بقلم د. عبدالستار الراوي
(1)
نزار السامرائي العائد من الموت، هو الذي رأى، رأى ضفة الكون الأخرى، طوى من عمره عشرين عاما مصلوبا على جدران ولاية الفقيه .. مقيما في جحيم الآيات العظام؛ متنقلا بالقوة القاهرة بين قصور اللاهوت المنيعة من زنزانة لأخرى ومن سجن لسجن، وعلى مدى الايام والليالي وتوالي الشهور وتراكم السنين؛ أمضى الأسير العراقي عقدين من عمره على حافة العدم؛ مابين سياط الجلادين وعنجهية الطغاة، قد تعجز المتون والأسفار التقاط مرئيات التعذيب وتفاصيل الانتهاكات المروعة التي واجهت الاسرى على درب الآلام؛ لكن السامرائي بعقله اليقظ وقوة إرادته لم يدع جزئية تسقط من ذاكرته أو تفلت من دفتر يومياته .. وبرغم المشاق المستحيلة إحتفظ المقاتل الاسير بأبجدية التجربة من الألف إلى الياء، مزودا بيقين الوطن المؤكد، بأن يستعيد العراق برهان الأمل ..
(2)
في كتابه (في قصور آيات الله)، يدون الدكتور نزار السامرائي نصا دراميا ينفتح على حرائق الروح، ومكابدات العقل، تحت وطأة تجربة الردى العاجل والموت المرتقب.
إن حال الأسرى العراقيين داخل الاقفاص الإيرانية أشد مضاضة على النفس من ويلات الحرب؛ فسقوط السلاح من يد المقاتل، والوقوع في الأسر قد تفوق معاناته الإنسانية وجع الموت في ميدان القتال.
مذكرات الجراح الغائرة،جعلتني أستعيد وصية الاسير العراقي التي أخفاها بين ثنايا غلاف (المصحف الكريم)لإيصالها إلى أهله وذويه.كتبها أسير عراقي وهو يودع الحياة .. جراء التعذيب .. وكانت تلك آخر كلماته ..
بسم الله الرحمن الرحيم، أودع وصيتي في كتاب الله العزيز .. الشاهد الخالد في كل زمان ومكان .. بأني مافرطت قط في ولائي للعراق ولا في إيماني بأمتي العربية .. ومن أجلهما؛ تحملت ما تحملت من ضروب الآلام وصنوف التعذيب، ما تئن من وطأته الجبال .. كنت وما أزال والموت توأمان .. الموت كان رفيقي منذ لحظة الاسر عام 1983 وحتى الساعة الاخيرة التي أدون فيها هذه الوصية اليوم العاشر من شهر حزيران عام 2001 .. أشك أن الذين حققوا معي وتوالوا على تعذيبي مسلمون، أو أن أحدا منهم قرأ سورة من القرآن أو أقام صلاة .. الحقد الدفين على العراق والعرب يجري في عروقهم مجرى الدم، يسخرون من رموزنا الإسلامية الجليلة، ويجاهرون في كراهيتهم للامة التي أنجبت محمدا وعليا والحسين عليهم السلام .. فالخميني هو الدين كله .. وما دونه باطل .. لقد رأيت ولمست وسمعت من السلوك والافاعيل والإفتراءات ما يشيب له الولدان .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمدا رسول الله؛ عليها أحيا ومن أجلها أموت .. حفظ الله العراق وأهله .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. محمد .. مدينة الحرية الثانية دار .. )
(3)
يفتتح الدكتور نزار السامرائي النص؛ بجملة من الأسئلة الملتاعة؛هل كان بالإمكان تجنب حرب الثماني سنوات والركون إلى حل يرضي الطرفين؟
ومن هو القادر على أنْ يفعل ذلك؟ وكيف يستطيع إنجاز مثل هذه المهمة؟
وهل كان بالإمكان تجنب المآسي الإنسانية والمادية التي رافقتها ونجمت عنها؟ ثم أضافت إلى المجتمع العراقي كما المجتمع الإيراني، أمراضا وعقدا هي الإفراز الطبيعي لأية حرب، خاصة إذا كانت بحجم حرب الثماني سنوات والنيران التي أشعلتها، والتي أتت على كل شيء مرت عليه أو بقربه، ودمرت ركائز اقتصادية كانت قائمة، أو مشاريع في طريقها أنْ تصبح شواهد في كلا البلدين، وعطلت برامج التنمية فيهما على حد سواء.
قد تكون هذه الأسئلة كما يقول الكاتب؛ من قبيل ما يصعب إعطاء جواب بنعم أو لا، ما لم تتم متابعة ظروف العلاقة المعقدة بين بلدين لم يختر أيّا منهما جيرة أزلية وأبدية من حيث الزمان، وتصل إلى 1200 كيلومتر في حدود مشتركة، لم يشهد طرفاها في علاقاتهما الثنائية استقرارا إلا لفترات قصيرة، ثم لتعود إلى نقطة التوتر وبدرجة أشد مما سبق، رغم وجود أسباب جدية وجوهرية تقضي بتطبيع العلاقات والوشائج، التي يمكن تلمّسها بسهولة، وبإمكانها ربط أواصر وطيدة ينبغي أنْ تسود بين أي بلدين متجاورين، على أساس المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة واحترام خيار كل منهما وعدم التدخل في الشأن الداخلي.
(4)
كان السامرائي أثناء لحظة الأسر الأولى قد اصيب جراء الهجوم الايراني، لكنه أمام مسؤولية الـ(نحن) حاول أن يتناسى الالم المبرح؛ متفوقا على (ذاته) تمكن من إنقاذ جريح عراقي كان معلقا بين الموت والحياة، وكان بأمس الحاجة ليد تزحزحه عن خط التلاشي وتقربه من الأمل، ( استجمعت كل ما أحمله من بقايا قوة، لإنقاذ الجريح، دون أنْ أعرف اسمه أو المدينة التي ينتمي إليها، توكلت على ألله، وأنا أكبر الأسرى عمرا في هذه المجموعة، وأنا الوحيد بينهم كنت جريحا، ولإحساس بوحدة الجرح، كان يجب أنْ أضرب لهم مثلا في التآزر والتعاضد في الظروف العصيبة، ولحسن حظي في هذا المقطع، فقد كان الجريح نحيفا جدا، حملته بعد أنْ ساعدني النقيب طالب مناجد، ولقد حاول أنْ يحمله بدلا عني، وطلب من الحرس الإيراني ذلك، ولكنّ الأخير أصر على أنْ أحمله أنا فقط، كان الحمل يزداد ثقلا مع مرور الوقت واستمرار المسير، وبعد حوالي أربع ساعات، بين صعود ونزول في أخاديد المشداخ، وبين جلوس وسير، لاحت بارقة أمل بلحظة الفرج الآني، فالمرء يعيش أحيانا محنة تنسيه ما هو أصغر منها، بل أحيانا لشدة وطأتها، تمنع مجرد التفكير بما هو أكبر منها، خاصة إذا كان ضغطها المباشر لم يبدأ بعد، من بين كل المعالم والشواخص، برزت أمامي خرقة بيضاء تحمل هلالا باللون الأحمر، مرفوعة على سارية ملتوية فوق خيمة رثة، يا لها من لحظة عظيمة، إنّها بشارة خير لمن أوشك أنْ يتهاوى فتحامل على جرحه وجرح من يحمل على ظهره، بل هي ساعة عرس للمحمول أكثر منها لي لأنّه سيجد قليلا من الضماد أو المسكنات، حينما أصل سأنتصر على بدني وطاقتي المحدودة، وبقدر أكبر سأنتصر على العسكري الإيراني ومن خلفه مؤسسته، حينما تعمد إيذائي بمهمة سأبقى أعتز بأنّني أنجزتها، وحينما أصل إلى الخيمة، سأضع جنديا عراقيا وأتركه هناك، كنت أعرف أنّ الألم سينتهي في لحظة ما، ولكنّ السعادة بما فعلت ستبقى خالدة معي،وصلنا الخيمة متهالكين تماما، بل ربما كنت في آخر ما اختزنته من طاقة، وتحادث الجنود الإيرانيون مع بعضهم، وبلغة الإشارات فهمت أنّ مهمتي انتهت عند الخيمة، جاء بعض الجنود وساعدوني بوضع المصاب على الأرض، ثم ضمدوا لي جرحي، وهناك تركت الجريح العراقي، تمهيدا لنقله إلى المستشفى وعيناه ترنو نحوي بالشكر دون أنْ يتمكن من التحدث معي بعد ذلك، واصلنا مسيرتنا تحت حراسة مشددة، وحين وصلنا إلى أحد المقرات الخلفية للجيش الإيراني، تم توزيع بعض كسرات من خبز يابس، وشيئا من الجبن،
(5)
بعد إنقضاء عشرين عاما من الموت المؤجل عانى فيها السامرائي صنوفا من التجارب القاسية في زنازين آيات الله، بعد كل هذه السنوات يكثف الاسير المناضل تجربة العذاب المهين بحكمة بالغة ، فقد إستحالت يوميات قلاع الموت الحصينة إلى ( جامعة الحياة) ، ثقافة من طراز فريد ؛ رصيدها الخبرات العميقة والتجارب المفتوحة التي تتسع لكافة أشكال التناقضات في الامزجة والنفوس وفي الصورات والتصديقات ؛ لم يكن إكتشاف الواقع أمرا ميسرا أو النزول إلى حقائق الواقع متاحا قبل تجربة الاسر والتطويق والحصار ؛ جامعة تلتئم فيها مرئيات وخبايا لاحصر لها ، يتعذر تلقي معارفها وفنونها في الاكاديميات النظرية أو حتى التطبيقية ، تلك هي جامعة الحياة الواقعية ، فالتجربة غنية وفيها أهمّ الشهادات التي يمكن أنْ يحصل عليها الإنسان، الجميع طلبة والجميع أساتذة، والحاذق النابه من يستطيع أنْ يكونهما معا، كي يتزود بالمعرفة التي لم تسعفه حياته السابقة للحصول عليها، وينقل ما يريد مما اختزنه للآخرين، وخاصة بعد أنْ تعطلت سبل المعرفة فالكتاب أي كتاب ممنوع من الوصول إلينا، ولذا كانت الخبرات تنتقل وتكتسب من الخزين الذاتي للأسرى، وليس كل من يمتلك معرفة في أحد حقولها، قادرا على نقلها، أو راغبا في ذلك، بالمقابل ليس كل من يريد الحصول على المعرفة، قادرا على اكتسابها فالقدرات الشخصية في الأخذ والعطاء، متفاوتة وبدرجات تبدو مذهلة أحيانا..
(6)
وإذا كانت المعركة الحربية قد انتهت بالنسبة للأسير من لحظة سقوط البندقية من يده، فإنّ تحديات معركة مقاومة بربرية ولاية الفقيه وقهر وحشة الزنازين أصبحت جبهة سياسية، تتطلب مهارات خاصة في إدارة صفحاتها، حماية للأسرى، بالتعاضد المتبادل، وليس بالوصاية المفروضة من بعض الرتب الأعلى التي قد لا يصمد حامليها، مما قد يجر وراءه آثارا سيئة على مجتمع الأسرى، يستغله بعض أصحاب النوايا والأغراض المقصودة،وهنا برزت قضية دور التنظيم الحزبي في مجتمعات الأسرى، والتي ركّزت على مقولة إنّّ الضباط الذين أخفقوا في إدارة المعركة الحربية في ميادينها،فإنّ تسليم القيادة لهم بمعركة من طراز جديد، يعد تفريطا بمصير الأسرى، ولم تخل هذه الدعوة كسابقتها قضية القدم العسكري، من نزعات لا صلة لها بالموقف الوطني والمبدئي، وتنطبق عليها احتمالات سقوط الكبار من القادة الحزبيين، وما يجره من توظيف لإسقاط الآخرين، التنظيم الحزبي كان يريد انتزاع دور المسؤولية من القدم العسكري، في وسط لا قيمة فيه لأي قدم، ولكنْ هناك رغبات في إذكاء صراعات جعلت الأسرى يدفعون ثمنها باهظا.
هذه الأوضاع كانت كفيلة بتفجير المشكلات بين الأسرى لأتفه الأسباب، وهذا هو مجتمع السجون عموما، ومجتمع الأسرى بشكل خاص، وأخذت الإصطفافات الخاطئة تبرز للعيان، ومن بين هذه الإصطفافات، الانتماءات الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية، وكذلك الانتماء لصنوف الجيش أو الدورات في الكلية العسكرية، وظل الجوع والقمل والتعذيب في هذا المعسكر، هموما مشتركة لأسرى فرقتهم المشارب المختلفة.
1105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع