«الماركة»

                                       

                           هند السليمان*

في إحدى حلقات مسلسل «الجنس والمدينة» تفاجِئ إحدى بطلات المسلسل صديقاتها بأنها أخيراً اشترت لنفسها حقيبة برادا. لتعلن فرحة ومتباهية أنها الآن تستطيع أن تمشي في شوارع نيويورك معلنة أنها امرأة ناجحة.

فبهذه الحقيبة ذات السعر الباهظ تُعلم الآخرين أنها امرأة استطاعت النجاح مهنياً حد الحصول على دخل يؤهلها لاقتناء «إكسسوار» بهذا المبلغ. فهي ليست مجرد حقيبة تقتنيها إحداهن لأن تصميمها أعجبها، بل رسالة تود إرسالها للآخرين. هذه الرسالة تحمل دلالات وقيم يتم تفسيرها من خلال الثقافة المنتجة، وكذلك المستقبلة لهذا الخطاب.

في السياق السابق، حقيبة برادا تعبر عن قيم النجاح والاستقلالية والمثابرة وأيضاً وبسبب أن المجتمع الأميركي استهلاكي رأسمالي فالنجاح مرتبط بدخل أعلى يتم التعبير عنه باقتناء منتج ما. لتصبح هذه المنتجات بمثابة المفتاح الذي يسمح للفرد بدخول أحد نوادي النخبة. وهذه النوادي تتنوع بتنوع المنتج المقتنى، فلكل طبقة أو جماعة منتجاتها/ ماركاتها الخاصة التي تعبر عنها.

في العصور الكلاسيكية في أوروبا كان الفرد غالباً ينظم للنخبة بسبب ما يحمله من اسم للعائلة. أما في العصر الحديث فالفرد ينظم للنخبة بما يحمله على كتفه أو قدميه من ماركة. هذه المقارنة ليست من باب السخرية أو التعالي بقدر ما هي محاولة للتأمل في الدلالات الرمزية لما نستهلكه. فإن كان في العصور الوسطى اسم العائلة يدل على حصول الفرد على تعليم و«تربية» أفضل، ما يؤهله ليكون أحد نخبة المجتمع، بتعريف المجتمع في ذلك الوقت، فإن هذا الزمن لم تعد العائلة والانتماء لعائلة ما المصدر الأساسي للانتماء للنخبة، بل أصبح إنجاز الفرد الذاتي طريقاً آخر، ولعل هذا أحد انعكاسات الفردانية. ومن هنا لعلنا نقارن بين تلقي الجمهور الأميركي لبرنامج تلفزيون الواقع لكيم كرداشيان في مقابل برنامج باريس هيلتون. فالأولى حصلت على كل هذه الحياة الباذخة بجهد فردي عبر حسن إدارة وتسويق ذكي للذات بغض النظر عن مستوى البرنامج وسطحيته، بينما باريس هيلتون تستعرض حياة وبذخ لم يكن لها دور وجهد فيه، وبالتالي هي حركت وأثارت قيم الاستهلاك والبذخ وحياة الرفاهية، ولكن لم تحرك قيم الجهد والنجاح الفردي المبني على العمل الدؤوب كما فعلت كرداشيان مثلاً. فهل يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت برنامج كرداشيان أكثر شعبية من برنامج هيلتون؟

لأحد علماء الاجتماع الفرنسيين ورقة بحثية يتسائل فيها: هل كانت ستنجح النسوية لولا مولينكس؟ سؤال جميل ويدفع للتأمل، ألم تساعد حبوب منع الحمل في إحداث قفزات في الخطاب والحراك النسوي؟ فكل منتج يُنتج وهو يحمل قيم معينة يعبر عنها، واستهلاكها يسهم في إعادة تشكيل القيم أو خلق قيم جديدة. ليصبح السؤال هنا، ما هي دلالة اقتناء الماركات في مجتمعات لم تنتج هذه الماركات وثقافتها؟ وبالتالي كيف فُسر أو ألبس هذا السلوك من دلالات ومعنى بما يتناسب والمنتج، وكذلك الثقافة المحلية؟ فمثلاً، ما الرسالة التي تريد طفلة في الـ12 من عمرها إرسالها عبر اقتناء حقيبة لوي فيتون؟ وهو أمر تتكرر مشاهدته في السعودية؟ لماذا يستخدم البعض الفيزا لاقتناء حقيبة، حقيقة هم لا يقتنونها، فهم وفقاً لوضعهم الاقتصادي لا يستطيعون اقتناءها لكن يستطيعون «استئجارها حد التملك» ما الذي يدفع هوسهم هذا؟ إن كانت في الغرب تعبيراً عن الوصول إلى النجاح، والنجاح يعبر عنه اقتصادياً، فبماذا يعبر هوس الماركات لدينا؟ حقيقة لا أملك جواباً ولكن تساؤلات وتأملات لظاهرة تحاصرك أينما ذهبت لتشعر أنك منبوذ إن لم تنضم لهذه «النخبة».

لعل أكثر الماركات التي لاقت رواجاً وانتشاراً هنا خاصة في الأعوام السابقة هي لوي فيتون. حقيقة لا أجد في منتجاتهم جمالية خاصة، بل حقيبة مصممة بشكل تقليدي بلا ألوان مبتكرة أو تصميمات مختلفة، لكنها حقائب تمتلئ من كل جهة بشعار «الماركة» وكأنها تصرخ نعم أنا ماركة وحاملي شخص مميز! لننسى أنها ماركة ولنتأمل في حقيبة يطبع أحدهم اسمه عليها مئات المرات ثم يشتريها آخر بآلاف الريالات ليصنع لنفسه مكاناً في نادي النخبة. هناك جانب عبثي بلا شك في الأمر، ولكن كيف استطاع صاحب ذلك الاسم أن يبيع هذا الوهم؟ وهل نحتاج إلى هذا الوهم ليملأ فراغ حياتنا بمعنى ما؟ هل غياب المعنى يجعلنا نبحث عن الاسم؟ ما الذي يعنيه الاسم؟ من يقرر أن هرمز أكثر وجاهة من شانيل مثلاً؟ ولماذا يصعد اسم إحدى الماركات عالياً كدليل على نخبة النخبة وبعد فتره يتوارى إلى المركز الرابع أو الخامس ليصعد اسم جديد؟ ما الذي نسعى إلى الحصول عليه خلف لهاثنا وراء اقتناء ماركة ما؟ إن كانت الفردانية في الغرب أسهمت في انتشار مفهوم الماركة فهل انتشارها دليل على نمو الفردانية بين جوانبنا دون أن نعي؟ أم أن للفردانية وكذلك الماركة سياقاتها المختلفة التي قد لا تتقاطع لدينا بالطريقة نفسها؟ هل خف وهج اسم العائلة لدينا كدليل نخبوية وأصبح اقتناء الماركة سبيل آخر لذلك؟ وأخيراً، بالنظر إلى كثافة اقتناء الماركات في مجتمعنا فهل حقيقة نحن نتحدث عن نخبوية أو أمر آخر يتطلب فحصاً وتحليلاً مختلفاً؟ لا أملك إجابة لهذه التساؤلات ولكن التأمل فيها مثير للخيال.

ختاماً للمقال سأحكي قصة شخصية كمثال على ورطة الماركة. في محاولة لفهم معنى أن تكون نباتي ولأسباب أخرى شخصية قررت تجربة ذلك. نجحت في تنفيذ قراري بسهولة على رغم عشقي للحوم، في المقابل، منذ عامين قررت أن أخوض تجربة أخرى وهي عيش حياة خالية من مفهوم الماركة بحيث لا أقتني أي منتج ذي ماركة شهيرة. اعترف أنني لم أنجح بعد، فيظل للماركة وهجها وللمجتمع المحيط اشتراطاته وضغوطه، ولكن ما يشجعني دوماً لمحاولة الاستمرار بهذا القرار فكرة أنه بنفس سعر شنطة «ماركة» واحدة أستطيع حضور حفلة بالية في لينكون سنتر بنيويورك، والثانية أكثر لذة. فهل يكون غياب اللذات أو قمعها في حياتنا سبباً، من جملة أسباب، أسهم في تكثيف قوة وهج الماركة لدينا؟ قد يكون هذا مجرد سبب شخصي لمقاومة ضغط الماركة فماذا عن الأسباب الأخرى لاندفاع الآخرين أو لمقاومتهم للماركة؟

* كاتبة سعودية.


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

937 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع