اختزل مطالب الأكراد بشخصه هو كزعيم ديني له حظوة اجتماعية وسياسي بقدر ما كان يحمل من ثقافة وإطلاع (دون الخبث)، إن لغة الحوار ليست هي المطلوبة مع الإنجليز وهو يعيش في منطقة جبلية مثالية لحرب العصابات. وهو ما توصلنا إليه، أي أن الإخفاق المتكرر للثورات الكردية التي بدأت مع بدر خان عام 1884 والشيخ عبيد الله النهري 1880 ضد القوات التركية، قد جلبته مرة أخرى لمواجهة القوات البريطانية من جديد. وقد يكون وجود الرائد البريطاني نوئيل في السليمانية لتلقين الشيخ محمود الحفيد بما يجب أن يعمله سياسياً هو انتقاص من قدر الحفيد ونفوذه الديني والاجتماعي بين أهله وعشيرته، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار لجوء الثائر الكردي الإيراني إسماعيل آغا الملقب (سمكو) إلى السليمانية عام 1924 لتوحيد جهدهما في أي ثورة كردية جديدة.
إن ما أثار الكرد في السليمانية بعد مؤتمر القاهرة آذار 1921 أن معاهدة الانتداب البريطاني على العراق الموقع عليها عام 1922 قد جرت المصادقة عليها عام 1924 لأن تعمل الحكومة العراقية بنصائح المندوب السامي البريطاني بشأن القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما كان الكرد في السليمانية – موطن الثورة – يقولون وينشدون الحاكم السياسي البريطاني القبول به ولكن دون أذن صاغية.
وفي حركة بريطانية لتجاوز الضغوط الكردية، بعد مؤتمر القاهرة فقد عمدت لندن إلى تسليم الملف الكردي إلى حكومة بغداد، وهي خطوة ابتعدت بها بريطانيا بل وتخلت عن وعودها لإعطاء حقوق لأبناء كردستان الجنوبي في دولة مستقلة بمعزل عن سلطة المملكة العراقية، وعليها النظر بجدية إلى مؤتمر لوزان، وعودة تركيا بعد أن تحررت من ضغوط الاحتلال اليوناني لكي تطالب بولاية الموصل.
* العامل الكردي في قضية ولاية الموصل 1922 – 1925
في التسعينيات من القرن الماضي عبرت القوات التركية الحدود إلى داخل كردستان ـ العراق، في تعقب للمقاتلين من حزب العمال الكردستاني الذي كان يقاتل من أجل إقامة "كردستان" مستقلة، جنوب شرق تركيا (وكردستان الشمالية) منذ عام 1984، وتوقع رجال الدولة الأتراك والبرلمانيون والمراقبون السياسيون (في الداخل والخارج) من أن تؤدي تلك العمليات إلى احتمال ضم تركيا لكردستان العراق. وهذا التوقع مبني على أساس مطالبة تركيا التاريخية بشمال العراق، والتي كانت معروفة في العهد العثماني الأخير، بولاية الموصل، وعلى الرغم من أن قضية ولاية الموصل قد جرت تسويتها لصالح العراق إلا أنه لا يزال لها ارتباط بالعلاقات الثنائية بين تركيا والعراق، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية. وهذه المقالة الثنائية بين تركيا والعراق، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية وهذه المقالة محاولة للكشف عن جذور هذه القضية التي لها القدرة الهائلة على تفجير الأوضاع في الشرق الأوسط.
في بداية العشرينيات من القرن العشرين اعتقد بعض الساسة البريطانيين بنحو أكيد أن القضية الكردية هي العامل الأهم في قضية الموصل. ونحاول أن نحدد معالم هذا الاعتقاد، ونوضحه بالإشارة إلــــى الأهمية النسبية للقضية الكرديــــة فـــي مسألـــة ولايــــة الموصل لمرحلـة (1922 – 1925م) بالمقارنة مع عوامل أخرى وثيقة الصلة بالموضوع كالمصالح الإستراتيجية (الحيوية) الإمبريالية البريطانية، والنفط (البترول) وكذلك عملية بناء الدولة القومية في كل من العراق وتركيا، وأخيراً تحاول الدراسة التطرق إلى أهمية قضية ولاية الموصل، وتبعاتها، بالنسبة لتطور المسالة الكردية في العراق.
 الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع