الشهاب الحسني البغدادي
شبهة إنكار أمية الرسول الكريم و الرد عليها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
الْحَمْد لِلَّهِ الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها وارتاحت لسماعها وامات نفوس أهل الطغيان بالبدعة بعد أن تمادت في نزاعها وصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبينا محمد وعلى َآلِهِ وَصْحَبِهِ الذين حفظوا على أتباعهم اقواله وافعاله واحواله حتى أمنت بهم السنن الشريفة من ضياعها أما بعد:
قال صلى الله عليه وآله وسلم:" فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ...أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ." ( )
بقول النووي: استبرأ لدينه وعرضه: أي حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي، وصان عرضه عن كلام الناس فيه.فمن اشتبهت عليه الامور، فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة . ( )
هناك العديد ممن يحاول اثارة الشبهات حول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم و الشريعة الإسلامية و مصادرها ، واخذ البعض يجتر و يثير هذه الشبهات من جديد وأخذ يبحث وينقّب في تراثنا العربي الإسلامي بنوايا مسبقة غير سليمة،ليقرّر جهْلاً وعبثاً بقراءة مبتسرة لبعض العبارات الواردة في الأحاديث النبوية والتجرّأ على التفسير ويقوم بليّ أعناق النصوص ثم يلقي الكلام على عواهنه للقراء عامة بنشره على هذا الموقع او ذاك. مما يؤدي لنتائج غير حميدة وغير صحيحة في الأغلب. لأنها نوايا كانت لغرض التشكيك كي يفسد عليهم دينهم الذي ارتضاه الله لهم .ويجب أن نعلم أنَّه كلَّما تقدَّم العِلم يكشف جانبًا من نبوَّته صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّ المغرضين والمشككين يئِسوا أن يُجابهوا هذا الدِّين لأنّه دين الله فسَلَكوا طرقًا مُلْتَوِيةً.
أسئلة كثيرة تكشف عن زيف هكذا مقالات، فهل ندع ما ثبت لدينا يقينا لكتابات من هذا النوع ليست وثيقة الصلة بالمصداقية العلمية.؟
كل هذا ليس مهما للتبوأ ناصية الكتابة بمواقع محترمة مثل(الكاردينيا) ذات الاتجاه المعتدل وواسعة الانتشار .فقط امتلك الجرأة على الله ورسوله وستفتح أمامك كل المغاليق.
ليس غايتنا النقد بقدر ايضاح المبهم واجلاء الحقيقة لما يشوب ديننا وتراثنا، فالغرب بعد أن نفض يديه من إصلاح النصرانية من جعلها مصدراً يعتدُّ به لتغطية عالم الغيب عمد إلى(العقل)يستنجد به في توفير مظلة روحية ومادية لكل شؤون البشر واحتياجاتهم واليوم ينسج على منوال الغرب في هذا العلمانيون الجدد الذين يشنون حملات منظمة ضد الدين، ويحاولون تفتيت مرجعية الوحي ، واختزالها بطرق عديدة .وجعلتهم يغرقون في اوهام العقل ويتيهون في لجته.
فنحن بحاجة إلى أن نحسن استخدام العقل ، الذي يهدي إلى الحق ، ويوصل إليه ، دون الركون الى الشك والظنون التي تجره ردود أفعال غير مدروسة ولا مسؤولة ،تقلب الحقائق من أجل إرضاء فكر معين ، في محاولة لوي أعناق الأدلة ،واثارة الشبهات ؟ من أجل البرهنة على صحة التوجه الفكري العلماني..
وعلينا ان نعرف أيهما يمثل أزمة في المفهموم والمقرؤ؟
وأيهما سبب الأزمة الفكرية والعلمية والثقافية والدينية ؟
هل العقل أم النص أم هما معاٌ ؟
ان منهج أهل الجرح والتعديل هو المعيار الحقيقي لقبول الخبر أو رده، وهذه حقيقة لا جدال فيها ولا يشك فيها منصف.ومن ميزات هذا العلم أنه غير قابل للدس والوضع أو التحريف،فهو علم مكشوف واضح المعالم، فكثير من القراء ربما ليسوا في مستوى القوة والمتابعة التي تؤهلهم لتقييم الكاتب بل تجدهم في مستوى التلقي والاستسلام في القضايا العلمية ، فبعضهم أضعف من أن يكتشف تلبيسات الكاتب وتمويهاته وإخفاءه للحقائق والتدليس عليها،لأنه لن يرجع إلى المصادر ولن يحاكم الكاتب إلى الأدلة بل ربما لا يمتلك الواحد منهم من العلم ما يؤهله للحكم بأنه أصاب أو أخطأ .
فرحم الله الحافظ ابن حجرالقائل:"إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب"
وهناك فائدة أنقلها من تجربة الإمام ابن القيم ، نفعني الله ، وإياكم بما نقول ونسمع في كتابه عظيم النفع مفتاح دار السعادة 1/140:في شرحه لحديث أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لكميل بن زياد النخعي ـ وقوله :" ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة"
قال الامام المحقق: هذا لضعف علمه ، وقلة بصيرته إذا وردت على قلبه أدنى شبهة قدحت فيه الشك والريب ؛ بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه ولا قدحت فيه شكا ؛ لأنه قد رسخ في العلم ، فلا تستفزه الشبهات ، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة .
والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه ، بل يقوى علمه ويقينه بردها ، ومعرفة بطلانها ، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة ، فإن تداركها و إلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكا مرتابا .
عموماعصرنا مبتلى ببعض الذين يجازفون بإصدارالأحكام المستعجلة،حول النصوص والمواقف ، والشخصيات ،والنتائج ، متناسين الطريقة الصحيحة والمثلى ، في البحث عن الحقيقة . ذلك البحث الذي يحترم العلم ، ويلتزم النقل الصحيح ، ويحترم العقل ، ولا يهمل الاستيفاء في جمع شتات المادة العلمية، من مختلف المصادر،ثم يتبع ذلك بتصنيف هذه المادة ، من حيث القبول والرد، ثم يجتهد في معرفة القول الصحيح ، المتفق مع سبر مرويات الراوي،وما يتفق معها من مرويات الآخرين ثم وزن ذلك بميزان العدل .
لقد انفتحت على الناس أبواب شر في هذا العصر ممثلة في وسائل الإعلام (شبكة الإنترنت)، هي وسائل عظيمة الأثر في الخير والشر ، ولكن أكثر ما تستعمل في الشر وأصبح كل مبطل يستطيع أن يتكلم ، المبتدع يتكلم ، والملحد يتكلم يطرح الشبهات والمتلبس لبوس السنة يظن ان اثارته للشبهات حول السنة يكون مقبولا اكثر من غيره.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب : ثم إني نظرت في حال من طعن على أهل الحديث، فوجدته أحد رجلين : إما عامي جاهل ، أو خاصي متحامل فأما الجاهل ، فمعذور في اغتيابه وطعنه على أهل العلم وأربابه .
وليعلم مثيري هذه الشبهات انهم لم يأتوا بشيء جديد بإثارة مثل هذه الشبهات التي طرحت منذ اكثر من الف سنة وتصدى لها العلماء بالتفنيد والرد المناسب.
سبق ان صوبت بعض الشبهات التي اثارها احدهم في مقال سابق نشر له في مارس 2014 على صفحات هذه المجلة .فكان لزاما ان اصوب ما ورد في متن المقال المنشور يوم الأربعاء, 29 تشرين1/أكتوير 2014بعنوان:
هل كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم اميا حقا؟
للكاتبة سهيلة داود سلمان مديرة مدرسة الموسيقى والباليه سابقا. ولنا بالمقابل الرد على هذه الشبهات لبيان الحق و نصرته .
وكاتبة المقال تستحق منا التقدير والاحترام لشجاعتها وصراحتها، ونأمل احترامها وجهة نظر الطرف الاخر بصدر منفتح .كما كنت اتمنى ان تنحاور في مجال فكرها اولا ومن ثم مواضيعها التي تطرح ليكون الحوار ذا قيمة ويستفاد منه بقية الاخوة المشاركين. وهي ليست مجبره على ذلك لو افصحت عن افكارك التنويرية.
نقول قبل ان نتناول رد الشبهة المنوه عنها في مقال الكاتبة:
ان الأمية في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صفة تشريف لانه يتلقي من الله ،وأما الأمية في حق البشر فصفة مذمومة .
والأمية ليست الجهل المعرفي بل عدم المقدرة على القراءة والكتابة وهذا دليل على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا يقرأ ولا يكتب وأتى بقرآن فصيح بليغ معجز تحدى به الله فصحاء وشعراء العرب فعجزوا ان يأتوا بآية واحدة من مثله وهذا ما دل على أنه من عند الله. ولو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب لاتهموه بأنه هو من قام بتأليفه.!! وأنَّ هذا القرآن مرتبط بِمَرحلتِهِ، فإذا تطوَّرت الحياة لم يَعُد صالحًا لهذا الزمان، فهذه الفِرْيَة الخطيرة التي تتبنَّى هذه الدعوى مردودة، حينما يقول الله عز وجل:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( ) و لعل أهم نقاط الشبهة تتمثل في تفسير كلمتي( اقرأ، والامي):
أولاً – تفسير كلمة (إقرأ) :
1. ادعىت كاتبة المقال : "ان من كلمة ( اقرأ ) رووا القصص بأن محمدا لم يكن يقرأ ، حجتهم أنه أجاب الوحي قائلا " ما أنا بقارئ" لو كان هذا صحيحا فلنحلل الجملة: "ما " هي للنفي والجملة تكون معناها " لست بقارئ" ، ولكن "ما" أيضا تأتي للأستفهام ، فتكون الجملة " ما الذي أقرأ" أذ لم يكن أمامه شئ ليقرأه . وهذا أكثر منطقيا. "
بالنسبة لرواية بدء الوحي التي استدلت بها على إنكار أمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها لا تدل على ما ذهبت إليه من تعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إنها من الأدلة القوية على أميته؛ إذ جعلت قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للملك - الذي كان يطلب منه القراءة - " ما الذي أقرأ" استفهاما عن المقروء، لا نفيا للقراءة، مستدلة بما توهمته من عبارة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على عدم أميته، وإلا فما وجه استفهامها عن المقروء؟!
ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح قَوْله : " ما أنا بقارئ"
ثلاثا . " ما " نافية ، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء ، وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ ، والباء زائدة لتأكيد النفي ، أي : ما أحسن القراءة . فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي : لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك ، لكن بحول ربك وإعانته ، فهو يعلمك ، ..وقال غيره : إن هذا التركيب - وهو قوله " ما أنا بقارئ" يفيد الاختصاص . ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد ، والتقدير : لست بقارئ ألبتة . فإن قيل : لم كرر ذلك ثلاثا ؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا " ما أنا بقارئ " على الامتناع ، وثانيا على الإخبار بالنفي المحض ، وثالثا على الاستفهام : ماذا أقرأ ؟ كيف أقرأ ؟ والله أعلم .
فكيف اذن يأمره جبريل بالقراءة ما لم يكن قارئا ؟ والجواب أنه أمره بذلك ليوقفه على أن المسببات وإن كانت مرهونة بأسبابها ، لكنها أمام سلطان الله ليست كذلك ، فها أنت يا محمد أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولكن الله سيعينك على حفظ ما سنزله عليك أفضل من حفظ من يجيدون القراءة والكتابة والمذاكرة ، ولذا قال له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي مستعينا به فمنه العون وقد أعانه وضمن له الحفظ وقال له: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. ( ). والذين استدلوا بالآية على دعوى إجادته القراءة نسوا الملابسة التي أحاطت بنزول الآية .
ويدل على أن القرآن لم ينزل مكتوبا في قرطاس!!ليقرأه.
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ( )
ومن الواضح أن المنهج الذي اعتمدته الكاتبة في بحث هذه المسألة منهج قاصر تماما، لأنها لم تعطي أي قيمة لروايات الشيخين التي تنص صراحة على الأمية، لانها وردت في الصحيحين " ما أنا بقارئ" برواية عائشة ليس الا!!
2. ثم تقول: أن كلمة "قرأ" و" يقرأ " و" واقرأ " في اللغة العربية لاتعني القراءة بالأحرف والكلمات فقط ، بل هي تعني ايضا " بلغ " . فيقال " اقرأه السلام " أي بلغه السلام. و" اقرأ عني السلام " أي بلغ عني السلام.... ولما لم يكن امام النبي الكريم شيئا يقرأه ، فالمقصود انذاك " بلغ وليس اقرأ"
لقد فسرت الكاتبة كلمة "اقرأ" في قوله تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ( ) بمعنى (بلغ) وليس أمر القراءة المعروف عند أهل اللغة .
إن معنى كلمة " اقرأ " في قوله تعالى : ( إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) هو مجرد فعل القراءة (الترديد) وليس التبليغ كما تدعي كاتبة المقال، فلو كان دالاً على التبليغ فيجب أن يأتي من :
أقرأ – يقرئ – أقرئ ، و ذلك بإيراد همزة التعدية نقول أقرأ فلاناً السلام ، و أقرأه إياه أي بلغه ، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام … ) ( )
و نجد الزمخشري في أساس البلاغة يقول :" ولا يقال اقرأ سلامي على فلان بل أقرئه " .
وورد في لسان العرب أقرأ غيره إقراء و منه قوله تعالى: (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى) ( )
و لو كان معنى اقرأ في آية العلق بلغ لاستوعبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، و لم يتردد – و هو على صواب – بأنه غير قادر على القراءة عندما خاطبه جبريل لأول مرة : ما أنا بقارئ ، لأنه في هذه الحالة سيكون قد عصى أمر ربه ، و لم يصدع بما أمر به أما وإنه كان عاجزاً عن القراءة التي بمعنى فعل القراءة فإنه كان مصيباً أي غير قادر على القراءة و الكتابة
فالرسـول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أخبر الملك بأنه لا يعرف القراءة و الكتابة .
ثانيا- تفسير كلمة (امي) :
1. تستشهد الكاتبة بأيات من سورة الأعراف (157) وسورة الجمعة(1)..وتضيف: هاتان السورتان من القران تؤكدان ان النبي كان أميا. وهل يعقل ان الله بعث الرسول في الناس الذين لايقرأون ولايكتبون فقط ؟. وكيف يتلو أي يقرأ عليهم آيات القران الكريم أذا لم يكن يجيد القراءة؟.
نقول: لا وجه لتفسيرهذه الايات تفسيرا خاطئا يوهم بتعلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - القراءة والكتابة، أو إنكار التفسير الحقيقي والقول بغيره للنيل من حقائق ثابتة في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونفى ما وصف به وما اقترن بنبوته.
على أن هناك بعض الغربيين قد اعترف بأمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه "تاريخ العرب": "ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة".
وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتابه "الأبطال": "ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها".
وجاء في كتاب "الإسلام" تأليف الكونت هنري دي كاستري: "إن محمدا ما كان ليقرأ أو ليكتب، بل كان - كما وصف نفسه مرارا - نبيا أميا، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس؛ لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار" ( ) .
وإذا تذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان صادقا أمينا ذاعت هاتان الصفتان وعرف بهما، تساءلنا: لماذا لم تذع أيضا صفة العلم بالقراءة والكتابة؟ ولماذا لم يقل إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان صادقا أمينا قارئا كاتبا.
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يشاهد يوما وهو يحمل أداة لتدوين القرآن مع أنه كان أحب الأشياء إلى قلبه، بل كان ينتظر حضور أحد أصحابه من أجل أن يملي عليه ما أراد كتابته. وأكثر دلالة مما ذكرنا أن الوحي كان يتنزل عليه بالليل، وفي السفر، وقد كان من البديهي تماما أن يسجل القرآن بيده في هذه الحالات لو كان عارفا بالكتابة، ولكنه لم يشاهد وهو يدون آية في صحيفة، ولو مرة واحدة.
لا أعتقد أن القارئ من عدم الوعي بحيث يحتاج إلى أن نبين له أن الأمية هنا دليل مصداقية و أنه لا يقرأ ولا يكتب ورغم هذا فقد جاءهم بهذا الكتاب المبين المتضمن من المعارف السابقة واللاحقة ما لا يعرف في سابقه إلا بتعلم وبلوغ رتبة فوق طاقة البشر ، وفي لاحقه بما يحتاج إلى وقوف على الغيب .ولأنه لم يكن هذا أو ذاك فقد ثبت أنه ما جاء بذلك إلا من خلال وصله بقوة فوق قوة البشر ، ولأنه قد أعلن أن هذه القوة فوة إلهية وجاءهم على صدق دعواه بالمعجزات الحسية والمعنوية وفوق ذلك كله معجزته الكبرى القرآن ، فقد لزم تصديقه ضرورة أنه جاء بذلك وهو الأمي الذي لم يختلف يوما إلى معلم ولم يبارح مكة هائما في رحلة علمية أو سائحا لحاجة معرفية ولم يتبع دينا كتابيا كاليهودية أو النصرانية.
وتتساءل الكاتبة: كيف يطلب الله منه أن يتلو ويقرأ عليهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وهو أمي؟!
لان هناك فهما خاطئا، يجعلها تتخذها دليلا على تعلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - القراءة والكتابة. وحول المعنى المراد لكلمة "الأميين" يقول الإمام ابن عاشور: والأميون: الذين لا يقرءون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب؛ لأنهم لا يكتبون إلا نادرا، فغلب هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب، حتى صارت الكلمة تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم، قال - سبحانه وتعالى - في ذكر بني إسرائيل: " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ" ( ) .
وأوثر التعبير به هنا مشاكلة على اليهود؛ لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جهلا منهم، فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا. وكان اليهود ينتقصون العرب بأنهم أميون فتحدى الله اليهود بأن بعث رسولا إلى الأميين، وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية، وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا بغيرهم
ثالثا- تقول الكاتبة: انقل هنا بأختصار القصة التي وردت في الكتاب المقدس" العهد القديم "، وتحديدا في سفر التكوين... في الفصول من16الى21انقلها بدقة كما وردت في سفر التكوين :
( وسأبارك لك اسماعيل وأكثره جدا جدا وأجعله امة عظيمة . فكلم ملاك الرب ابراهيم قائلا له: أسمع ماتقوله لك سارة لأن باسحق سيكون لك نسلا وأبن الأمة أجعله أمة ).
ثم تضيف :أليس هذا دليلا على ان الأميين هم ابناء هاجر ومفردها الأمي ان لم يكن صفة لشعب" أم القرى" ؟ " وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " . ليس هذا دليلا واضحا ان الله بعثه في قومه ؟.
1.انقل فيما يلي النص الوارد في (العهد القديم) سفرالتكوين17: 19-21حرفيا: "واما اسماعيل فقد سمعت قولك فيه وهاءنذا اباركه وانميه واكثره جدا جدا، ويلد اثني عشر رئيسا واجعله امة عظيمة .
اما ماجاء في سفر التكوين 21: 12-13نصه الاتي: " فقال الله لابراهيم لا يسوء في عينيك امر الصبي وامر أمتك. كل ما تقوله لك ساره، فاسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل. وابن الامة ايضا اجعله امة فانه نسلك"
كان بامكان كاتبة المقال الاستشهاد بالقرآن فقط دون هذا اللف والدوران ونقل النص التوراتي بتصرف ملحوظ لإلقاء الضوء على موقف معين تهدف من ورائه إلى إثبات أن لفظ أمي إنما يعني من ليس يهوديا - فاللفظ بحسب رأيها - مصطلح توراتي أي ليس له في العربية مدلول.
نعم أن الكتابيين كانوا يطلقون على العرب: وصف أميين لم يفقهوا أن بين الأمي الذي هو العربي أوغير الكتابي مطلقا، وبين الأمي الذي هو غير عالم بالقراءة والكتابة قرابة ورحما من جهة المعنى ، فلنتصفح أمهات المعاجم وكتب التفسير والمفردات لندرك بعد هذا التصفح أن لفظ الأمي يطلق إطلاقا أصيلا على الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الحالة التي خرج عليها من بطن أمه حيث لم يخرج أحد عالما أو قارئا كاتبا، وكانت اليهود تطلق على العرب " أميين " لأنه لم ينزل إليهم كتاب وهذا سر عدم اتجاههم إلى القراءة والكتابة ، وهذا سر انتشار القراءة والكتابة لدى الكتابيين في ذلك العهد وعلى هذا فلفظ الأمي متجه في معناه الأصل ومعانيه المتفرعة عنه إلى عدم إجادة القراءة والكتابة والمعنى اتبعوا هذا النبي الأمي المنتسب إلى الأمة الأمية التي لم ينزل عليها كتابا لتقرأه ضرورة أنه لم يبعث إليها رسول. أو أن يحملوها على المبعوث من الأمة "الأمّية"، على قاعدة "القرآن" الراسخة في تقسيم الناس الى أمتين، أمة أمّية لم يؤتها الله كتاباً، ولم يرسل إليها رسولاً، وأمّة "كتابية" أتاها الرسول وجاءها الكتاب، كاليهود والنصارى, بدليل الآية, وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ( )
ولنفنرض لو كان محمدا متعلما قارئا كاتبا هل هناك من سيقبل على القرآن وما جاء به إقبال الواثق بأنه من عند الله أم كان سيقنع بأن ما جاء به هو نتيجة تعلمه ؟
بالطبع هذا ما كان سيحدث ، بدليل أن مدعي عدم الأمية الآن يريدون أن يصلوا إلى تلك الغاية.
وودت لو أن كاتبة المقال تمتعت بالإنصاف فتذكر أن اللفظ عربي له معان مستخدمة ولترجح الرأي الذي تراه ولو كان توراتيا ، ونحن بدورنا نناقشها فيما وصلت إليه فإن كان حقا قبلناه ، وإن كان باطلا رددناه عليها ، أما أن تقف عند حد أن اللفظ توراتي بدون الإشارة إلى تضمن اللغة العربية له تقريرها أن الأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب فهذا ما لا يقبله منصف، فالكاتبة أرادت أن تثبت أن رسول الله كان مجيدا للقراءة والكتابة وأهم دلائلها على ذلك أن لفظ الأمي لا يطلق في رأيها على من لا يجيد القراءة والكتاب بل على غير اليهودي، وهي بالطبع لا تريد إثبات فضيلة للنبي بادعاء أنه كان يعرف القراءة والكتابة بل تريد أن تنفذ إلى ما وراء غرضها.
ونود ان نلفت نظر السيدة كاتبة المقال الى ان هناك في الكتاب المقدس ما يؤكد أميته صلى الله عليه وآله سلم، فقد جاء في سفر إشعياء(29: 12): "أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة،ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة".
وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن هذا النص في صورته العربية التي نقلناها، محرف، والسبب أن أصحاب الترجمة العربية يعلمون معنى هذا النص.
إن الذي يعنينا هو استعمال كلمة "القراءة" في هذه التراجم محل كلمة "الكتابة". فكيف يقول: "وقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة"؟! إن سياق الكلام يدل على التحريف المقصود؛ لأن سياق الكلام الصحيح في العبارة متمشيا معها "لا أعرف القراءة" ( ) .
ونلفت عناية الكاتبة ان العهد القديم يسرد القصص كتاريخ مرتبط بالزمن فلا معنى مطلقاً لاستشهادها بالقصة بهذه الصورة وهو بعيد جداً ، لذا فالأقرب أنها تريد تأكيد معنى معيناً بها - وهو التأكيد على أن هاجر كانت أمة لسارة وليست صنواً لها ، وعليه يظهر فضل سارة التي هي أم اسحاق الذين هم اليهود ، على هاجر التي هي أم اسماعيل جد العرب .فضلا عن الغرض المقصود بكلمة(أُمَّةً).
ولكن أي من المرأتين خلدها التأريخ (سارة ام هاجر) انها بلا شك هاجر .. الزوجة الثانية،المؤمنة الصابرة المحتسبة،التي استجابت لامر الله وصارت معلماً مضيئاً في تاريخ المرأة المسلمة بتجاربها القاسية ، وبصبرها الكبير العظيم ووعيها بطبيعة الرسالة والتكليف.غرست مكانة وقداسة وبركة في قلوب أبناء أمّة الإسلام. سواء كانت جارية ام حرة. فهي جدة الرسول محمد بن عبد الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام .
وللرد على هذه الشبهة نعود إلى أهل اللغة و أهل التفسير لنرى ما معنى كلمة " أمي " عندهم :
اولا- اهل اللغة:
1- يقول ابن منظور : ( معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أمه أي لا يكتب فهو أمي لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه أي على ما ولدته أمه عليه ) ( )
2- و قال الزهري:( قيل للذي لا يكتب و لا يقرأ أمي ، لأنه على حيلته التي ولدته أمه عليها و الكتابة مكتسبة متعلمة وكذلك القراءة من الكتاب) ( ) .
3- قال الراغب الأصبهاني : ( الأمي هو الذي لا يكتب و لا يقرأ من كتاب ، و عليه حمل قول تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم. ) ( ) .
4- ما ابن قتيبة فقد نسب كلمة أمي إلى أمة العرب التي لم تكن تقرأ أو تكتب فقال : ( قيل لمن لا يكتب أمي ، لأنه نسب إلى أمة العرب أي جماعتها و لم يكن من يكتب من العرب أي جماعتها و لم يكن من يكتب من العرب إلا قليل من لا يكتب إلى الأمة ) ( ) .
5- جاء في دائرة المعارف في مادة( أمي ):
" أمي لقب محمد في القرآن، وهو لقب يرتبط من بعض الوجوه بكلمة (أمة ) و لكن يظهر أنه ليس مشتقاً منها مباشرة ، لأنه لم يظهر إلا بعد الهجرة و يختلف معناه عن معنى كلمة " أمة " التي كانت شائعة قبل الهجرة " .
و جاء في السياق نفسه : " و قد استدل قوم بإطلاق لفظ أمي على محمد بأنه لم يكن يقرأ ولا يكتب . الحقيقة أن كلمة أمي لا علاقة لها بهذه المسألة لأن الآية 78 من سورة البقرة التي تدعو إلى هذا الافتراض لا ترمي الأميين بالجهل بالقراءة والكتابة بل ترميهم بعدم معرفتهم بالكتب المنزلة".
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ( )
و مما سلف نرى أن كلمة أمي تعني عند أئمة اللغة : الذي لا يقرأ و لا يكتب و ليس كما تدعي كاتبة المقال أن معناها غير الكتابي أو غير اليهودي .
ثانيا- أما تفسير كلمة أمي عند أهل التفسير فإننا نراهم قد اتفقوا مع أهل اللغة حول معنى هذه الكلمة :
1- قال الإمام الطبري : يعني بالأميين الذين لا يكتبون و لا يقرءون ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب .... ) ( )
2- أما الإمام الشوكاني فقد فسر الأمي بأنه : منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة و لا تحسن القراءة للمكتوب ) ( )
هذا فضلا إلى العديد من الأدلة من القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة و التي تثبت بطلان ما جاء في مقال الكاتبة .
آ- القرآن الكريم :
قال تعالى :وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( )
يبين البيان الإلهي أن محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ قبل القرآن كتاباً بسبب أميته و لو كان يكتب و يقرأ لارتاب الذين في قلبهم مرض ، ثم إن مجرور من إذا كان نكرة يدل على الزمن المطلق عندما يكون منفياً ، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم القراءة و الكتابة و لم يتعلمها لا قبل البعثة و لا بعدها بل ظل أمياً لا يقرأ و لا يكتب حتى توفاه الله تعالى .
قال النحاس : ( و ذلك دليل على نبوته ، لأنه لا يكتب و لا يخالط أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء و الأمم و زالت الريبة والشك ) ( ) .
قال ابن عاشور: (هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في مواضع كقوله: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) ( ) وقوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ( ). ومعنى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) إنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
(وَلَا تَخُطُّهُ) أي لا تكتب كتاباً، ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمية...( بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ( ) .. أي بالقرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله، بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم. فالمراد من (صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبر عنه بالجمع تعظيماً له، والعلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبوة ) ( )
كان يعاجل جبريل بالقراءة عند نزوله عليه بالقرآن خشية أن يتفلت منه فضمن الله له الحفظ وأنزل عليه قوله : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( ) والشاهد أنه لو كان كاتبا قارئا لما خشي ذلك لأن عليه فقط أن يدون ما نزل ليرجع إليه عند الحاجة ، ولأن ذلك لم يحدث فقد دل على أنه أمي.
هذا هو الصحيح أنه أمى ما قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم ولا أخذ علمه عن أحد ولكن الله - تعالى - أوحى إليه بالقرآن الكريم عن طريق جبريل - عليه السلام - ، وأفاض عليه من لدنه علوما نافعة ومبادىء توضح ما أنزله عليه من القرآن الكريم ، فسبق بذلك الفلاسفة والمشرعين والمؤرخين وأرباب العلوم الكونية والطبيعية ، فأميته مع هذه العلوم التى يصلح عليها أمر الدنيا والآخرة ، أوضح دليل على أن ما يقوله إنما هو بوحى من الله إليه .
ب- في الحديث النبوي الشريف :
1) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "إنا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب" ( )
هذا الحديث يدل دلالة المفهوم والمنطوق على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يكتب ولا يحسب ، كما يجب أن لا نفهم أن معنى هذا الحديث أنه لا يوجد في أمة العرب من يعلم القراءة والكتابة ، بل كان فيهم من يعلم ذلك ، بيد أن هذا قليل جداً ، لذلك كان الحكم للغالب .
إضافة إلى هذا فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ لنفسه كتاباً يكتبون الوحي ولم يذكر التاريخ الصادق أنه صلى الله عليه وآله وسلم قام بكتابة الوحي بنفسه ، ولو كان عالماً بالقراءة و الكتابة لفعل ذلك و لو لمرة واحدة و لكن لم يؤثر عنه ذلك .
2) ولعل عقد صلح الحديبية يبين زيادة في معجزاته واستظهارا على صدقه وصحة رسالته فكان ذلك خارقا للعادة . وأوضح دليل على أميته - صلى الله عليه وسلم - قوله لعلي: "أرني مكانها"( ) فلو كان قارئا كاتبا؛ لما قال ذلك، ولعرف مكان عبارة "محمد رسول الله".
3) اما الحديث الذي جاء في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما أدركته الوفاة طلب صحيفة ليكتب عليها اسم من يخلفه، لم يشر - من قريب ولا من بعيد - إلى ما ذهب إليه الطاعنون من كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم من يخلفه بنفسه.( )
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب طوال حياته وحتى عند مماته، ولم يرد أي نص يؤكد ذلك، فليس معنى "أكتب" التي جاءت في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - سيكتب بخط يده، فالمفهوم منه أنه أمر بكتابته.
كما أنه عليه السلام علم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب فكان ذلك أبلغ في معجزاته وأعظم في فضائله ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك .
رابعا - مااوردته الكاتبة من ان الرسول كان يتيما وقصةالحجر الأسود ..وستشهادها بقول احدهم ،ثم تؤكد بقولها: أذن فالقصة مختلقة أصلا.
نقول:هذا ليس موضع استشهاد بالامية بقدر الطعن والتشكيك بالسنة النبوية.
خامسا- ثم تقول إن محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان تاجرا ناجحا؛ ولا بد أن يكون تعلم شيئا من العلوم والفنون التي كانت منتشرة في مكة وما حولها أثناء أسفاره. ...وتضيف فهل من المعقول ان ابا طالب يعلم اولاده كلهم ويترك ابن اخيه محمدا أميا؟.
نقول: الهدف من وراء ذلك إنكار حقيقة الأمية التي لازمت وصفه - صلى الله عليه وآله وسلم – بالنبوة بغية التشكيك في النبوة ذاتها.
لقد كان من شأن العرب أنهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة اللهم إلا النزر اليسير منهم، وقد حصرت بعض المصادر من يعرفون القراءة والكتابة في مكة في سبعة عشر رجلا، وذكرت أسماءهم، ولم يكن منهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، مما يدل بوضوح على عدم معرفته القراءة والكتابة تلك الأمية التي اشتهر بها - صلى الله عليه وآله وسلم - بين قومه، فلو رآه أحد وهو يكتب أو يقرأ لذاع ذلك عنه، وانتشر خبره في أرجاء الجزيرة العربية.
يبقى هذا الذي تقولته الكاتبة مجرد استنتاج لا يعتمد على مادة علمية، إضافة إلى أنه يخالف ما اشتهر بين العلماء من أن مكة لم تكن تضم في ذلك الزمان أكثر من العدد المذكور انفا من الذين يقرءون ويكتبون.
كما أن التعلم في أرض الحجاز، في ذلك الزمان، لم يكن بالأمر الشائع ولا بالقضية المهمة التي يقصد الناس إلى تحصيلها، إذ كانوا يعتمدون - كما هو معلوم - على الحفظ في الصدور، وحتى التجارة فما كانت تحتاج بالضرورة إلى تدوين؛ لأنها لم تكن بهذه السعة التي شهدتها التجارة الحديثة، كما انها لا ترتبط بالقراءة والكتابة، فكم من أمي برع في فنون التجارة وفي ظل تلك الظروف لم يكن من الضروري أن يتعلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - القراءة والكتابة لتسيير شئونه التجارية.
فكاتبة المقال للاسف تتوهَّم أنّ هناك علاقة بين الأُمِيَّة والجهل، لأنّها تقول: أَيُعْقَلُ أن يكون النبي غير مُتَعَلِّم ؟!
ونحن نقول لها: هو سيِّد علماء الأرض، والقناة التي تعلّم منها هي قناة الوَحي لا قناة المُدارسَة ونحن لا نمْلِكُ الوحي وسبيلنا الوحيد فتْح كتاب وقراءته وفهمه فننال به الشهادة فَكُلُّنا لأنَّنا لايوحى إلينا قناة التعليم الوحيدة لدينا هي المدارسة، فالأُمِيَّة في حقِّنا نقْص، ووصْمة عار، أما في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صفة تشريف لانه يتلقي من الله
وهذا كمالٌ في حَقِّ رسول الله ، ومعجزة من معجزاته الشريفة. فالأُمِّيَّة وصفًا ذاتيًّا له. ليُظْهِرَ أن كماله النفساني كمالٌ لدنيّ إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأُمِّيَّة وصفَ كمالٍ فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان.
وكما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: "أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال -من الجمع بين الأُمِّيَّة والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه- لا يكون إلاَّ حال مَنْ أفاض الله عليه رسالته؛ إذ لا يَتَأَتَّى مثله في العادة لأحدٍ".
يا أيها الأميّ حسْبك رتبةً ** في العِلم أن دانت لك العلماء
أخيرا وددت من كاتبة المقال أن تذكر لنا لماذا لم يكتب النبي القرآن بنفسه إذن ، بل كان في أحلك الأوقات يرسل إلى الكتبة ليدونوا ما نزل حتى إنه استدعى زيد بن ثابت ليدون فقط هذه العبارة (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) فلماذا لم يكتبها بنفسه؟( )
وإن أجابت بأنه كان يكتب القرآن فهل ستقبل ورفاقها فكرة أن القرآن لم يُحرَّف من قبل الكتبة حيث كاتبه عين مؤلفه؟
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
--------------
(40) – عن زيد بن ثابت قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه (لا يَستَوي القاعِدونَ مِنَ المُؤمِنينَ وَالمُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ) ولم يذكر أولي (أُولي الضَرَرِ) فقال ابن أم مكتوم: كيف وأنا الأعمى لا أبصر، قال زيد: فتغشى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي، فاتكأ على فخذي، فوالذي نفسي بيده لقد ثقل على فخذي حتى خشيت أن يرضها، ثم سرى عنه فقال: اكتب (لا يَستَوي القاعِدونَ مِنَ المُؤمِنينَ غَيرُ أُولي الضَرَرِ) فكتبتها. رواه البخاري. الواحدي،أسباب نزول القرآن - (ج 1 / ص 62)
1922 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع