صادق الازدي* وذكريات عن حلاق المحلة!
يصح القول إن”الحلاقة”واحدة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان، وقد يستغني إنسان اليوم عن شراء حاجة من الحاجات، كما قد يقاطع أكلة أو فاكهة أو خضرة، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن مراجعة الحلاق الذي يشذب شعر رأسه، أو يزيل لحيته أو يقوم اعوجاج شاربه، وليس بين العالمين كلهم من لا يفعل ذلك مع وجود ماكنة الحلاقة اليدوية والكهربائية لحلق اللحى،ولكن تظل بعض لمسات أصابع الحلاقة ضرورية للرؤوس، وبضمنها رؤوس الفلاسفة الذين أطلقوا شعور رؤوسهم!.
مهنة صعبة!
ولو عدنا الى العهود القديمة، وفكرنا بالأدوات البدائية التي كانوا يستعملونها في الحلاقة، عندها سندرك كم هي صعبة مهنة حلق الرؤوس واللحى في تلك الأيام الخوالي، بل حتى لو عدنا الى الوراء.. الى القرن التاسع عشر لوجدنا ان الحلاقة كانت تتم بصعوبة بالغة، وان الذي يشع رأسه بين يدي الحلاق لا يمكن ان تتم حلاقة رأسه ووجهه الا بعد اصابته بعدة جروح تسيل منها الدماء وقد انتشرت في الوجه والرأس!.
وإذا كان الإنسان اليوم يضع رأسه بين يدي الحلاق دون ان يرهبه ”الموس"، فان الحلاقة قديما كانت مثل العملية الجراحية، ولا تتم إلا بعد مشقة!.
الحلاقون القدامى
وعندما نذهب اليوم إلى الحلاقين وهم يعملون في صالوناتهم وبعضها تستقبل أكثر من زبون في آن واحد، وتحلق لهم رؤوسهم ولحاهم، فان الحلاقين القدامى لم يكونوا كذلك!.. كان لكل محلة حلاقها وهو من سكانها، كما كان في معظم أسواق المدن بعض الحلاقين، وكذلك الأمر بالنسبة للشوارع الرئيسية، ولكن الدكاكين التي كانوا يعملون فيها غاية في البساطة، فليس في دكان الحلاق إلا المرآة والكرسي والمقعد الواسع الذي يجلس عليه بعض الزبائن، ثم أدوات الحلاقة وضرورياتها!.
الحلاق المتجول
وكان بعض الحلاقين يعملون وليس لأي منهم دكانه، فأنهم يتجولون في الأزقة والشوارع والأسواق، وهم يحملون”عدتهم”على بطونهم وقد الصقوا المكان المخصص لوضع أدوات الحلاقة على أحزمتهم عن البطن، او أنهم يضعونها في حقائب يدوية صغيرة، كما يحملون معهم مقاعد صغيرة يتم طيها وحملها باليد!.
وكان بين سكان محلتي – القره غول – احد اولئك الحلاقين واسمه ”جرمط"، كما كان غير بعيد عن المحلة في منطقة”گهوة حجي عزيز”يقوم دكان”الحلاق حوكي”وقد كنت من زبائن الثاني في طفولتي، وان كان الأول قد علق بذهني كذلك لانه كان لا يكتفي بالحلاقة، بل كان يمارس”الحجامة"، ولست ادري هل كان يؤدي”خدمات طبية”اخرى مثل”حوكي”ام لا!.
أطباء
فان”حكومي الحلاق”مثل غيره من حلاقي أيام زمان كان يحلق الرؤوس واللحى، ويقوم بـ”ختان”الأطفال، كما كان يعالج بعض الأمراض ويصف الأدوية لها، وكان يتم الحصول على الأدوية من العطارين القريبين او من زملائهم في”سوق الشورجة"، ومعظم تلك الأدوية تتألف من النباتات والأعشاب.
وكان”حوكي”مثل غيره من الحلاقين، لا يقوم بالحلاقة وختن الأولاد حسب، بل كان يقوم بالحجامة كذلك، ولا لوم عليهم، فان اوضاع التخلف هي التي أعطتهم الحق في القيام بكل تلك الأعمال بسبب الجهل العام، والفقر السائد! فالحلاق كان لا يتورع عن ان يكون من أطباء الأسنان، فيخلع لك السن الذي تتألم منه.. وبـ”الكلابتين"!.
دكاكين حلاقة حديثة
وبعد قيام النظام الملكي، وتبليط شارع الرشيد، نشطت الحياة في”منطقة الميدان”فقد قامت في تلك المنطقة عشرات الفنادق والملاهي والدكاكين الحديثة للحلاقين والمخازن، وكان من أشهر الحلاقين في الميدان صالون عزت وصالون ياس، وكان معظم رجالات الدولة يحلقون رؤوسهم ولحاهم عندها، وكنت تجد في”صالونيهما” قبل حلول المساء بعض زبائنهما من العسكريين والمدنيين الذين دخلوا التاريخ بحكم اشتراكهم في الوزارات السابقة أو اشتراكهم في الحركات السياسية!.
وقد حل محل”عزت وياس”بعض الذين تعلموا منهما، وكان آخرهم ”محمد مكي”الذي ترك العمل مؤخرا لاسباب صحية، وقبله فعل ”مثله” عبدالله نصيف"، وهما من اشهر حلاقي الميدان، وكان يعمل في”الحيدرخانة”الحلاق كريم عباس – رحمه الله – وكان يقوم بحلق راس الملك فيصل الثاني.!
صالونات نسائية
ولم تكن صالونات الحلاقة النسائية معروفة عندنا، وقد تم فتح بعضها أول الأمر في”منطقة السنك”حيث كانت تقوم اهم الفنادق في حينه مثل:”زيا وسمير اميس وريجنت بالاس” وغيرها، ولما كانت نساء الانكليز العاملين في بغداد، وبعض الممثليات الاجنبية في العاصمة يحتجن الى من يحلق لهن شعورهن بعد ان شاعت في اوروبا موضة قص الشعر اثناء الحرب العالمية الاولى، فقد تم بعض الصالونات النسائية، وصارت بعض العراقيات من روادها بعد ان صرن يقصرن شعورهن، ثم صارت تلك الصالونات للتجميل اكثر مما هي لقص الشعر، وتكاثرت كصالونات الرجال التي نجدها انيقة، وواسعة، ونظيفة، وفي معظم مدننا، او كلها على الاصح!.
*صحفي عراقي راحل.
ج. الاتحاد 1989
773 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع