رسائل هادفة لمعالجة قضايا عراقية ساخنة/ح1
الإهـــــــداء
إلى: من كان سببا لوجودي في هذه الحياة :
والدي (المرحوم بأذن الله) عبد الرحمن المفتي، الذي رسخ في نفسي حب (العراق) وطننا وشعبا منذ بداية أدارك ما يدور حولي، وإذ أنسى فلن أنسى عبارته التي كان يرددها في كل محفل ((عز العراق بتماسك أبنائه من العرب والكرد وغيرهما من القوميات)).
والدتي (المرحومة بأذن الله) التي أرضعتني الوفاء لأهلي، إذ كانت تردد دائما مقولتها ((الذي لا وفاء لأهله لا وفاء لوطنه)) فغرست في ضميري الوفاء للعراق.
إلى: زوجتي العزيزة التي كانت خير رفيق لي في حلي وترحالي وفي حضوري وغيابي ،لقد تحملت الكثير في ابتعادي عنها وعن أولادي وأنا أتنقل في جبهات القتال من معركة إلى معركة أخرى طيلة ثمان سنيين في حربنا الطويلة مع إيران، فكانت خير عون لي في تضميد جراحي النفسية والجسدية، وتجلت سمو مواقفها الإنسانية حين عززت إيماني وصبري بالله في مواجهة صدمة استشهاد ولدينا (محمود ومحمد).
إلى: آلاف العوائل العراقية التي فقدت أحبتها في الحروب والأحداث المؤسفة في العراق وضمنهم من كانوا ضحايا القتال ما بين الأخوة من عرب وكرد .
إلى: كل أخوتي ورفاقي وأبنائي من العراقيين كافة، وخاصة إلى من سيكون في موضع القرار في كلا الطرفين الحكومي والكردي.
أهدي لهم هذا الجهد المتواضع مساهمة مني في توسيع مجالات سبر الحقائق عن فهم واستيعاب القضية الكردية والتي غابت عن الكثير منا، ومع الأسف كان في غياب هذه الحقائق غياب الحكمة عن من كان سببا لتلك الأحداث المؤسفة.
الدكتور عبد العزيز المفتي
المقدمـة
1.للذين لا يعرفونني فأنا مواطن عراقي كردي ولدت في محافظة (لواء) السليمانية عام 1951م وعشت منذ صباي في بغداد في كنف والدي إذ كان ضابطا في الجيش العراقي وقد شارك في حرب فلسطين عام 1948 ضمن القوات العراقية وجُرح في أحد معاركها، وكان مسار حياتي ضمن محاور التقلبات السياسية والانقلابات والثورات المتعددة التي أعقبت ثورة 14 تموز عام 1958 والتي امتدت حتى يومنا هذا، وقد شاركت في عدد من الحروب وكانت أطولها الحرب العراقية / الإيرانية التي امتدت من عام 1980 - 1988 وقد جرحت فيها لأكثر من مرة (ثمانية مرات)، ثم عشت مواقف صعبة خلال حربي 1991 و2003، ومن الناحية السياسية لم أنتم في حياتي لأي حزب أو حركة سياسية، وتدرجت بالرتب والمناصب بالرغم من كوني مستقل بسبب مهنتي الوظيفية، وعندما سعت السلطة الأميركية في العراق لتشكيل قوات مسلحة عراقية جديدة وفق قرار الحاكم المدني الأميركي (بول بريمر) برقم 91 في 7 حزيران 2003، إذ دعيت وعدد من الضباط وكنت برتبة لواء ركن ضمن سلاح الدروع، وكان آخر منصب لي في الجيش السابق رئيس الهيئة العلمية في جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا، ولكوني غير منتمي لحزب البعث وكردي القومية حاولت جاهدا في كل الاتجاهات أن أسعى لتوضيح حقائق شوشتها بشدة خصائص التطرف الفكري والسلوكي الغالبة على مجتمعنا العراقي بكل مكوناته، إذ عملت على توضيح حقيقة أن الجيش العراقي وضمنه قوات الحرس الجمهوري هي قوات مهنية ولم تكن قوات بعثية صدامية أو قوات بقيادات سنية تضطهد مكونات مجتمعية معينة؟ إذ ما جرى هو سياسات دكتاتورية ليس إلا، كأي نهج دكتاتوري بغيض، ذات الوقت بذلت قصارى جهودي من أجل أعادة بناء قوات جيشنا كقوات مهنية وطنية تخدم الأمن الوطني العراقي بإخلاص بعيدا عن التوجهات السياسية، مما جعلني في موضع العتب من أطراف عديدة ومتناقضة سياسيا كانت ولازالت تشكل مقومات النظام السياسي العراقي ما بعد مرحلة التغيير عام 2003، كل ذلك أقحمني في أوضاع صعبة ومعقدة جدا خلال مدة خدمتي الجديدة كقائد للفرقة الرابعة والمسؤولة عن المحافظات (تكريت – كركوك – السليمانية – ديالى – أربيل) حتى أضطررت إلى تركها.
2.إن هذا التحول القسري الذي شهده العراق والعراقيون جميعا في جميع الاتجاهات السياسية والأمنية والمجتمعية والاقتصادية قد خلق فوضى عارمة كان أخطرها سياسات الفعل ورد الفعل، مما عمق الثغرات الصغيرة المتناثرة في فكر وسلوكيات مجتمعنا حتى أصبحت تلك الثغرات فجوات واسعة وعميقة باتت تهدد الوجود الحي لمجتمعنا العراقي وكذلك وطننا، على الرغم من الفارق الواضح ما بين طبيعة الأوضاع في كردستان العراق وباقي محافظاته ومنها العاصمة بغداد، فانطلقت عواصف هوجاء مجنونة لتدمر كل ما يعترضها وعلى جميع المستويات لكن الأخطر هيمنة القوى الشريرة من زعامات سياسية همها الانتقام بلا حدود من مكونات ليس لها إي ذنب أو دور بما مضى من سياسات خاطئة، ومن شراهة مستويات قيادية في تعويض فترات كبيرة من العوز المادي والمعنوي التي واجهتها عبر تاريخ حياتها فانطلقت بشراهة الذئاب المسعورة لتستحوذ على كل ما يقع بيدها وأمامها من ثروات الشعب والدولة فتستحوذ عليها وتسحق في طريقها الآخرين بقسوة وعنف غير مسبوقين فاق حتى الفترات المظلمة التي عاشتها الإنسانية عبر تاريخها المظلم، فكان الفساد المالي والإداري والجريمة هو سمة أوضاعنا العراقية مقترنا بأبشع أنواع الإرهاب التي تنأى عنه أشد حيوانات الغابات وحشية.
3.وعليه إن ما رأيته وما أحسست به كان ينعكس على سلوكي كأي عراقي وطني، إذ كنت أسعى ما استطعت من أجل تخفيف هذا السوء حتى أنعكس على وضعي الوظيفي بل على وضعي العائلي وخسرت أعز ما يملكه الإنسان حين يفقد أحبته ومنهم ولديّ (محمود ومحمد) رحمهما الله، ثم اضطررت لمغادرة وطني إلى الأردن، لكني لم أنقطع وجدانيا وأخلاقيا عن ما يحدث من سوء في أهلي وفي وطني، فسعيت ما سعيت وفق إمكاناتي وإمكانات بعض أخوتي ورفاق السلاح الذين اضطروا كما اضطررت للعيش خارج جذورهم الإنسانية والوطنية لكن أرواحنا ظلت ساكنة هناك بين أهلينا وأصدقائنا ومساكننا القديمة، إذ نتبادل الآراء فيما بيننا ونتعمق بالمسببات فنحللها بحثا عن قدرة لوقف تلك الكوارث المتلاحقات التي تصيبنا كل حين، والأكثر إيلاما حين نشعر بأننا لا نتملك أية قدرة ميدانية ومادية في سبيل ذلك، فلم يثننا ذلك عن سعينا في النصح والتنبيه في كل مجلس ولقاء مع القادمين من العراق من وطننا الجريح ومن يمكن أن يتلقى منا رسائل عبر البريد.
4. من منطلق الشعور بالمسؤولية الوطنية، والحرص الأكيد على مواجهة التداعيات الخطيرة في العراق على المستوى السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي والصحي والتربوي .... الخ، فقد كان الباعث مخلصاً لاستجلاء أفكار ووجهات نظر النخبة العراقية الخيرة في الخارج، وخاصة في الأردن وسوريا، سواء من خلال الحوارات المباشرة أو الندوات والمؤتمرات، والإسراع إلى إرسال مضامينها ونصوصها إلى أصحاب القرار في رئاسة إقليم كردستان لوضع وجهات نظر الخيرين وآرائهم أمامهم ملتمسين جهودهم ومساعيهم في تفعيل تلك الآراء والأفكار البناءة بهدف تصويب مسار العملية السياسية، وإصلاح التداعيات المستمرة في مختلف المجالات وخاصة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس علمية وقانونية متطورة، وخاصة أجهزة الجيش والشرطة والأمن الوطني والمخابرات والنأي بها عن الطائفية والعرقية والجهوية والحزبية، والتأكيد على دورهما الوطني في حفظ النظام العام، وتوطيد الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وعدم استخدامها في قمع الشعب العراقي، لضمان المساهمة الوطنية في دعم جهودهما لتوطيد الأمن والاستقرار توكيداً لمبدأ "الأمن مسؤولية الجميع"، وهذا لا يتحقق إلا بعد أن يشعر الشعب أن هذه المؤسسات منه وله، وليست سيفاً مسلطاً بيد الحاكم عليه، كما أثبتتها السنوات الماضية من عام 2003 ولحد الآن، حتى أضحت خصماً للمواطنين وتنفيذ أجندات طائفية وعرقية وحزبية، كان حصادها عشرات الآلاف من القتلى وضعفهم من الجرحى والمصابين، والمعتقلين والمهجرين، وآلاف التفجيرات التي طالت المواطنين، وكانت السبب الحقيقي وراء انعدام الأمن والاستقرار الذي يستحيل تحقيقه بالعمل الأمني العسكري القهري، كما أثبتت السنوات العشر الماضية، وقد آن الأوان أن يدرك الحكام بغير العدل والمساواة وسيادة القانون على الجميع لا يمكن أن تنعم البلاد بالاستقرار اللازم للإعمار والاستثمار، وبعد الضرب بيد من حديد على الفساد المالي والإداري الذي يوفر بيئة صالحة للإرهاب، لأن مفاعيلهُ ستظل بذرته الحقيقية عدم المساواة وغياب العدل الاجتماعي والاغتيالات والاعتقالات والتهجير والإقصاء الذي طال ويطال احد مكونات الشعب العراقي الذي ثبت استحالة إرغامه على الإذعان والاستسلام لذلك ستظل النار مستعرة تحت الرماد قابلة للانفجار كلما توافرت الظروف المريرة وهي كثيرة كما لمسناها منذ عام 2003 ولحد الآن. إن استحالة حفظ الأمن والنظام العام بالحديد والنار مدعاة لأن تراجع الحكومة والقوى الخيرة في العراق كل الخيارات لمغادرة السبل المنحرفة والبغيضة والثأرية المدفوعة من الدول الخارجية الطامعة إلى تدمير العراق وتمزيق وحدته الوطنية، والسعي الحقيقي لتفعيل برامج المصالحة الوطنية فعلاً لا قولاً، وإشاعة روح العدل والإنصاف وسيادة القانون على الجميع دون تمييز أو إقصاء .... لقد كانت ردود الأفعال الإيجابية للقيادة الكردية، ولشخصياتها المختلفة، ولكل مكوناتها لرسائلي قد فاق كل توقعاتي، وتوقعات زملائي، فكان ذلك عزاءاً لي ولأخوتي، ولكل من أحب شعبه ووطنه بإخلاص، وجرت تلك الرسائل تترى تحمل حلولاً مقترحة لتلك القضايا الساخنة في مدد متتابعة منذ عام 2010 حتى يومنا هذا 2014.
5.وفقا لما درجت عليه في مجال الكتابة لتوضيح الكثير من الحقائق بطريقة مجردة من العواطف ومنها القضية الكردية في سلسلة من الكتب التي أخذت بفضل الله مجالاتها الطبيعية في مكتبات عراقية وعربية مختلفة، إذ وجدت من المفيد أن أعيد طباعة وترتيب تلك الرسائل التي أرسلتها للقيادات الكردية فأضمنها في كتاباً جديداً يحمل هذا العنوان (رسائل هادفة لمعالجة قضايا عراقية ساخنة) قاصدا غاية نبيلة أن شاء الله ومنها إطلاع جيل شبابنا الحالي على ما سعى جيل آبائهم بقدر إمكانياتهم المتواضعة من نوايا وأفعال صالحة تخدم مستقبلهم المشرق بعون الرحمن الرحيم وأملنا أن لا يكون أمد ذلك ببعيد.
من وراء التدهور الأمني في العراق؟؟
يبدو تدهور الأوضاع الأمنية - في كل مرة يشهد فيها هذا البلد تعيس الحظ موجة عنيفة من التفجيرات الانتحارية والأعمال الإجرامية التي تضرب المدنيين العزل دون رحمة - وكأنه هو اللغز المحير في المسألة الأمنية برمتها. ولأن العنف العراقي بات «عابراً للطوائف» والمذاهب والأديان والأعراق، فهو يضرب في أي مكان وكل فرد، بصرف النظر عن دينه وجنسه ولونه، فإن «المسؤول» عن تفجير العنف، يصبح في هذه الحالة، هو اللغز المحيّر، وليس وقوع عمل إجرامي هنا أو هناك. وبكلام آخر، لم يعد السؤال المطروح متعلقاً بالعنف وطبيعته ووظائفه ولا حتى بحدوده التي يمكن أن يبلغها، بل بالقوى والجماعات التي تشترك في صناعته برغم افتراقها في المصالح والرؤى. ولذلك يصبح العنف في كل مرة تتدهور فيها «المسألة الأمنية» على هذا النحو المريع والمفاجئ، لا عابراً للطوائف وحدها، وإنما عابراً للسياسات والأفكار والخطط كذلك.
إن بعض التحليلات الرائجة تذهب مثلاً إلى حد الزعم أن أعمال العنف هذه هي من تصنيع «جماعات متنافسة» داخل النظام السياسي، ارتأت أن حل الخلافات مع الحلفاء وإزاحة المتنافسين (من خلال تعقيد الأمور أمامهم والدفع بهم إلى واجهة الفشل والاتهام)، لم يعد ممكناً من دون تفجير نوع من «العنف المحرج»، أي العنف المصمم لإرباك الحلفاء ووضعهم في قفص الاتهام بالتقصير والإهمال. وفي هذا الإطار يتخذ بعض المحللين من حادثة السطو التي وقعت مؤخراً على مصرف الرافدين في الكرادة – الزوية، وجرى خلالها قتل عدد من أفراد الشرطة وسرقة ملايين الدولارات، وهي الحادثة التي اعترف نائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي أن أحد مرافقيه مسؤول عن تدبيرها، دليلاً على أن العنف هو من طبيعة سياسية محلية لها صلة «بالنظام السياسي». بيد أن هذا الحادث لا يقدم للمحلل الموضوعي أي قرائن كافية، إذ سبق أن تعرض الدكتور عادل عبد المهدي نفسه، وقبل سنوات قليلة فقط، لمحاولة اغتيال على يد أحد حراسه. وعلى العكس من ذلك، يقدم هذا الحادث دليلاً صارخاً على أن حجم الاختراق الأمني في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، بما فيها الأجهزة التي تتولى الحماية الشخصية لكبار المسؤولين، هو من النوع الذي يمكن أن يؤدي بسهولة إلى وقوع حادثة بحجم عملية سرقة مصرف الرافدين. وبينما يتشبث هؤلاء المحللون بنظرية «العنف كصناعة تنافسية» ينتجها النظام السياسي القائم، يرى محللون آخرون، يمكن الاطلاع على تحليلاتهم الرائجة من خلال الصحف الرسمية وغير الرسمية في بغداد، أن العنف هو من تدبير الجماعات الإرهابية (هكذا بإطلاق). وهذا يعني أن النظام السياسي القائم يردّ التهمة الموجهة إليه، بتحميل «جهات مجهولة» المسؤولية عن تفجير العنف. أما الأميركيون فهم يكتفون غالباً بالتحذير من «هشاشة المكاسب الأمنية» وينبهون إلى «أن العراق قد يشهد مزيداً من أعمال العنف».
لكل ذلك تغدو المسألة الأمنية أكثر تعقيداً من التحليلات والاتهامات الرائجة على حد سواء، إذ كيف يمكن للمرء أن يجمع بين أطراف متناقضة؟ وكيف يمكن التوصل إلى تحليل نزيه لما يجري، بينما الأطراف المتهمة تتعدد على نحو يستحيل الجمع بينها؟ بهذا المعنى يصبح السؤال المتعلق بالجهة التي يجب أن تلقى عليها المسؤولية، هو اللغز الذي لا جواب له، بينما تتراجع أهمية تحديد «وظيفة العنف» ورسم حدوده. فكيف يتعيّن علينا النظر إلى المسألة الأمنية في العراق منذ الآن؟
من المهم للغاية ملاحظة أن العراق بات على أعتاب مرحلة جديدة من التداعيات والتجاذبات السياسية العنيفة، وذلك مع ظهور بوادر على بدايات تفكك للعملية السياسية الراهنة. والمعلومات المؤكدة تشير -في هذا السياق- إلى أن الائتلاف الشيعي يتجه إلى الانهيار، وقد تشهد الأيام القادمة ظهور تحالفات سياسية جديدة على أنقاضه، تتمتع بقابلية استيعاب «بعض الجماعات المسلحة» ودمجها في النظام السياسي. وفي المقابل تتجه جماعات مسلحة رافضة للعملية السياسية إلى تصعيد حملتها العسكرية على الأجهزة الأمنية، وبشكل أخص ضد «رؤوس» في جهاز الشرطة ومؤسسة الجيش، وهو ما يعني فعلياً أن هذه الهجمات سوف تأخذ «بعدها الطائفي» لا محالة، بينما تستعد «دولة العراق الإسلامية» لشن المزيد من العمليات، كما تشير تقارير موثقة في الشارع العراقي. فماذا يعني ذلك؟
سوف نرسم هنا خطوطاً عريضة للاحتمالات المفتوحة في المسألة الأمنية:
1-إن العنف «يتشبع» بطابعه الطائفي كلما ظهرت بوادر على مواجهة مكشوفة ضد الأجهزة الأمنية. وفي هذه الحالة يجب توقع حدوث تصعيد خطير في أعمال العنف، ولكن هذه المرة مع إمكانية تحديد الجهة المتورطة، أكثر بكثير مما كانت عليه الحال في السابق.
2-إن الانقسام الطائفي داخل كل طائفة، سوف يصبح ظاهرة سياسية، أي أنه لن يعود مجرد تباين في الرؤى والتصورات إلى هذه المسألة أو تلك، بل يصبح موضوعاً صراعياً.
إن احتمال انقسام «الشيعية السياسية» القديمة، وظهور بوادر على انقسام «سني» قد تدخل كلها في صراعات عنيفة ضد بعضها البعض، هي من بين الدلائل القوية على أن المسألة الأمنية في العراق تتجه إلى مزيد من التعقيد.
3-تسعى إيران من خلال أدواتها الكثيرة والمتنوعة في العراق إلى عدد من الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية، منها منع الأميركيين من تضييق حرية الحركة خارج العراق، على المستوى الإستراتيجي، وإجبارهم على تغيير خططهم أو الحد منها لمنع أية تهديدات لاحقة لإيران في إستراتيجية الاحتواء الأميركية لإيران. كذلك الإيعاز لبعض "القوى الشيعية" العراقية المدعومة من إيران، لاستنهاض الإحساس بالخطر الجامع والموحد، وتسريع عملية توحيد الصف الشيعي، وإعادة اصطفافه تحت راية إيران التي تخف قبضتها على العراق، كلما خفت قبضة نظامها الإسلامي في الداخل الإيراني، وهي قبضة تعرضت للارتخاء الشديد منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
4-في تفسير هذه الموجة المجنونة من العنف المذهبي، تذهب الروايات والتفسيرات في كل اتجاه، أكثرها ترجيحا وجدية، بالتحدث عن دور القاعدة و"السلفية الجهادية" أساسا في إطلاق هذه الموجة، وهذه الجهة لا يستبعد دعمها من قوى دولية ومحلية على الرغم من تناقضاتها لتحقيق حالة عدم الاستقرار في العراق.
5-الصراع ما بين الكتل والقوى المهيمنة على الساحة العراقية، وكثير منها يهدف الحيلولة دون تمتع نوري المالكي وحزبه (حزب الدعوة) من ولاية السنوات الأربع القادمة، وكل المستفيدين من ذلك متهمون وخاصة المجلس الأعلى والأحزاب الكردية.
6-ويبقى احتمال أن البعثيين هم الذين يقومون بهذه الأفعال المشينة ضعيف، اللهم إلا إذا انقلبت المعادلات، لأسباب فكرية ومادية،على الرغم أن ذلك يصب في مصلحتهم.
7-"نظرية المؤامرة" تفعل فعلها في ظروف كهذا، وهنا يقول أصحاب النظرية بأن واشنطن هي من تقرع طبول الحرب الأهلية في العراق، والهدف إبقاء هذه البلاد في قبضتهم لأطول أمد ممكن، خصوصا مع تحول إيران إلى شغل شاغل للإدارة الأمريكية القديمة والجديدة على حد سواء.
نحن من جهتنا، مثل كثيرين غيرنا، ممن يزعمون معرفة القاعدة فكرا وإيديولوجيا و"وسائل جهادية" و"أنماط عمل"، نرجح أن تكون القاعدة بتفريخاتها ومسمياتها وفصائلها المستنسخة والمستنسلة عنها، وراء هذه الموجة من العنف الدامي، وهي تسعى في إشاعة فوضى هدامة لاستعادة ما يمكن استعادته من مواقع سلطة ونفوذ فقدتها مؤخرا في العراق، وهي تستثير الشيعة وتستدرجهم للمواجهة، بهدف استعادة ثقة السنة فيها، والنظر إليها كميليشيا حامية لهم ومدافعة عن أموالهم وأعراضهم وحياتهم، وإضعاف التفافهم حول أحزابهم السياسية وصحواتهم القبلية، التي نجحت خلال السنوات الماضية في تطهير مساحات واسعة من مناطق العراقيين السنة ومحافظاتهم من مقاتلي القاعدة ومؤيديها.
لكن المؤسف في الحقيقة أن هذه الحملة المجنونة من القتل العشوائي والمجاني، لا تجد المعالجة الكافية، حتى نستيقظ على هول ما حدث ويحدث، فهل نبدأ حراكا مكثفا لتطويق هذا الجنون وكيف؟، قبل أن يستحيل إلى مشروع حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس؟.. هل نحمي أمن العراق واستقراره المستعادين نسبيا قبل أن يعم الخراب من جديد، لا بد من موقف سياسي - فكري - أخلاقي، يمهد لسيل من الإجراءات العملية الهادفة لقطع الطريق على هذا الإجرام المجاني، فما يجري في العراق خطر ماحق، سيقوض كل الجهود الخيرة التي بذلت خلال السنوات الست المنصرمة على الرغم من فداحة الأخطاء، فهذه الكارثة في الحقيقة التي لا يريد الحكام في العراق الاعتراف بها، ناتجة عن المشكلة الأمنية والتي مع الأسف أن القوات الأمنية جيش أو شرطة أصبحت هي جزء من المشكلة الأمنية على الرغم من كونها أحدى أهم الوسائط المتاحة في تحقيق الأمن للأخطاء البالغة والمرتكبة في تأسيسها كقوى مسلحة تابعة لأحزاب شتى كانت نواة لهذه القوات الجديدة، والمشكلة الأمنية برمتها ناتجة عن مشكلة سياسية، فالإصلاح يبدأ سياسيا وينتهي أمنيا ثم اقتصاديا.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز المفتي
عمان 16 آذار 2009م
1801 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع