د. علي محمد فخرو
موضوع داعش والنصرة وبقية المنظمات الجهادية التكفيرية المماثلة، سواء على المستوى الوطني أم المستوى العالمي العابر للحدود، ماعاد يكفي التعامل معه ومواجهته بمقال صحافي هنا أو بخطاب اعلامي هناك. فمواجهة علة خطيرة، على مستوى الصحة والاجتماع، ان لم تكن شاملة، فانها لن تجدي.
لنذكر أنفسنا أولا بأنه في خلفية الموضوع تكمن اشكالات كبرى. هناك أولا الجانب الديني المتمثل في القراءات التخمينية المتزمتة لنصوص قرآنية منتقاة مفصولة عن سياقها التاريخي وأسباب نزولها، وفي أشكال من الفكر الفقهي المتخلف والذي لأسباب دنيوية ألبسه أصحابه أثواب القداسة، وفي التاريخ الطويل للاستعمالات الانتهازية للدين ورموزه في صراعات الملك والسياسة والاستحواذ على الغنائم.
هناك ثانيا ثقافة التسلط والقمع في البيت والمدرسة والمسجد والحزب ومؤسسات المجتمع والحكم المؤدية الى سلوكيات الطاعة العمياء والاتكالية والخوف وتبرير كل ذلك من خلال ترديد الأمثال الشعبية الشائعة المتجذرة المتلاعبة بحقول الايمان والغيب والأخلاق والأوهام والتطلعات والأشواق الروحية في الانسان.
هناك ثالثا الحزازات والولاءات القبلية والطائفية المذهبية والعائلية والجهوية التي لم يستطع لا الاسلام الجامع ولا قيم الحداثة الديموقراطية محوها من حياة العرب السياسية والاجتماعية... جميع تلك الاشكالات، وغيرها الكثير من المواضيع والسلوكيات المشوهة لانسانية الانسان ومجتمعاته، والتي جميعها تقف وراء ظاهرة جنون الجهاد التكفيري، لن تكفي لمواجهتها عبارات الشطب والغضب المؤقت والقلق الكاذب المنافق عند هذه الحكومة أو تلك أو عند هذه الجهة الاستخبارية أو تلك.
لماذا الأمر كذلك؟ لأن الدراسات والتحاليل النفسية والسوسيولوجية تؤكد بأن تلك الاشكالات والعوامل الدينية والثقافية والسلوكية والسياسية التي زرعت ظاهرة الجنون الديني الماثل أمامنا هي نفس الاشكالات والعوامل الكامنة في عقل ووجدان غالبية كبيرة من سكان أرض العرب. والفرق الوحيد بين هذه الغالبية من الملايين وبين البضعة ألوف من حاملي رايات داعش والنصرة وفروعهما هو أن تلك الاشكالات والعوامل قد تفجرت وظهرت كممارسات غريزية همجية الى السطح عند أولئك الاتباع، بينما هي مازالت في حالة الكمون والتخفي في أعماق الكثيرين منا بانتظار الفرص والظروف الملائمة لتنفجر وتظهر على السطح في أشكال لا حصر لها من الهمجية والجنون العنفي.
وهناك رابعا بالطبع قضايا الفقر والقمع الأمني والبطالة والتهميش والتمييز وغيرها الكثير.
هذا المشهد العربي العام المليء بما انتهت صلاحيته التاريخية، الموبوء بما لايتوافق وبما لايمكن أن يتعايش مع متطلبات العصر والكثير من قيمه الانسانية المعقولة المجربة، هو الذي يجب التوجه نحو معالجته بصور شاملة جدية عميقة شتى، حيثما يتجلى، ولدى كل حامليه وناصريه، ابتداء من الوالدين اللذين يعكسان كل أمراض محيطهما الاجتماعي ويعيدان انتاج الموروث الحضاري ويدخلان كل ذلك في عقل ووجدان أطفالهما، مرورا بالأستاذ المدرسي أو الجامعي الممارس لاجترار التراث، مرورا بعالم الدين المهووس بادخال كل ماهو هامشي غريب وشاذ وغير منطقي في فضاءات الدين البسيطة السامية المستنيرة المتسامحة، وانتهاء بشتى أنواع السياسيين المتاجرين بالدين في أسواق السلطة والأطماع والنهب والفساد.
ذلك التحليل النفسي والسوسيولوجي والفلسفي للفرد والجماعة، الذي سيكشف أوهام الثقافة العربية اليقينية، المطلوب معالجته للتراث كناقد ومتجاوز وتفاعله مع الحداثة بندية ونقد واضافات ابداعية 000 هذا التحليل لايمكن أن يتم وينضج الا في أجواء الحرية والأنظمة الديموقراطية التي طرح شعاراتها الكبرى شباب ثورات الربيع العربي في بداياتها.
قدر الجيل العربي الجديد أن يناضل، دون هوادة ودون التفات الى المثبطات التي تلقى أمامه، من أجل انتقال أمته التاريخي نحو الديموقراطية، ليس فقط لأنها مهمة بذاتها، وانما لأن وجودها شرط للبدء بذلك التحليل النفسي السوسيولوجي الذي سيكشف المسكوت عنه من أجل أن تصحو الأمة العربية وتستجمع قواها لتواجه العوامل الكثيرة التي فرخت داعش والنصرة وأخواتهما في الماضي والحاضر، والتي ان لم تعالج بمستوى تاريخي جمعي ستفرخ مستقبلا أولادهما وأحفادهما.
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع