عبد الله عباس
في أواسط سبعينات القرن الماضي ، وبدعوة من مكتب الإعلام في وزارة الإسكان والتعمير ، توجه ممثلي كل الصحف والمجلات ، ومن ضمنهم مراسلي الصحف ووكالات الأنباء الأجنبية في بغداد ، لزيارة إلى المحافظات الشمالية في العراق ؛ للاطلاع على مشاريع الوزارة لحل مشكلة السكن ،
وكان مراسل وكالة (شينخوا) الصينية ضمن مراسلي الوكالات الأجنبية ، ويتكلم باللغة العربية الفصحى ، ففي زيارة لمجمع سكني في مدينة تكريت ، كان الزميل (صباح اللامي) – في حينه محرراً في صحيفة ( الراصد ) ، وهي الصحيفة الوحيدة التي تصدر عن ما يسمى بالقطاع الخاص ، واقفاً في ظل إحدى البنايات عندما صاح عليه المراسل الصيني : ( ماذا تفعل يا صباح ؟ ) فأجابه باللهجة العراقية الدارجة : ماكو شيء ....خربطة ....!! فرد عليه الصيني : حسناً تفعل خربطة يا صباح ....!! فاهماً كلمة (خربطه) بشيء جيد ! أتذكر هذه الحادثة كلما أطالع تقارير وأخبار وتحليلات عن أحداث ما يجري في منطقتنا ، حيث نادراً ما نطلع على شيء يبشر العباد بخير آتي مما يجري حولنا ، فلا ترى إلا ما ندر يؤكد وجود إرادة ، تستطيع أن تبشر أهل المنطقة بأن من الممكن الإمساك بسير الأحداث لصالحهم ( الأرض والإنسان ) .... مما يؤدي بشكل طبيعي أن نرى الناس في حالة (صفنة !) كما يقول العراقيين ... وعندما تسأل : لماذا تصفن ؟ يصعب عليه الإجابة ، فيأتي كجواب اللامي : ماكو شيء ..خربطة...!
فمثلاً لا نقرأ تحليلا يبشر المضحين في الانتفاضات الشعبية بأن ناتج تضحياتهم ثمرة بمستوى طموحاتهم ، بل نقرأ : أن سقوط نظام الفلاني سيكون فوضى وتقسيم واحتقان طائفي ، وتصور كهذا ليس إلا استهتار بإرادة المنتفضين الى ان تحول ربيعهم جحيماَ ليس فقط خريف ! ، ويأتي آخر وفي خضم الحراك الشعبي الذي لم ينطلق إلا من أجل التأكيد على ضرورة التغيير نحو الأحسن ، وبذلك يكمل نشر روح اليأس حيث يكتب ويقول للعباد من أهل المنطقة : توقفوا يا أيها الخائبين ، ولا تتعبوا أنفسكم ؛ لأنه (....أثبتت الوقائع أن المراجل الأمريكية في المنطقة ، هي المراجل التي فجرت الأوضاع في المنطقة ، وهي التي عادت بها إلى عصور الجهل والتخلف ، مستعينة بالوقود الطائفي الذي لا ينضب ومعتمدة على مصادر الطاقات القبلية البديلة ...إلخ) مع أنه يربط هذه الصورة اليائسة بالتراجع الفكري والوطني التي تمر بها المنطقة ، مما سمح لأمريكا التدخل لتعقيد الأزمات بعد احتلال العراق ، حيث كشف بالملموس أن المنطقة مثقلة بتراكم الأزمات ، وقابلة للانفجار وبسهولة التي ما كان يتصورها متنفذي الثوابت الأمريكية ، عليه توجهت إلى استغلال هذه الظاهرة التي بدأت لهم ليس هناك إرادات وطنية لها القدرة والأرضية المنظمة لمعالجتها ، بل عكس ذلك مع الأسف رأى في أكثر من تيار استجابة غير متوقعة ، وكما نجح في تعميق الفرقة وزرع محاصصة وبشكل خبيث في العراق ، نجحت كذلك وعلى سبيل المثال في تشكيل 1700 كتيبة مسلحة في ليبيا ، كما تؤكد ذلك هيئة شؤون المحاربين وفي الزنتان وحدها وصل عدد الكتائب المسلحة إلى 240 كتيبة ..!
فماذا تعني هذه الصورة ؟ بدءاً : أن قمة المأساة التي تعيشها أهل المنطقة ، هي أن النخبة المدعية بأنها النخبة الواعية في فهم ما يجري في منطقتهم ، وبدل أن تشارك في نقل وعيهم بروح الوطنية يقوي من إرادة الجماهير المنتفظة في بلدانهم ، حتى من جهة المخاطر التي تهدد طموحات وأهداف انتفاظاتهم بتلك الروح الوطنية ليكونوا حذرين في التعامل مع الأحداث والمؤثرات الخارجية ، وعدم التخلي عن الأهداف الرئيسية والثوابت ضمن تلك الأهداف ، نرى أن مواقف تلك النخبة تسير باتجاه تخويف الناس من ناتج نهوض الجماهير ، والغريب أن نخبة جميع التيارات في ساحات تلك الدول تتصرف بطريقة أدت في النتيجة إلى صراع بين المنتفضين وليس تكاتفهم ، حيث أن كل الإنتفاضات التي حصلت في المنطقة وقفت بين طريقين ؛ إما النجاح وبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة ، وهذا لم يحصل لحد الآن مع الأسف ، أو الفشل والجمود والعودة إلى مربع الصفر .. وهكذا تمر تلك البلدان في لحظة اختيار حاسمة تفرضها حالة الاستقطاب الحاد والصراعات المستحكمة بين التيارات المتواجدة على الساحة ، ويظهر وبوضوح عدم وجود الثقة بين تلك التيارات والإتفاق حتى على حد أدنى من وضع أسس العمل الجماعي لصالح مستقبل الجميع ؛ وذلك بسبب الفجوة الواسعة بين مواقفهم ، والتناقض التاريخي الكبير والقديم بينهما ، بالإضافة إلى حجم الشك الذي يحمله كل طرف تجاه الآخر ، فنرى الاتجاهات الدينية تتهم القوى العلمانية بدلالات سلبية جنت الثمار الرخيصة في حظائر الأنظمة قبل الانتفاضات ، ويأتي رد هؤلاء في هذا الحرب من خلال توسيع دائرة التشويه في مواقف الاتجاهات الإسلامية ، وإثارة الخوف من الإسلام كدين وشريعة دون الأخذ بنظر الاعتبار أن أكثر الناس في بلدانهم ملتزمين بالاتجاه الديني في مضمونها الحقيقي ، ومن خلال مراقبة الوضع لا ترى (إلا ما ندر) من يعمل باتجاه توحيد الجهد الجمعي ، والذي يؤدي إلى قطف ثمرة تيارالتغيير من قبل الجميع ، وبالتالي يتوجه الجميع لبناء حياة طيبة يحيا الناس في ظلها ، وتتوفر العدالة والمساواة ...
وهذه الصورة هي التي يتمناها من انتفض الناس ضدهم في داخل تلك الدول ، وهذا ما يتم دعمه من القوى الخارجية والتي لها تأريخ في العمل من أجل إبقاء كل منافذ تلك الدول مفتوحة أمام طموحهم للهيمنة ....تلكَ القوى التي تدعي الديمقراطية والحرية شعوب في هذه المنطقة ولكن في حقيقتها لا تخشى من تلك الشعوب إلا طموحهم المشروع لبناء الديمقراطية الحقيقية ، كما يريدونها هم ، وليس كما تخطط لها تلك القوى ، التى تخشى تماماً من أن تؤدي هذه الإنتفاضات إلى قيام أي ديمقراطية حقيقية تعكس الرأى العام للشعوب في المنطقة خاصة مع تداعي قوى هيمنتها على العالم .
فما العمل ؟ العمل هو توجه القوى المؤثرة في داخل تلك الدول إلى العمل بصدق وطني وتوحيد الجهد لبناء إرادة مستندة إلى صدق في الاستجابة دون الخوف لما يطالب به من كان وقود الإنتفاضات ضد الظلم .
إن عدم التوجه لهذا المطلب أدى بنتيجة مؤلمة رأيناها على الشاشة الصغيرة لإحدى الفضائيات ، حيث تحدث مواطن منتمي إلى أحد شعوب هذه المنطقة ضحى كثيراً من أجل حياة حرة وكريمة ، ولكنه الآن يرى صورة مؤلمة إلى حد أنه قال بوضوح : ضحيت بكثير من أجل الحرية والحياة الكريمة ، وكنت أحب هذا الوطن بحيث ما كنت أحلم حتى الحلم أن أتركه يوماً ، ولكني الآن أشعر بألم إلى حد أتمنى أن أبتعد وبأسرع ما يتصوره أحد ....نحن والله من المؤسف نعيش حالة الخراب....!!
980 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع